الرباط: المغرب والشيلي يلتزمان بتعزيز تعاونهما في كافة المجالات    الحكم على الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي بوضع سوار إلكتروني لمدة عام        بني ملال ..إجهاض عملية للتهريب الدولي لثلاثة أطنان و960 كيلوغراما من مخدر الشيرا    مديرية الأمن تطلق خدمة الطلب الإلكتروني لبطاقة السوابق    محكمة النقض ترفض طعون المتهمين في ملف "كازينو السعدي" فاسحة الطريق لتنفيذ العقوبات    وداعا أمي جديد الشاعر والروائي محمد بوفتاس    مزراوي يحقق ارتفاعا قياسيا في قيمته السوقية مع مانشستر يونايتد    فاس.. انطلاق أشغال الدورة العادية السادسة للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة    زيان يسقط فجأة خلال محاكمته ويُنقل للإسعاف    المغرب وإسبانيا يعيشان "أفضل لحظة في علاقاتهما الثنائية" (ألباريس)    بوريطة: نحن بحاجة إلى "روح الصخيرات" في هذه المرحلة الحاسمة من الملف الليبي        الناظور.. ارتفاع معدل الزواج وتراجع الخصوبة    الملك محمد السادس يهنئ أمير دولة قطر بالعيد الوطني لبلاده    حفل توقيع "أبريذ غار أوجنا" يبرز قضايا التعايش والتسامح    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس        حوادث السيارات: أطلنطاسند تقلّص مدة الخبرة والتعويض إلى 60 دقيقة فقط!    الرجاء يعين عبد الصادق مدربا مساعدا    رياضية وطبيبة… سلمى بوكرش لاعبة المنتخب الوطني تنال الدكتوراة في الطب    أزمة اللحوم الحمراء بالمغرب بين تراجع الأغنام وسياسات الاستيراد        العدالة والتنمية: تصريحات أخنوش في البرلمان تؤكد حالة تنازع المصالح وتضرب مصداقية المؤسسات    مزور يشرف على انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ بالبيضاء    جمعيات تعبر عن رفضها لمضامين مشروع قانون التراث الثقافي    الوداد يعلن عن منع جماهيره من حضور مباراة الكلاسيكو أمام الجيش الملكي    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    الجواهري: سنكون من أوائل الدول التي ترخص العملات المشفرة    المفوضة الأوروبية لشؤون البحر الأبيض المتوسط: المغرب شريك أساسي وموثوق    عزيز غالي.. "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" ومحدودية الخطاب العام    الجمعية العامة للأمم المتحدة تتبنى قرارها العاشر بشأن وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    اختيار الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر" بالقائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تطوان تُسجّل حالة وفاة ب "بوحمرون"    مزرعة مخبرية أميركية تربّي خنازير معدلة وراثيا لبيع أعضائها للبشر    علماء يطورون بطاطس تتحمل موجات الحر لمواجهة التغير المناخي    الطلب العالمي على الفحم يسجل مستوى قياسيا في 2024    بنك المغرب…توقع نمو الاقتصاد الوطني ب 2,6 بالمائة في 2024    الالتزام ‬الكامل ‬للمغرب ‬بمبادرات ‬السلام ‬‮ ‬والاستقرار ‬والأمن    استهداف اسرائيل لمستشفيات غزة يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية    مقر الفيفا الأفريقي في المغرب.. قرار يعزز موقع المملكة على خارطة كرة القدم العالمية    الكعبي عقب استبعاده من جوائز الكرة الذهبية: "اشتغلت بجد وفوجئت بغيابي عن قائمة المرشحين"    شباب مغاربة يقترحون حلولا مبتكرة للإجهاد المائي    حماس تصف محادثات الدوحة حول الهدنة بأنها "جادة وإيجابية" وإسرائيل تنفي توجه نتانياهو للقاهرة    كأس إيطاليا: يوفنتوس يفوز على كالياري برياعية ويتأهل لربع النهاية    دبي تطلق خدمة التوصيل بالطائرات بدون طيار الأولى من نوعها في الشرق الأوسط    كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ المعمار بشمال المغرب .. القواسم المشتركة بين تراثنا الوطني والإنسانية جمعاء

سيكون من الأهمية بمكان في حالة استفاضة الباحث وتقصيه النظري في موضوع يتعلق بتاريخ العمارة الأثرية وإمكانية تناولها ليس من الجانب التاريخي وروعة جمالها الفني فحسب، وإنما أيضا حتى من الرؤية المتعلقة بالأنتروبولوجيا الاجتماعية والعلوم القانونية الصرفة، فقد عرف المغرب بخصوصية عمارته التاريخية التي لا تزال كافة أجزائه تحتفظ بمعالم بارزة منها، وبما أن الموضوع يكتسي إلى حد معين طابعا تخصصيا بالأساس، فإنه لا ضير من تسابق المهتمين والمولعين بالبحث الثقافي والفكري أن يكون لديهم بدورهم رأي وتحليل نظري في الموضوع، علما أن هذا الملف بدأ يعرف في الآونة الأخيرة اهتماما ملحوظا ليس من قبل الأكاديميين فقط وإنما أيضا من مكونات المجتمع المدني المغربي .
المآثر العمرانية بين النصوص القانونية وإمكانية تحقيق التنمية المستدامة :
وقد عرف المغرب في هذا السياق بعد حصوله على الاستقلال، قانونه الأول المنظم لهذا المجال في سنة 1980 ، وقبل ذلك خلال فترة الحماية صدر قانونين سنتي 1914 و1945 يتعلقات بالحفاظ على المباني التاريخية والتحف الفنية، وحماية المدن العتيقة والمعمار الجهوي بالمغرب، ويمكن أن يندرج في هذا السياق أيضا مساهمة الفصل 5 من ظهير 2 يونيو 1915 الذي صدر في العقد الثاني من القرن العشرين المنصرم، وخاصة في المحورين ذوي العلاقة بالعقارات بطبيعتها والعقارات بالتخصيص(1 )، دون أن نغفل كذلك مساهمة القانون 39.08 الجديد الذي تم استنان صياغته التشريعية خلال الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين .
إن القانون الوطني الصادر في بداية الثمانينيات المنوه به أعلاه، أهم خاصية اتسم بها حرصه على ملاءمة ومطابقة محتوياته الداخلية مع أهم الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الجيل الثالث الجديدة التي تتوخى حماية وتثمين ما يسمى بالحفاظ على التراث المشترك للإنسانية جمعاء، والتي بدأت تعرف حضورها في الساحة الدولية ابتداء من ثلاثينيات القرن العشرين مرورا بالخمسينيات والستينيات والسبعينيات من نفس المرحلة التاريخية، وأمام ارتقاء زخم وحركية المجتمع المدني في هذا المجال، ودخول بعض المؤسسات الوطنية المختصة بمراقبة ورصد كل ما يهم المظاهر العامة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالمغرب، من قبيل المجلس الأعلى للحسابات الذي سجل في تقاريره ملاحظات هامة كشفت بالملموس عن عدم العناية بالوثائق القانونية المتعلقة بالتراث الثقافي، وتوقف مشاريع ترميم مآثر تاريخية كثيرة بدأت سنة 2006 ووجود حتى مخالفات تتعلق بترميمها، وغير ذلك من النواقص والاختلالات، مما هيأ شروطا موضوعية مناسبة ولأول مرة بعد عقود من الزمن، من أجل صياغة مشروع قانون إطار يتعلق بالميثاق الوطني للمحافظة على التراث الوطني الثقافي وحمايته وتثمينه، معلنا بذلك عن مقاربة جديدة تشاركية ومندمجة تقطع مع أسس النظرة الكلاسيكية القديمة، وتعتمد مقتضيات المادة 71 من الدستور المغربي الجديد في جدليتها المتلاحمة مع التوجهات الكونية المعاصرة في هذا المجال.
وفي سياق حديثنا عن المعمار الوطني المادي في شموليته وجهويته، نرتئي التوقف عند مهرجان الهندسة المعمارية المنظم بالحسيمة من قبل وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، وذلك ابتداء من 14 يناير 2020 إلى غاية 18 من الشهر ذاته، وبالضبط عند المحاضرة المؤطرة تحت عنوان : " المواقع الأثرية بمنطقة الريف، أية رهانات للتنمية ؟ " حيث يمكن أن تستوقفنا جملة من الأسئلة المتبادرة على شكل خواطر فكرية منتظمة، على شاكلة التنقيب في تاريخ الأبحاث الأركيولوجية بمنطقة الريف، والحماية القانونية الممكن توفيرها للمواقع الأثرية بالمنطقة، ومن جهة أخرى كيفية استثمار مؤهلات هذه المواقع الأثرية وتحريكها بما ينسجم مع تحقيق تنمية مستدامة تروم النهوض بالمجال الترابي والإنسان في الريف المغربي، وهي الانشغالات التوقعية التي تقود حتما إلى إمكانية دمج التراث الثقافي للمنطقة في الدينامية الاقتصادية ليسهم بفعالية في تحقيق التنمية المنشودة، الأمر الذي يقتضي في نفس الوقت تضافر المجهودات من أجل بلورة سياسة وطنية للتراث، على غرار السياسات العمومية، ويكون من بين ما تستهدفه وضع مخططات لتنمية التراث والمحافظة عليه وإدماجه في الاستراتيجية الوطنية للتنمية وإعداد التراب الوطني .
الحضور القوي للعصر الوسيط في المآثر التاريخية بالريف :
في التاريخ الراهن والمعاصر نجد أن إرث الحقبة الاستعمارية المتعلقة بمواقع البناء التي خلفها بعد رحيله، غالبا ما تنطوي على أسلوب معماري مهيب لكونه يستقي مكوناته من التقاليد والمواد المحلية، ويلاحظ بخصوص الموروث الاستعماري فرق كبير بين ما كان يعرف بالمنطقة الإسبانية " الخليفية " وبين المنطقة الفرنسية " السلطانية "، باعتبار أن المنطقة الأولى عرفت قيام تلاحم وثيق بين الرصيد المحلي والإسهام الأجنبي الذي يحمل الأصول الأندلسية، فعلاقة الصلات بين الأندلس والمغرب الأقصى في شماله مترابطة ترجع أواصرها إلى العصور القديمة، وهي الصلات التي تحكمت في مجرياتها مؤهلات الجوار المشتركة وقواسم الطبيعة الجغرافية، فمن المعروف أن الأندلس بعد انتهاء فترة الطوائف، قد بادرت إلى الاندماج في الإمبراطوريتين المرابطية والموحدية، ولمدة تقارب الأربعة قرون، وبالتالي فإن دولة بنو ناصر في مملكة غرناطة ما كان مقدرا لها أن تكون لولا المرينيين
وبشكل عام فإن جذور الإرث الأندلسي في المغرب كافة إنما هي عميقة سواء تعلق الأمر بالجانب المعماري أو بثقافة الطبخ والملبس والأصول الاجتماعية أو بأرومة المحتد والأصل العائلي وكذلك على مستوى الغناء والموسيقى وفي هندسة الحدائق والبيوتات وطريقة النطق اللغوي، إذ لا يمكن اليوم تجاهل الصبغة الأندلسية والموريسكية للمغرب أو المكون الأندلسي في الهوية والشخصية المغربية، وهو البعد الذي استحضره بجلاء واضح دستور المغرب الجديد لسنة 2011 ، وقد انعكس ذلك الانسجام المتبادل بشكل تثاقفي متلاقح على ذاكرتنا الجماعية المشتركة إلى درجة أنه لا يمكن تحديد الهوية المغربية وفهمها فهما عميقا بدون اعتبارالعنصر الأندلسي (2 )، ويتجلى هذا التأثير في العديد من المناطق التاريخية والمدن المغربية العتيقة .
كما أن بصمات العصور الإسلامية وتاريخ المرحلة الوسيطة قد تركا آثارهما الجلية في عدد من آثار المعمار في شمال المغرب عموما وفي عدد من مناحي الريف الأوسط والشرقي وفي جهته الغربية كذلك، حيث يمكننا أن نتلمس ذلك في العمارة الخاصة بالمساجد والأبراج والحصون والقصبات والأقواس والأبواب وفي بعض أسوار مدينة المزمة المغربية العتيقة التي تقع بقلب الريف، والتي تمكنت أعمال الاستبارات والتحريات الأركيولوجية التي بدأت تجرى بهذه المنطقة ابتداء من 2008 على يد فريق من المختصين الذين تخرجوا من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط تحت إشراف وزارة الثقافة المغربية من استخراج معالم هامة من أسوار ومداخل المزمة البحرية خاصة الموجودة منها قبالة حجرة النكور المحتلة، والأخرى في المناحي التي اقتضت حاجاتهم آنذاك من تشييدها في مواقع محددة، وهي المآثر العمرانية المرتبطة في نشأتها بالعهد الموحدي، وبنفس الوتيرة تتقدم الأشغال بمدينة بادس التاريخية، التي كانت مأهولة بساكنة المنطقة وبأفواج هامة من الوفود المنتقلة أو المهجرة على يد ملوك إسبانيا القشتالية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والتي بدأت تتلاشى معالمها وتندثر ابتداء من تاريخ احتلال الإسبان الأيبيريين لصخرتها منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، فقد كان حاكم بادس تابعا لسلطان فاس، كما أن جميع قبائل المنطقة تخضع لسلطتهم، إذ أن السلاطين المغاربة كانوا قد دأبوا على تعيين حاكم بهذه المدينة يأتمر بأمرهم (3 ) .
وتكتمل الصورة إذا أضفنا المعلمتين المتبقيتين والمتمثلتين في كل من قصبة تلا ن بادس و" قلعة " الطريس كما درج على تسميتها عبد الحق بن إسماعيل البادسي في مؤلفه " المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف "، ومعلوم أن قصبة سنادة تضاربت أقوال الباحثين والدارسين كثيرا في مؤسسها وتاريخ بنائها، ووقع المؤرخون الأجانب خاصة منهم الإسبان والفرنسيين في التباس واضح بشأن الملابسات المحيطة بظروف نشأتها، وترجح بعض المصادر التاريخية الموثوقة أن يكون أمر تأسيسها مرتبط بالدولة السعدية، مع إصلاحها وترميم بعض الأجزاء الهامة من معالمها على يد السلطان العلوي مولاي إسماعيل في بداية القرن الثامن عشر الميلادي من أجل التصدي لأطماع الاستعمار الأيبيري الذي كان يروم الاستحواذ على الثغور المغربية والتوسع في أراضيه انطلاقا من المدن والجزر المغربية التي كان يهيمن عليها ابتداء من النصف الأول من القرن 15 الميلادي .
كما ترجح مصادر التاريخ أن يكون تأسيس أبراج الطريس الأولى ترجع إلى العهد المريني، بحيث يبدو من خلال هذا التقديم التاريخي المتلاحق مدى الحضور المغربي القوي لتاريخ الدول المركزية المتعاقبة على حكمه، في تدبير تلاحمت وشائج أهدافه الوطنية وعيا وشعورا مع ساكنته المغربية، وهمت كافة أجزائه الشمالية منذ أقدم القرون و الأعصر المتصرمة، وإن كانت العمارة المغربية تميزت بخصوصيات جعلتها تختلف وتتميز عن باقي العمارة الإسلامية والعربية، فإن ذلك لن ينفي وجود تمايزات بين كل العصور والدول التي تولت حكم المغرب ابتداء من المرابطين مرورا بالموحدين، والمرينيين الذين عرفت في عهدهم العمارة المغربية أوج ازدهارها وتقدمها، ثم السعديين الذين عرفت على يدهم العمارة المغربية انصهار التأثيرين التركي والبرتغالي، في حين جمعت العمارة المغربية خلال الفترة العلوية بين تقاليد البناء المتوارثة عن كل من المرينيين والسعديين .
سؤال المواطنة، والبناء المعماري الكولونيالي الحديث في شمال المغرب :
في المقابل تطورت هندسة معمارية مدنية في أهم المدن المغربية الكبرى تعرف باسم آرت ديكو Art) déco) مع بداية الثلاثينيات في ظل الحماية الأجنبية المفروضة على المغرب، وهي هندسة عرفت بهيمنتها على المباني البورجوازية المعدة للسكن وتميزت بغزارة الأشكال والإفراط في الديكور المشكل أساسا من أنساق زخرفية نباتية وقبب مزينة بالزليج ونقوش بارزة في الشرفات (4 )، وجملة القول فهي أحد التمظهرات الرئيسة من تلك المباني الكولونيالية التي كان ميلادها في أحضان تاريخ الزمن الراهن، والتي تم استحداثها على مقربة من المدن المغربية العتيقة .
إنها الوضعية أو ذلك النموذج الذي يقابله في المغرب الخليفي ضمن منطقته الشمالية، وفي الريف نموذج المعمار الهندسي المتواضع على تسميته من قبل المختصين ب " إنسانشي " Ensanche وهو البناء الأوروبي الحديث الذي وضع أسسه المهندس المعماري الإسباني كارلوس أوفيليو، مدشنا بذلك الأسس الأولى للمدينة الجديدة في فترة الحماية وعرف انتشارا مركزا في مجموعة من المدن الشمالية خلال الفترة الممتدة من 1917 إلى غاية 1956، وتعتبر ساحة مولاي المهدي بتطوان التي تم تأسيسها سنة 1932 خلال حكم الجمهوريين الإسبان نموذجا للإبداع الهندسي بالمدينة، فقد استوعب مجموعة من المعماريين الإسبان التحولات الفكرية والثقافية التقدمية في الهندسة المعمارية الأوروبية الملتقية مع التيارات التي واكبت نهاية القرن 19 والبدايات الأولى من القرن العشرين، وقد اعتبرت بحق قمة الإبداع المعماري في تلك الفترة التاريخية، ولعل أهم ما ميزها هو تداخل الأشكال الهندسية الأندلسية مع التأثيرات الأوروبية الحديثة، دون أن ننسى بالطبع تأثيرات الأحداث السياسية العامة التي كان يرزح تحت إصر ثقلها المجتمع الإسباني خلال هذه الفترة، خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية وحسم نتائجها لصالح ما عرف في التاريخ بالقوميين الوطنيين من أتباع الجنيرال فرانكو(5 )، وهي التأثيرات التي شملت جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي انتقلت معالم أسسها الفكرية والنظرية نحو المناطق التي شملتها الحماية الإسبانية بشمال المغرب .
وفي سياق الحديث المحموم عن القيمة الثقافية للمآثر التاريخية والدور الذي يمكن أن تضطلع به في عملية النهوض الاقتصادي والإقلاع التنموي الفعال، وخاصة على مستوى تحقيق تنمية سياحية ذات مردودية إيجابية، فإننا نجد من يربط بين المآثر التاريخية وخلفيات المواطنة الحقة التي تترفع عن مخاطر الخلفيات الإيديولوجية المحدقة ببنائنا المجتمعي المتماسك، وهي الدعوة التي يمكن أن نستحضر أنموذجها الأمثل من كتابات السوسيولوجي العسكري الإسباني " إيميليو بلانكو إيثاكا "، وتحديدا في قصبة أربعاء تاوريرت الحمراء التي أشرف على وضع تصميمها في بداية الأربعينيات من القرن الماضي ونجح في أن يجعل منها تحفة فنية وجوهرة معمارية راقية، وقد سعى للربط بينها وبين النموذج المعماري في الأطلس من الجنوب المغربي وكأنه يوحي بوجود امتداد في هذا الميدان بين أمازيغ جنوب المغرب والأمازيغ في الريف خاصة وشماله على وجه العموم (6 )، وهي الخلفية التي تفطن إليها باحثون أجانب وبعض الدارسين المغاربة الذين انساقوا وراء تطارح جملة من الأسئلة التي تبعث على الارتياب والتوجس الذي ينحو في اتجاه ربط المشروع المعماري بسياسة ما سمي بالظهير البربري / أو الاستعماري الذي بادر إلى وضع أهم لبناته الجنيرال الفرنسي ليوطي سنة 1930، ودعم مشروعه النظري رائد السوسيولوجيا الفرنسية العسكري روبرت منطاني في مؤلفه " البربر والمخزن في جنوب المغرب "
إنها المداخل التي قادته نحو الوقوف عند العرف القانوني بالمنطقة ومحاولة إحيائه من جديد، وعلى الرغم من قيمة الدراسة المعرفية، فإن مشروعه عرف عدم القبول وتخبطا واضحا، باعتبار أن الساكنة كانت قد بدأت تعرف تطبيق الشرع الإسلامي، خاصة أمام وجود العديد من الفقهاء وطلاب العلوم الدينية والتوجه الجديد الذي بدأ الزعيم الوطني محمد بن عبد الكيم الخطابي يؤسس له انطلاقا من ثقافته الدينية الحديثة، وهو المشروع الذي لم يستسغه حتى قادته العسكريين الإسبان ورؤساؤه الإداريين، فقد رفضوا المشروع تخوفا من أية متاعب أو مضاعفات خطيرة قد تنجم عنه، وذلك على غرار ما حدث بالمنطقة السلطانية الذي تصدت فيه الحركة الوطنية المغربية بقوة لمثل هذا التقسيم الثنائي الإثني والعرقي، ولذلك لم يكن من الغرابة في شيئ أن يلقى كتابه المؤلف سنة 1930 " السكن الريفي " (LaVIVIENDA RIFENA) نفس المصير المنتظر، بل إن سلطات الحماية الإسبانية عملت على إبعاده من شمال المغرب عامة وتعيينه في منصب الكاتب العام بمستعمرة إسبانيا في غينيا الاستوائية سنة 1942 ، ليلفظ أنفاسه الأخيرة بمدريد سنة 1948 ، بعد أن توفي في سن جد مبكرة(7 ) .
وقد سلكت بعض الدراسات الجديدة نفس المنحى، فقد أكد الباحث الإسباني أنطونيو برافو الطرح الفكري ذاته " حاول إيميليو بلانكو أن يزاوج بوضوح بين الأشكال المعمارية والإيديولوجيا، وأن يعطي للبناء بالمنطقة هوية محددة "، وإن كان هناك من حسنة يمكن أن تسجل لصالحه فهي تأثره في بعض الجوانب بالمعماري الإسباني المغمور جاودي، الذي اعتمد في أعماله الإبداعية المعمارية على البعد التاريخي، إذ كان جاودي يعتقد أن المتوسطيين يتميزون فطريا بالإبداع والأصالة، لذلك فقد كان جاودي من أوائل المعماريين الإسبان وربما الأوروبيين الذين أزاحو تابو التحريم وعقدة عدم الاعتراف واهتموا بالعمارة الأندلسية إبان الوجود المغربي فوق ترابها (8 )، إضافة إلى ما يسمى بالبعد التاريخي الشرقي، ليملأ الريف المغربي بتصاميم المدارس والمساجد والمراكز الصحية وبعض مكاتب الماء ..
التراث العمراني والحق في العيش المشترك / التراث الإنساني المشترك للإنسانية جمعاء :
كما أن التلاقح الحضاري والمثاقفة في إطارها الدولي الإيجابي، باعتبارهما البوابة الرئيسة نحو التعايش والحق في العيش المشترك، يقتضي منا الاستفادة من جميع التيارات الفكرية والثقافية التي تساهم في إغناء مؤهلاتنا الثقافية على مستوى المعمار، مع حقنا في الارتقاء بأسلوبنا المغربي الخالص الذي يشكل عمق هويتنا على مستوى الأصالة ويحفظ لنا في نفس الوقت شخصيتنا ومستقبل ثقافتنا المغربية، ألم يلجأ المغاربة في الريف الشرقي أشهرا معدودة قبل احتلال مليلة سنة 1497 إلى إحراق وتهديم جميع البنايات والأسس العمرانية بالمدينة وبأمر من سلاطين الوطاسيين بفاس، وذلك كرد فعل طبيعي تقتضيه قوانين سياسة الحروب، بعد استشعارهم أن الإسبان لا محالة سيحتلون مدينتهم مليلة، وتوزعوا في الوهاد والمرتفعات القريبة من مدينتهم يترقبون صنع الإسبان، والغريب أن الإسبان صرحوا إثر نزولهم بالمدينة المغربية المحتلة أنهم أعادوا بناء الأسوار على نفس النمط المعماري وبنفس الأحجار التي بقيت متراكمة بالمكان بعد تعرض المدينة للهدم الأخير(9 )، وفي الإطار ذاته ألم يحافظ الإسبان أيضا على المعالم الأثرية التي تركها المرابطون والموحدون والمرينيون والعرب المسلمون في إسبانيا الإسلامية أو أيبيريا الإسلامية، بل أصبحوا يجنون منها مبالغ مالية طائلة ساهمت في نهضة إسبانيا وتقدمها، بعد أن وضعوا استراتيجية سياسية محكمة تقضي بتوظيف هذا التراث المعماري الباهر في السياحة الثقافية التي عرفت إقبالا دوليا مكثفا منقطع النظير .
وفي إطار نقاشنا الذي يروم تسليط الضوء على مفهوم التراث المشترك للإنسانية جمعاء كحق من الحقوق الجديدة المندرجة في سياق الجيل الثالث، فإن أول ما يسترعي انتباهنا إلى حد الاندهاش هو تعدد الأشكال العمرانية والمعمارية التي نصادفها بالمغرب، مما يعكس لنا الارتباك الحاصل لدى العديد من المهندسين المعماريين، وهو الوضع الذي ساهم في عدم ظهور مدرسة مغربية للمعمار من شأنها أن تستمد مقوماتها من مختلف مكونات التراثي الثقافي للبلاد، مما جعل جميع الجهات المغربية المعنية بالأمر، تسلك منحى اجتهاديا خاصا يلائم تطلعاتها وفهمها المحدد للموضوع وهم بصدد تطبيق التوجهات الرسمية للدولة في هذا الصدد، فالمهندسون الشباب خريجوا المراكز والمعاهد العليا المعاصرة سعوا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين نحو تطبيق هندسة معمارية مغربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، أما الإدارة الوصية فقد توجهت نحو استنساخ النموذج الرسمي للمدن السلطانية العتيقة، في حين نجد أن إنجاز ميشيل بينسو الفرنسي (Michel pinseau ) كمهندس رسمي، والذي أشرف على مجموعة من الأعمال الفخمة بالمغرب، فإنه يكون قد أعطى لمفهوم رد الاعتبار تأويلا خاصا مثير للجدل (10 ) .
من المعلوم أن الترسانة القانونية المنظمة للمآثر العمرانية إنما هي وليدة التدخل الاستعماري في المغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقد صدرت بالجريدة الرسمية منذ عشرينيات القرن المنصرم عدة نصوص قانونية لحماية الأسوار، إلا أن منطقة الحماية الإسبانية لم تعرف نفس الاهتمام ولم تصدر أية قوانين تهتم بالآثار، إذا استثنينا بعض النصوص الخاصة بمدينة تطوان وبعض المواقع بمدينة طنجة (11 )، وإن كان المشرع المغربي قد تدارك الوضع وقام بإصدار قانون 22 سنة 1980 مراعيا فيه أهم المعايير الدولية المعاصرة وإجراءات الترتيب والتقييد في مجال المآثر التاريخية .
على سبيل الختم :
إن النماذج الناجحة للتنمية في عدد من الدول الصديقة والمجاورة للمغرب ساهمت فيها الآثار التاريخية المدعمة للسياحة الثقافية، وفي نفس الوقت برهنت للعالم أن بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة لا مندوحة عنه من فهم التاريخ فهما سليما واحترام الاختلافات مع الأخذ بعين الاعتبار الجوانب المشتركة بين الشعوب والحضارات، مما من شانه أن يكفل لنا بناء معالم عيش مشترك أفضل ينبني على الأمان والاستقرار، وأيضا على التعاون والتكامل بين الدول (12 )، ومن هنا يمكن أن تأتي الدعوة إلى ضرورة إشراك كل الفعاليات من مراكز البحث العلمي والجامعات الوطنية والدولية، وكذلك المؤسسات المنتخبة، ولجنة التاريخ العسكري المغربية، والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، والمندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ثم وزارة الثقافة والاتصال، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وإلى المساهمة في حماية وتثمين المآثر التاريخية الوطنية، والنهوض بالتراث العمراني والأثري، باعتباره يشكل قاسما مشتركا بين جميع المغاربة، وفي نفس الوقت موئل اعتزاز وفخر بين الأمم، وطريقا ناجحا نحو النهوض بالحياة الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق تنميتنا المنشودة .
محمد لمرابطي : حقوقي وباحث

هوامش :
1 – آمنة مبروك مهلاوي " مدخل لدراسة النظام العقاري المغربي " مقاربة قانونية، ترجمة عبد الله إدومجود، عبد السلام زيزون، الطبعة الأولى 2018 _ ص ص : 41 / 42 .
2 – امحمد بن عبود " التأثير الأندلسي في الثقافة المغربية " مجلة كلية الآداب، عدد 15 ، ص ص : 10/11، " مدينة تطوان العتيقة: النشأة والتطور" ضمن كتاب: المدينة العتيقة في تطوان، دليل معماري، ص ص : 38/39 .
3 – أنخيلو كيريلي " قبيلة أيت يطفت "، ترجمة نادية بودرة، تقديم عبد المجيد العزوزي، ص ص : 74 / 75 .
4 – تاريخ المغرب، تحيين وتركيب- إشراف وتقديم محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب‘ ص : 721 .
5 – علي بولربح " السياسة الترابية للسلطات الاستعمارية الإسبانية بشمال المغرب " 1912 – 1956 ، طبعة 2015 ، ص ص : 139 / 141 .
6 – عبد الإله أوفلاح " مدينة الحسيمة – من التأسيس إلى الاستقلال " 1925 – 1956 ، ص : 371 .
7 – محمد أونيا " القبيلة بين الأنتروبولوجيا والتاريخ " قراءة في كتاب إيميليو بلانكو إيزاكا " كولونيل في الريف " مجلة تاريخ المغرب، العددان السابع والثامن، ماي 1998 ، ص : 223 .
8 – علي بولربح، المرجع نفسه، ص ص : 131 / 147 .
9 – حسن الفكيكي " المقاومة المغربية للوجود الإسباني بمليلة " (1697- 1859 ) الطبعة الأولى : 1997 ، ص ص : 72 / 77 .
10 – تاريخ المغرب، تحيين وتركيب – المرجع نفسه : ص ص : 722 / 723 .
11 – منتصر الوكيلي " المواقع الأثرية بالريف الشرقي وسبل رد الاعتبار إليها " شرق بلاد الريف في التاريخ والآثار والمعمار، نشر أحمد الطاهري وفاطمة الزهراء أيتوتهن التمسماني ، ص : 83 .
12 – عبد القادر الخصاصي" أية مساهمات للاتحاد من أجل المتوسط في التعريف بروابط شرق بلاد الريف والأندلس "، المرجع نفسه – ص : 138 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.