شكرا لمن هندس وخطط وصنع هذه المحاكمة المهزلة .. شكرا له فله اللحظة يجول ويصول، يفعل فيها ما يشاء، ولنا من بعده الزمن، ولنا ذاكرتنا، التي تحفظ اسم الضحايا اسما اسما ورقما رقما، ونعود بالله من آفة النسيان.. شكرا للقضاء الابتدائي والاستئنافي الذي أنصت جيدا لهاتفه النقال، وداس على ضميره في الأوحال.. شكرا له على أحكام الإدانة، وله هو الأخر اللحظة التي هو فيها، فليسبح في بحر الهوى كيف يشاء، فعمق جراح الضحايا ستبقى تنساب من تحت الجدار، حتى يسقط الحصار، ونعود بالله من آفة الإستسلام.. وشكرا لأصحاب المعالي والفضل في رحلة العذاب هذه.. ابتداءا بلحظة الاختطاف الآثمة، ومارطون المحاكمة التعسفية، وانتهاء برزنامة الأحكام الثقيلة والجائرة، ولم يبخلا على المعتقلين بغرفة الاعتقال الانفرادية، والرغيف الجاف... فلهم هم أيضا السياط والمشانق والسجون، ولنا أفئدة وعقول الناس، وسيعلمون ذات يوم لمن تكون له الجولة؟.. للسوط أم للدماء، للمخرز أم للعين؟ شكرا للسادة وزراء الداخلية والإعلام والعدل وللسادة القضاة ووكلاء النيابة العامة... أصحاب القرار في رحلة العذاب هذه.. لقد اغتال سلفهم فيما مضى عدة زهور، وها هم اليوم يريدون أن يجففوا مجرى النهر، ويزيحوا الجبال الشامخة من مكانها.. فلهم أيضا، في قلعة صمودنا، وعدا بأن نزرع آلاف السنابل، ونضيء آلاف الشموع، ليسود السلام في وطن جعلتموه لعقود ينزف.. لقد تعلمنا في مدرسة أميننا العام محمد المرواني حفظه الله.. في مدرسة الاختيار الإسلامي.. وفي مدرسة الحركة من أجل الأمة بعدها.. بأن العالم المتحضر دائما يختار بين الصلاح والأصلح، ويلتمس خيوط الترجيح بينهما.. وأن الحياة لا تطاق بدون سلم وسلام، بدون عدالة ومساواة.. وكنا في مرحلة متقدمة ونحن مطوقون بقوى التقليد والمحافظة، التي كانت تحتكر ميدان الساحة الإسلامية، نؤكد بأن الديمقراطية لا تتناقض مع الإسلام كقيم ومقاصد، ولكنها تتناقض مع الموروث التاريخي السلطاني، ومع التقليد والسلطة الدينية الاكليروسية.. فكيف تجعلوننا اليوم يا دعاة إعاقة المسار الديمقراطي.. نختار بين السيئ والأسوأ.. بين أن نموت بطعنة حصار.. أو طلقة اعتقال.. بين أن نضرب بسوط في غرفة تحقيق مظلمة.. أو عصا في ساحات نضال مطوقة.. وتدفعوننا لكي نخوض معركة الأمعاء الفارغة، من أجل حقنا في الحرية والتعبير والتنظيم.. هل من المعقول أن يكون مصير من أراد تأسيس حزب سياسي، أن يصب عليه كل هذا العذاب والعناء.. يرمى في قهر زنزانة.. يفترش الرطوبة.. ويقتات على رغيف يابس.. وعندما يقرر ليضع حدا لهذا القرار الجائر، ويختار خيار البطن الفارغة، ليقاوم الجلاد بلحمه ودمه، يترك حتى تحدث الكارثة لا قدر الله.. فنحن ما زلنا نتذكر سعيدة وزروال ورحال وبونيت والشيخ الزيتوني الذي شارف المائة سنة، وكان يقبض على جمرة الألم وهو يصرخ إنها جوهرة لن أسلمها لهم.. وغيرهم ممن فاضت أرواحهم في زنازين العذاب، تشكو إلى باريها ظلم الظالمين وقهر الجلادين.. وكان يمكن أن نخرج من ذلك بدون خسارات تمس سمعة بلدنا الحبيب، فيكون الخيار الديمقراطي هو الرهان الذي يجمعنا. فماذا حدث حتى يأخذنا الحنين اليوم لسنوات الجمر الرصاص لنعيد إنتاجها مرة أخرى؟.. ونعيد معها زمن التنازع والتنابذ المقيت؟.. ونحدث بعدها سيناريوهات مصالحة وإنصاف.. لا تكون في عرف المخزن سوى فاصلة بين زمنيين.. أو راحة محارب.. يأخذ فيها أنفاسه.. ويستجمع فيها قواه.. ليعود لميدان المبارزة.. أليس هذا نزيف تضيع معه الجهود والطاقات، وتجهض معه مسارات الوحدة الترابية والوحدة الوطنية، وتنسف من خلاله كل جهود التنمية والسلم الاجتماعي؟.. أجيبونا أيها العقلاء، أم على قلوب أقفالها؟ اليوم نفذ صبر المعتقلين السياسيين، فيما يعرف بخلية بليرج، واختاروا معركة الأمعاء الفارغة، ليسمعوا صوتهم لكل الأحرار، ولقد جعلوا إضرابهم عن الطعام مفتوحا، مما يجعل معركتهم مفتوحة على كل الخيارات. لقد ارتدوا أكفانهم في ما قبل، ونزعوها بعدما تدخل العقلاء في هذا البلد، بناء على وعود لم تفي السلطة بها.. وها اليوم يرتدونها، ويتوشحون بالبياض، ويقرروا أن يرحلوا رحلتهم الروحية الأخيرة.. ولم يعد للوعود الزائفة مكانا في قلوبهم.. لقد نفذت كل ذخيرتهم، وبحت أصواتهم ، وجفت أقلامهم.. لكنهم لم يجدوا عند صانع محنتهم عينا ترى، ولا أذنا تسمع، ولا قلبا يرعوي.. وها هم الآن والهنا يشقون طريق الشهادة الشائك، وهم عازمون على الرحيل من ضيق دنيا الوطن النازف، إلى رحابة الحياة الأبدية، ومن جور اعتقال تعسفي آثم إلى عدالة مطلقة.. إنهم لا يستجدون عفوا، لأنهم ليسوا مذنبين.. ولا ينتظرون التفاتة من أحد، لأن قلوبهم تأبى أن تذل أو تهون. هم يريدون براءتهم وحريتهم.. يريدون وطنا كريما يحتضنهم.. يريدون عدالة تحميهم فهل يطلبون مستحيلا سياسيا..أم حقا من حقوقهم المشروعة؟ نتمنى في الأخير أن لا يضيع الحاكمون في هذا البلد عقولهم، ويتحلون بالحكمة السياسية المطلوبة، ليبعدوا عنا شبح الموت الغادر، وينهوا هذا المسلسل السيئ الإخراج، لنخرج جميعا منتصرين، ما دام الوطن يحتضننا، ويتسع لإختلافاتنا.. الجديدة في 11 ذو القعدة 1431ه/ 20أكتوبر 2010م بقلم: عبدالرحيم شهبي [email protected]