لعل كل المتتبعين لتطورات المشهد السياسي يشعرون بشيء من عدم الفهم أو عدم الثقة أحيانا حيال ما يعرفه موضوع تشكيل الحكومة منذ تعيين الملك شخص عبد الإله بنكيران رئيسا لها.. فما بين التعيين الذي مارسه الملك بمقتضى الفصل 47 من الدستور، والتنصيب الذي يعد من اختصاص البرلمان بناء على الفصل 88، جرت مياه كثيرة تحت جسر السياسة في المغرب تستدعي قليلا من التأمل والفهم وكثيرا من الجرأة السياسية الغائبة عن الفاعلين السياسيين الذين غالبا ما يتحدثون إلى الرأي العام الوطني بصيغة المبني للمجهول ؟؟؟؟ فمباشرة بعد انضباط الملك للنص الدستوري وللمنهجية الديمقراطية بتعيين الأمين العام للحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية رئيسا للحكومة، انطلقت مشاورات تشكيل الفريق الحكومي ودخلت نفق العتمة السياسية المحاط بالألغاز والإشارات وردود الأفعال دون أن يتمكن رئيس الحكومة من حسم أغلبيته، ودون أن يبوح للصحافة ويكشف للرأي العام حقيقة التطورات التي يعرفها مسار المفاوضات، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ما يعتمل في المطبخ السياسي غير عادي بالرغم من أن تأخر إعلان الحكومة لا يشكل أزمة دستورية. وفي هذا السياق نجد الباحثين والصحفيين هم الذين يسدون الفراغات التي خلفها تكتم بنكيران وحزب العدالة والتنمية عن الحقيقة الضائعة في إدارة المشاورات والمفاوضات التي من المفروض أن يتدخل القائمون على الحزب في إطار التزامهم السياسي وتعاقدهم الانتخابي مع المواطنين – كل المواطنين – وفي إطار ما ينص عليه الدستور.. أن يقوموا بالكشف عن خبايا التأخر الذي طال تشكيل الحكومة المغربية. إنه من غير المقبول أن تستمر الأوضاع بهذا الشكل وبنفس الميتودولوجيا إلى ما لا نهاية، بالرغم من الفراغ الدستوري (الفصل 47 سكت عن المدة المسموح بها لرئيس الحكومة المعين لتشكيل حكومته، ولم يفصح كذلك عن الإجراءات الضرورية في حال فشله). السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق: ماذا ينتظر بنكيران بالضبط للخروج من هذه الوضعية؟ هل ينتظر أن يتدخل الملك؟ أو أن يمن عليه خصومه السياسيون بتنازلهم عن الشروط التي وضعوها مقابل مشاركتهم في الحكومة؟ ومن يستفيد من حالة الستاتيكو التي وشمت المشهد السياسي المغربي وأرخت عليه سدول الجمود ووضعت البرلمان بغرفتيه في حالة عطالة قسرية؟ إذا كان رئيس الحكومة ينتظر تدخل الملك! ففي أي إطار دستوري؟ مع العلم أن التحكيم غير ذي موضوع هنا خاصة أن الفصل 42 من الدستور ينص على أن " الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة.. " مما يعني بمنطوق النص الدستوري أن الملك يمارس وظيفته التحكيمية حينما يتم تجاوز مقتضيات دستورية أو يتعثر سير مؤسسات دستورية، أو يستجد ما يهدد الاختيار الديموقراطي للدولة أو الحقوق والحريات الفردية أو الجماعية، أو الإخلال بتعهدات دولية.. لكن الأحزاب السياسية ليست مؤسسات دستورية .. ولهذا فإن التحكيم الملكي غير وارد. أما إذا كان بنكيران ينتظر تغيرا في مواقف الأحزاب التي ينتظر انضمامها، فإن الشروط الذاتية والموضوعية التي من شأنها حلحلة مواقفها غير متوفرة. وأن الهيئات التقريرية للأحزاب التي عبرت عن قبولها المشاركة في حكومة بنكيران (التجمع الوطني للأحرار – الاتحاد الدستوري – الاتحاد الاشتراكي) وضعت آليات لإنفاذ قراراتها. .. ففي حالة رفض بنكيران شروط التجمع الوطني للأحرار على وجه التحديد، وتشبث بحزب الاستقلال شريكا في الحكومة، فإنه أمام سيناريو حكومة أقلية التي سبق وأن قلنا – في مقالة سابقة - أنها غير مطروحة، ومآلها الرفض، لأنها من جهة، فاقدة للأغلبية، ومن جهة ثانية، من شأن اعتمادها تهديد استقرار العمل الحكومي، وتعريضه للتعطيل المستمر .. أما السيناريو الثاني فهو إعلان الفشل والعودة إلى للمربع الأول. السؤال المطروح هنا هو: ما هي القشة التي سيتشبث بها بنكيران وحزب العدالة والتنمية لتبرير هذا البلوكاج أو العجز أو الفشل؟ هل كون الحزب لا يحكم رغم ترؤسه للحكومة ؟؟ أم أن الدستور معطوب ويحتاج إلى تعديل؟؟ أم أن نمط الاقتراع يعكس فقط التمثيلية الشكلية للأحزاب في المؤسسات الدستورية، ولا يخولها تشكيل تحالف سياسي قوي يسهل عليها تنفيذ برنامجها الحكومي، بل يفرض عليها تحالفات هجينة وعلى مقاس الدولة؟؟ أم أن العتبة المعتمدة تكرس البلقنة السياسية؟؟ أم أن الأمر يتعلق بتزوير للانتخابات؟؟ أم أن الأحزاب فعلا دون تطلعات الشعب المغربي ولا تمتلك سلطة القرار بيدها؟؟ أم سيعزى هذا الفشل إلى نظرية المؤامرة ؟؟؟؟ تتناسل الأسئلة وتتعدد المخارج، لكن بالرجوع قليلا إلى الوراء سنجد حزب العدالة والتنمية برئاسة عبد الإله بنكيران رفض النزول إلى الشارع مع حركة 20 فبراير، وصادق على دستور 2011، ورفض المطالبة بالملكية البرلمانية في أدبياته وتحايل عليها بمصطلح "الملكية الديمقراطية"، وتوقف عنده ورش الانتقال الديمقراطي بدخوله الحكومة؛ بل وقبل بنمط الاقتراع الذي على أساسه جرت الانتخابات التشريعية، والذي لا يمنح لأي تكتل من ثلاثة أحزاب تشكيل الحكومة، فما بالك بأن يحصل حزب واحد على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان (الغرفة الأولى). وقبل كذلك خفض العتبة من 6 % إلى 3 %، وهو ما لم يكن في صالحه مبدئيا، وهو يسير الحكومة ويتوفر على الأغلبية العددية في مجلس النواب، الشيء الذي ضيع عليه بالتأكيد مقاعد أخرى هو في أمس الحاجة إليها، ولم يعارضه ويتصدى له بالرغم من أنه اختيار يبلقن المشهد السياسي .. كما أعلن حزب العدالة والتنمية رسميا أن الانتخابات التشريعية الأخيرة نزيهة... فأين يكمن الخلل؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التأكيد على أنه ليس من حق حزب العدالة والتنمية بزعامة عبد الاله بنكيران أن يعلق فشله على أي مشجب؛ لأنه بكل بساطة أخلف الموعد مع التاريخ، ولم يسجل أي موقف يتذرع به اليوم : نظام الحكم - الديمقراطية – الدستور - نمط الاقتراع – العتبة – نزاهة الانتخابات –... أما أن يطل علينا البعض ويوهمنا بأن الأمر يتعلق بخطة (ب) أو (ج) أي أن يلجأ لتبرير عجزه أو فشله إلى نظرية المؤامرة. فهذا ما لا يمكن للشعب المغربي أن يقبل به. قبل الانتخابات التشريعية طفا على السطح مصطلح قديم/جديد هو "التحكم" غايته استقواء محور العدالة والتنمية على محور الأصالة والمعاصرة، ولم تكن عند الطرف الأول الجرأة السياسية للحديث عن النظام السياسي باعتباره من أحكم السيطرة على الحياة السياسية التي تلعب فيها الأحزاب كلها دورا هامشيا، ويلعب فيها "الزعماء" السياسيون دور الموظفين الكبار، وتتحول على إثرها المؤسسات إلى واجهة .. واكتفت العدالة والتنمية فقط باستفزاز خصومها بهذه الكلمة التي تحولت إلى سبة. وبعد البلوكاج تم ابتداع مفهوم "استقلالية القرار الحزبي" لكن لا يتم الحديث عن الجهة غير المرئية أو المستترة التي تملي القرارات، وتوجه الأحزاب وتستعملها؟ إننا بهذا الشكل ننتج تربية سياسية تقوم على أساس الخوف، أي أننا بعيدون جدا عن الحرية والديمقراطية، ولا يمكن – بأي حال من الأحوال – لأحزاب تتكلم بالمرموز عن الأشباح والتحكم وأشياء أخرى من عالم الحيوان أن تؤطر شباب اليوم وتستقطبه للانخراط السياسي.. إنه العجز الذي يمنعنا من التطور. قد يقول قائل إن كل ما يقع هو استراتيجية النظام السياسي من أجل تقزيم حزب العدالة والتنمية ولجم بنكيران وقص أجنحته من خلال ضرب حلفائه (حزب الاستقلال بشكل أقوى)، لكن ماذا فعل هذا الحزب ليدافع عن اختيار الشعب له؟ بقي مكتوف الأيدي .. لا يطالب بتعديل الدستور ولا يطالب بتغيير نمط الاقتراع ولا يطالب برفع العتبة ولا يرفع صوته ليسمعه الشعب.... ويقر في المقابل بأن الاستحقاقات لم تشبها شائبة وأن الإرادة الشعبية تم احترامها ! وحتى الأصوات داخله التي تنادي بإعادة الانتخابات، لماذا؟ وعلى أي أسس؟ وما فائدتها إن لم تكن بنمط اقتراع جديد (نظام لائحي في دورتين مثلا) مع رفع العتبة إلى 10% ؟؟ إنني لا أتحامل على حزب العدالة والتنمية الذي أحترمه، ولا أتحامل على أمينه العام؛ بل أرفض المنطق الذي يجيبان به على الأسئلة الراهنة، والتي لا تنتج وعيا سياسيا، بل غالبا ما تركن إلى الإجابات غير المكلفة (أي بدون تكلفة سياسية) عوض مصارحة الشعب ومكاشفته في إطار المسؤولية السياسية بأن شروط اللعب لم تعد مقبولة، أو بحجة مواجهة ممنهجة للوبيات قوية في الدولة أو ... لقد سئمنا لغة التماسيح والعفاريت، وسئمنا سماع لغة البؤس، ولم نعد قادرين على تحمل خطاب الجبن السياسي. لقد حان الوقت لكي نتحدث جميعا لغة واحدة .. لغة الجرأة السياسية، التي تسمي الأشياء بمسمياتها، والتي لا تختبئ وراء الشعارات الجاهزة والجوفاء. في بعض الأحيان يرفض زعيم الحزب الإدلاء بأي بتصريح للصحافة، وترى مسؤولين حزبيين لا ينبسون ببنت شفة، ومنهم من يقدم تصريحا (في لحظة حماسية) ويندم عليه أشد الندم! ! ! لكن الطامة الكبرى هي حينما يبررون ذلك بالحفاظ على الاستقرار السياسي! ! إن الاستقرار السياسي الذي يجب أن نحافظ عليه هو الاستقرار في إطار الدينامية والتطور وإدارة الاختلاف وتعزيز الحريات، وليس الاستقرار المغلف في قالب الجمود والعدمية. لكن - للأسف – حينما ننظر إلى الأحزاب السياسية نجدها معطوبة وقياداتها متهالكة وشائخة ولا تدافع إلا عن مصالحها الضيقة، و"زعماؤها" متورطون في ملفات فساد، وغير قادرين على قول الحقيقة .. وكلهم متفقون على قواعد اللعب التي وضعها النظام .. وأنهم جميعا يقولون لا في المعارضة ونعم حينما يتقلدون زمام تسيير الدولة. إننا في حاجة إلى أحزاب قوية تناقش الملك. يقودها زعماء سياسيون لا يتحدثون بصيغة المبني للمجهول، ولا يقتبسون خطاباتهم السياسية من كتاب "كليلة ودمنة" .. إننا –بكل بساطة - في حاجة إلى ممثلين دستوريين حقيقيين. لقد بين لنا الملك – غير ما مرة - بأنه ديمقراطي، ويساير تطور المجتمع وتحولاته الاقتصادية والسياسية، ويدافع عن اختياراته بمنهج براغماتي، يستمد قوته من رضى الشعب؛ لكن الأحزاب السياسية – للأسف - تخلفت عن مهامها في دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع، وتخلفت عن أداء أدوارها التأطيرية والسياسية.