عشرون عاماً مضت بعيداً عن الوطن الأعز والأغلى والأقدس فلسطين، وقد كنت قبلها أنعم بالرباط فيه، وأمتع ناظري بالأرض الفلسطينية المباركة، وأجول قبل السجن في كل جنباتها، وألمس ترابها العقيق، وأتنسم عبيرها العبق، وقد كنت قبلها رئيساً للكتلة الإسلامية بجامعة بيرزيت، فطفت فترتها وأنا ابن مخيم جباليا بقطاع غزة، على العديد من قرى وبلدات ومدن الضفة الغربية، فلم تبقَ مدينةٌ لم أزرها، ولا قريةٌ لم أبت فيها، وكأني أغترف من الأرض العزيزة التي سأطردُ منها عما قريب قسراً وعنوة، وقد منَّ الله علي بزيارة القدس، والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، والطواف في أزقة وحواري البلدة القديمة، قبل أن تطوقني جدران السجون وأسلاك المعتقلات، وتحول بيني وبين الوطن والأهل والأحبة والذكريات. ففي مثل هذه الأيام قبل عشرين عاماً عدنا للتو من مدينة القدسالمحتلة، وبالتحديد من شطرها الغربي، حيث المحكمة العليا الإسرائيلية، التي صادقت على قرار الإبعاد، وأعطت الضوء الأخضر للتنفيذ، وقد كنا أربعة من الأخوة، مقيدين كل اثنين معاً في سيارةٍ منفصلة، فكان أخي مصطفى القانوع "أبو سائد، الذي شرفت بصبحته سنيناً، وعملت معه طويلاً، فكان لي أباً حانياً، وأستاذاً مربياً وموجهاً، ينظر من نوافذ السيارة العسكرية المصفحة، والمسيجة بقضبانِ الحديد، وهو يرى شوارع مدينة القدس، وقد جن الليل، وأرخى سدوله على كل مكان، فكان يحاول أن يطيل النظر إلى مدينة القدس الآخذة في الابتعاد وشوارعها، فقد بات على يقينٍ أنه سيفارقها بعد قليل، وهو أستاذ اللغة العربية، الأديب والمتأدب، حافظة الشعر، وراوية عيون الأدب، المرهف الحس، الشفاف لكل كلمةٍ ومعنى، والمدرك لحقيقة ما يجري وما يدور، ولكن عيناه كانتا تدور في محجريهما وهو يردد قول الشاعر ... أقول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة والضمارِ تمتع من شميم عرارِ نجدٍ فما بعد العشيةِ من عرارِ وقد بدا الحزن في كلماته، والأسى في آهاته، ساهماً والدموع تملأ مآقيه، ولكنه كان يردد أبيات الشعر وهو يحاول أن يطيل النظر من نوافذ السيارة، وكأنه يدعوني معه لنودعَ الأرض المقدسة، فقد يطول غيابنا عنها، وحز في نفسه كثيراً وهو يوشك على الرحيل، أن أرضنا أصبحت نهباً لكلِ غريب من شذاذ الآفاق ومناصريهم الغرباء، ولكنها محرمةٌ على أصحاب الحق، وهو يردد قول الشاعر ... أحرامٌ على بلابله الدوحُ حلالٌ على كلِ طيرٍ من كلِ جنسِ كان يحس أنهم يريدون لنا أن نجتث من أرضنا، وأن ننبت عن مجتمعنا وأهلنا، وأن نفارق أرضنا المقدسة الطاهرة، وكانوا يسابقون الزمن، ويلاحقون الجلسات، ويتابعون الجهد، في سباقٍ محمومٍ للطرد والاجتثات، ولكنهم سمعوا منا جميعاً في محكتمهم غير العادلة، أنكم قد تستطيعون طردنا من أرضنا، ولكننا يقيناً بإذن الله يوماً سنعود إليها، ولكننا لن نعود إليها فرداى كما أبعدنا، بل سنعود إليها جميعاً فاتحين محررين، ويومها لن يكون لكم وجودٌ في أرضنا، ولن تكون لكم دولة تحتمون بها من عدل أصحاب الحق العائدين، وقلنا لهم بعالي الصوت، أنكم دولة جورٌ وظلم، وأن كيانكم قد قام على الاعتداء والاغتصاب والعدوان، ويوماً ما سندمر كيانكم، وسنخرب بيوتكم، وسنطردكم من أرضنا، لنعود إليها وحدنا. قبل عشرين عاماً، فجر يوم الأربعاء، التاسع من يناير عام 1991، فرضت قوات الاحتلال الإسرائيلي حظر التجوال على قطاع غزة بأكمله، بينما كان مئاتٌ من الجنود الإسرائيليين يملأون ساحة السجن المركزي بغزة "السرايا"، قبل أن يقتادونا نحن الأربعة، بسياراتٍ عسكرية إلى مغتصبةٍ كانت لهم يوماً في غزة قرب النصيرات، فارتحلوا عنها وعادت لنا، ومنها نقلتنا فجراً في تمام الساعة السادسة صباحاً طائرة هيلوكبتر عسكرية إسرائيلية، لتحط بنا بعد ساعة وخمس وثلاثين دقيقة في منطة زمريا اللبنانية، وأنزلنا من الطائرة العسكرية، وقد كنا مقيدي الأيدي، وأكياس القماش الخشنة تطبق على رؤوسنا، وتضيق أنفاسنا، لننقل عبر سياراتٍ مدنية لبنانية كانت تتبع جيش لحد، أوصلتنا إليها سياراتٌ عسكرية إسرائيلية، آمرةً سائقي السيارات اللبنانية أن ينقلونا إلى الجانب الآخر من الشريط الحدودي اللبناني الذي كان محتلاً، لننظم إلى مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، المحرومين من وطنهم، والممنوعين من العودة إليه، لنبقى مثلهم نحمل الحب والحنين والشوق إلى أرضنا المباركة. عشرون عاماً مضت بعيداً عن الوطن فلسطين، وقد أبعدنا منه مجبرين، وطردنا منه مكرهين، وحملنا منه قسراً وعنوة، ولكننا حملنا معنا من غزة إلى أهلنا في كل مكان عبق الانتفاضة المباركة، وقصص أطفالها الأبطال، وسير المقاومين فيها، وحكايا أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورسمنا لأهلنا ووطننا صورةً رائعة تروي صمودهم وجهادهم وعطاءهم، ونقلنا للعالم كله عزة أهلنا، وقدرتهم على الصمود والثبات والمقاومة، وأن شوكتهم مازالت حادة، وإرادتهم صلبة، وعزمهم كالحديد لا يفل، وأن أحداً لن ينال منهم، مهما بلغ في قوته، وتمادى في ظلمه وغيه، ونقلنا لأمتنا صوراً عن ترابط شعبنا وتآلفه، وعن وحدته وتراص صفوفه، وأن العدو يحاربنا جميعاً، لا يفرق بيننا، ولا يميز بين جموعنا، إذ أن همه أن يفرغ الأرض منا طرداً أو قتلاً لا فرق. عشرون عاماً مضت بعيداً عن الوطن، الوطن العزيز الأبي الغالي، الحزين المكلوم الجريح، الوطن الذي يعكس خيره على أهله، ويصبغ سكانه بقداسته، ويمنحهم عزاً قل أن يظاهى، وفخراً يحلم به الكثيرون، ومجداً يسامق الجوزاء في علياءها، فحمداً لله أن منحنا الفرصة لنكون من أهل فلسطين المرابطين، ولأن نمتع ناظرينا بالأرض المباركة، وأن نطهر أنفسنا بالسجود له تعظيماً وتسبيحاً في باحات المسجد الأقصى المبارك، ونحمده أن جعل لنا قبل أن نموت سهماً به نقاتل، وفرصةً بها نقاوم، فكان لنا شرف الوجود، وعز النضال، وفخر الثبات في فلسطين المباركة، فإن كان لنا شرفٌ ندعيه، ومفخرةٌ نعتز بها، أننا حملنا يوماً حجراً قذفنا به الجنود الإسرائيليين، وصدحنا بكلماتٍ صادقاتٍ في سوح المقاومة، وداخل أسوار السجون والمعتقلات، وعلى منابر المساجد ومنصات الطلبة، وقد أصابنا الكثير مما أصاب شعبنا، ضرباً، واعتقالاً وتعذيباً وإهانة، قبل أن تكون الخاتمة إبعاداً وطرداً، ظانين أنه خلعٌ واجتثات، ولكن حقيقته انغراسٌ في عمق أرضنا أكبر، وثباتٌ على حقنا أكثر. عشرون عاماً مضت بعيداً عن الوطن، لكن جذورنا هناك، وآمالنا هناك، وحقوقنا باقيةٌ هناك، وأهلنا الصامدون هناك، ففي غزة مازال بيتي، وبقايا مخيمي، وفيه قبر أبي، وقبر أخي الشهيد، وأخي الفقيد، وفي جباليا مازالت أمي وأخي وأختي، كلهم يتطلعون بأملٍ ويقينٍ إلى الغد والفجر الآتي، حاملاً معه تباشير نصرٍ غير موهوم، نحلم أن نعود فيه يوماً وأهلنا وشعبنا كله، إلى ديارنا وبيوتنا وقرانا، أعزةً كرماء، وقد حررنا أرضنا، واستعدنا حقوقنا، وطهرنا مقدساتنا، لنستعيد معهم ذكريات الوطن والأهل والأحبة، ونبني معاً وطناً حراً أبياً عزيزاً مطهراً من كل رجس، يصدح فوق كل مآذنه العالية نداء ... الله أكبر الله أكبر. دمشق في 11/1/2011