زار المغرب مؤخرا ، الشاعر الفلسطيني طه المتوكل ، فاسترقنا منه بعض اللحظات لكي نستدرجه إلى أسئلة «الاتحاد الاشتراكي» أملا في أن نتيح لقرائنا فرصة التعرف على أحد أهم الأصوات الشعرية الجديدة في القصيدة الفلسطينية المعاصرة، وفي الاقتراب من خصائص تجربته كشاعر وفاعل ثقافي لا يخفي التزامه بالخط الوطني الفلسطيني. جرى الحوار، في أحد فنادق الرباط، حيث تحدث المتوكل بثقة ومحبة وشفافية عن الشعري ، وعن علاقة الكتابة بالممارسة السياسية ، سواء من داخل تجربته الشخصية أو من خلال استحضار بعض التجارب الشعرية الفلسطينية التي سبقته في الحضور والانتاج أو تلك التي يعاصرها داخل جيله أو الجيل الذي جاء بعده. المتوكل طه ، في حواره مع «الاتحاد الاشتراكي» ، يقدم أيضا بعض المعطيات حول السيرورة التاريخية للشعرية الفلسطينية ، وقضايا ثقافية ومعرفية أخرى. نتعرف عليها في هذه اللقاء.. { جميل هذه القراءة النقدية الذاتية لتجربتك وتجربة جيلك،هي -أيضا- تعبير عن لحظة وعي شعري جمالي، فني، من أين انبثقت لحظة الوعي هاته، على الأقل في تجربة المتوكل طه؟ هل من خلال قراءة للمتن الشعري العربي والمتن الشعري الإنساني مثلا؟ طبعا، لأن الكتاب الجديد الذي كان موجودا في مكتبات الجامعات المحلية الفلسطينية تحت الاحتلال، كان مطبوعا سنة 1966 . وكان الاحتلال يمنع -نهائيا- إدخال أي كتب، ولم تكن -وقتها- وسائل تقنية كالإنترنيت والفضائيات مثل اليوم حتى نطلع على ماينشر ويكتب. وبالتالي، أنا لما أقرأ تجربتي وتجربة زملائي، الذين -نحن الهنودَ الحمر- ولدنا في فلسطين تحت الاحتلال ،أحس أن تجربتنا كانت كتابة على الماء.كانت صراخا. ونحن في السجن كنا نصرخ. ونحن في المعتقلات كنا نصرخ. كما عند الحواجز، وفي الجامعات،وفي القصيدة أيضا.لم يكن هناك شعرٌ حقيقي. لهذا السبب، أتمنى لو أجمَعُ كتبي الأولى وأحرقها لأنها لم تكن شعرا. كانت صراخا،لكنها كانت ضرورة، شهادة، كان لابد منها ربما حتّى نستيقظ ونتنبه،وندرك أن ثمة شيئا آخر اسمه الشعر وليس هذا الذي نقترفه. { كيف قرأت هذا الجيل الشعري عرب48، ما نسميه بالمناطق التي احتلت في 1948،محمود درويش تحديدا، سميح القاسم،وتوفيق زياد،وبالأخص تجربة محمود درويش التي ألقت بظلالها مع المشهد الشعري الفلسطيني. كيف حاورت هذا النص،اتخذته مرجعا،خاصمته،رافقته،صاحبته.. أي نوع من الحوار الشعري والجمالي.. حتى السنة الأخيرة في المدرسة التوجيهية لم نكن نعرف شيئا عن الشعر الفلسطيني الذي كان يمور سواء في الخارج أوفي 48 ، ذلك أن المنهاج المدرسي، كان مسيطَرا عليه من قبل الاحتلال، وتم تفريغه من محتواه الوطني والإنساني والنضالي،وبالتالي بقينا عميانا نتعلم مايريد الاحتلال أن يعلمنا إياه، مع قليل من المداخلات من قِبل بعض الأساتذة الذين كانوا يتعرضون للملاحقة والطرد والتعذيب إلى أن دخلنا الجامعات المحلية. هناك مفارقة أخرى، فالاحتلال لم يسمح بفتح جامعات داخل الوطن المحتل إلا بعد عام1972وبدأت الجامعات بالعمل -فعليا- في سنة 1974 .وإذ تنبه الاحتلال إلى أن بعض الطلبة يذهبون بعد التوجيهية إلى خارج فلسطين فيلتحقون بصفوف الثورة،أراد أن يبقي هؤلاء تحت المجهر الإسرائيلي، فسمح بفتح ست جامعات، لكنّ السحر انقلب على الساحر، فأصبحت هذه الجامعات معاقلَ ومراجلَ لإعادة صهر الطلبة، وإعدادهم إعدادا نوعيا مختلفا ببيرزيت والنجاح أو بيت لحم والخليل والقدس وجامعة الأزهر والجامعة الإسلامية.هذه الجامعات -عمليا- هي التي خرّجت الجيل الذي فجر الانتفاضة الكبرى عام 1987، وهذا ما يفسر لماذا تأخرت الانتفاضة داخل الوطن عشرين عاما ، أي من 1967 إلى1987 . كان لامناصّ من وجود كادر يستطيع أن يفجر ويقود الانتفاضة.هذا الكادر جاء من خريجي الجامعات المحلية ومن خريجي السجون الإسرائيلية، وبالتالي نحن في الجامعات، بدأنا نطلع على أدب جديد اسمه: أدب المقاومة. أول مرة قابلت فيها سميح القاسم وعبد اللطيف عقل وفدوى طوقان وإميل صبحي كانت بجامعة بيرزيت. كنت في مجلس الطلبة، وقد كنت المسؤول الثقافي عام 78 . وعندما بدأنا نطلع على نصوص هؤلاء، صرنا نقلدهم ونترصد خطاهم بصراحة ووضوح.لكن اطلاعنا على الأدب السوفياتي المترجم ،الذي كان يصلنا -بطريقة أو بأخرى- فتح لنا بوابة كبيرة ربما ساعدت بشكل من الأشكال على أن نتمثل روح هذا الأدب،ويساعدنا في أن نكتب ما كتبنا رغم أننا -أيضا -كنا نصرخ أكثر، مما كنا نكتب شعرا.أنا أتحدث بصراحة.وكان هناك في الضفة والقطاع حتى عام 83 أكثر من 123 شاعرا،هؤلاء تساقطوا وأنا أعْزي سبب تساقطهم، وفيهم مواهبُ حقيقيةٌ، لعدم وجود حاضنة شعرية يكبرون فيها..لكن القليل الذي قاتل وخرج إلى خارج فلسطين لاستكمال دراسته، وأنا واحد منهم،ربما أعانني ذلك على أن يصبح لدي جَلد أكثر في أن أواصل مسير تي في الكتابة. لكن ما كان يميز ثقافتنا الوطنية تحت الاحتلال هو التعددية في المرجعيات،والتعددية في المصطلح، وكونها انعكاسا لما كان يجري في الأرض الفلسطينية، ثم الترميز،أي أن المنتج الفلسطيني كان مرمَّزا وإشاريا ومختزلا، ماكان يمجد الصورة المفترضة عن الفلسطيني،أي أن منتج الثقافة الفلسطيني وقع في الفرضية في افتراضه،ولم يتحدث عما يراه ويلمسه،وهكذا صارت فجوة كبيرة بين الصورة والمثال،ثم وقع الخطاب الفلسطيني الثقافي فيما يمكن تسميته :ب«خطاب الفلسطنة»، جراء الدائرة القُطرية،وأنا أفسر ذلك ليس حبا في الإقليمية أوالقُطرية،لكن لأن الذات الفلسطينية، هي مهددة بالإلغاء وبالتذويب من قِبل الاحتلال،وبالتالي، ذهبنا نحو التأكيد على الذات الفلسطينية،ولأني عُروبي، لا أحب هذه الرائحة حتى مع هذا المبرَّر الوجيه، ثم إن الثقافة الفلسطينية كانت جهوية الخطاب،مما فرض عليها تمايزا واختلافا واضحا. ثمة خطاب صادر عن الأراضي التي احتلت عام 48 والتي احتلت عام 67 والتي كانت في الشتات. ثم تميز الخطاب الفلسطيني في مناطق 67 بمقتضي الضرورة بمعنى أنه نشأ في ظرف استثنائي وتحت احتلال استثنائي،ماجعل هذا الخطاب منبريا ينضح بالتحدي والغضب غير مبال بالأناقة اللفظية أوالشكلية قدراهتمامه بمضمونه وأثره على الجمهور، ثم كان هناك طغيان السياسي على الثقافي، يعني كان كل عصب النص الثقافي هو عصب السياسي،ثم أيضا يتعين أن نقول، إن خطاب الثقافة الفلسطيني وخاصة في 67 كان بجهود فردية، تم استيعابها فيما بعد من قِبل المؤسسة الفلسطينية،لكن بصورة متأخرة. { رغم هذه الهيمنة للرهان السياسي، للبعد النضالي على الخطاب الشعري والخطاب الثقافي الفلسطيني في هذه المرحلة،برزت أصوات تنتصر للشعري وتنتصر للجمالي أيضا: كمحمود درويش مثلا... محمود كان قد خرج مع مطلع السبعينيات، أي في سنة 71.أنا أتحدث عن 85 ، أي بعد 15 سنة،بعد عقد ونصف،يعني -لاتنسى-أن الاحتلال كذلك، كان يسكن ويتغلغل في أحشائنا،وكان يراقب كل شيئ ويلاحق كل شيئ.عندما بدأنا بتجميع أنفسنا لتأسيس اتحاد كتاب فلسطين عام 1985 ، وكانت هناك تجارب لوحقت، بعد ذلك اعتقلنا جميعا . أنا اعتُقلت بسبب هذا الأمر.وكان يُمنَع أن يتجمع المثقفون في اتحاد أو جمعيات.كانت هناك رقابة صارمة وشديدة وتتحكم فيها قوانين الطوارئ البريطانية فيما يتعلق بالنشر،وبالتالي كان من المستحيل أن تنشر قصيدتك. لم تكن هناك منابر حقيقية لتبني هذا الجيل الطالع،لأن منظمة التحرير، بأدرعها ومؤسساتهاالتي كانت داخل الوطن المحتل،كانت تلهث وراء السياسي والوطني.ولم تتنبه لضرورة إنهاض ودعم الثقافي والنسوي والشبيبي والاجتماعي وما إلى ذلك لنصل إلى مرحلة 1990، وهي مرحلة-أعتقد-فارقة.