عرفت المشاورات السياسية التي يجريها عبد الاله بنكيران عدة تعثرات أدت إلى ما يمكن أن نطلق عليه المأزق الدستوري أو العجز المؤسساتي أو البلوكاج، الذي يتمثل بالأساس في توقف البرلمان بغرفتيه، فمجلس النواب لا يشتغل لأن رئاسته تدخل ضمن مشاورات تشكيل الأغلبية، وأيضا مجلس المستشارين بالرغم من تشكله يعاني الشلل الوظيفي لأن الجهة التي ستفعله انطلاقا من تزويده بمشاريع القوانين التي يجب دراستها هي الحكومة التي لم تشكل بعد، إذا علمنا أن حكومة تصريف الأعمال عرفت إعفاء 12 وزيرا بسبب حالة التنافي ( والحالة هنا أن صفة البرلماني تتنافى مع صفة الوزير). وقد أسس لهذا البلوكاج سكوت الدستور المغربي عن تحديد آجال معينة لتشكيل الحكومة (الفصل 47 )، وسكوته كذلك عن الإجراءات الضرورية في حال فشل رئيس الحكومة المعين في تشكيلها، وهو ما يعني أن الوضع الدستوري طبيعي رغم التأخر في إعلان التشكيلة الحكومية؛ وأن القراءات تظل سياسية، في حين يبقى هامش تأويل النص الدستوري ضيقا للغاية... ويمكن اعتبار بلوكاج تشكيل الحكومة حلقة في مسلسل الصدام بين الدولة العميقة وحزب العدالة والتنمية الذي انطلق بشكل مؤسس قبل الانتخابات التشريعية. وكل التكتيكات المعلنة التي تتبعها الرأي العام بعد إعلان نتائج الانتخابات من قبيل تشكيل الاتحاد الدستوري والتجمع الوطني للأحرار فريقا برلمانيا مشتركا، وإعلان الحركة الشعبية انتقالها لصفوف المعارضة اعتمادا على نتائج الانتخابات، ورفض الاتحاد الاشتراكي المشاركة في حكومة الإسلاميين تارة، والرفع من سقف شروط المشاركة تارة أخرى... كل هذه التكتيكات تصب في صلب استراتيجية واحدة وتمتح من نفس المنهل، وتروم بالأساس تعقيد وضع بنكيران المعقد، وجعله ضعيفا أمام الرأي العام وأمام الناخبين، ودفعه قسرا إلى التفريط في أقوى حلفائه / حزب الاستقلال، وإضعاف قوته التفاوضية أمام منافسيه وخصومه، وتحويله إلى جلد ذاته عوض الاحتفال بفوزه الكاسح، ولا أدل على هذا من النقاش المفتوح اليوم داخل حزب العدالة والتنمية. وأمام هذا الوضع/المأزق، وأمام سؤال تأخر تشكيل الحكومة الذي تردد صداه بين المهتمين بالشأن السياسي بالمغرب، لما له من تأثيرات سلبية وتداعيات على الاقتصاد الوطني وعلى الاستثمار بالتحديد الذي يتنفس هواء الاستقرار، فإن المخرجات تبقى محدودة والسيناريوهات دقيقة بالنظر للمعطيات المتوفرة. وحسب رأيي المتواضع، فإن السيناريو الأول يتمثل في قبول بنكيران بشروط عزيز أخنوش بإبعاد حزب الاستقلال، وتشكيل تحالف على مقاس التجمع الوطني للأحرار ومن معه. إنه السيناريو الأقوى بين كل السيناريوهات، استحضارا للمبدأ العام في اللسياسة الذي يقر بألا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة وإنما المصالح هي الدائمة، إضافة إلى ما يبرر به حزب التجمع الوطني للأحرار موقفه من الأولوية المنهجية لضمان الانسجام الحكومي.. أو حتى إن قبل بوجوده في الحكومة فبوزارات لا تعكس قوة حزب الاستقلال السياسية والتاريخية ومكانته في المشهد السياسي؛ أي أن تقزم المشاركة في الحكومة من وزنه السياسي وتفرض عليه الانضباط للأغلبية الحكومية التي يعتبر بنكيران وأخنوش مهندسيها، وتضيق عليه هامش المناورة. هذا السيناريو سيمكن بنكيران من ضمان أغلبية مريحة جدا، لكنه سيظل رهينة في يد عزيز أخنوش الذي يستمد قوته من التحالف المحيط بحزبه بما في ذلك الاتحاد الاشتراكي (غير المعلن)، أضف إلى ذلك عدد الحقائب الوزارية ونوعيتها التي سيظفر بها هذا التحالف مراعاة لقوته التفاوضية. أما السيناريو الثاني فهو إعلان بنكيران فشله في تشكيل الحكومة إذا تعنث ورفض التفريط في حليفه حزب الاستقلال، ورفض الرضوخ لما أسماه "ابتزازا".. هذا السيناريو سيفقد شخص بنكيران زمام المبادرة خاصة وأن منطوق الفصل 47 من الدستور ينص على أن "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها .." . ولا يلزمه البتة تعيين شخص الأمين العام، أما تواتر تعيين الملك للأمين العام للحزب الفائز في الانتخابات كرئيس للحكومة (وهي المنهجية التي انطلقت مع عباس الفاسي/وزيرا أولا 2007، بعد غضبة عبد الرحمن اليوسفي الشهيرة 2002 على إثر تعيين الملك لإدريس جطو وزيرا أولا رغم تصدر الاتحاد الاشتراكي للانتخابات)، واصطلح عليها بالمنهجية الديمقراطية، مما يمكن ترقيتها إلى عرف دستوري... كل هذا لا يمنع من تعيين شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية حسب المنطوق الصريح للنص الدستوري، أما الفشل في تشكيل الحكومة بعد تعيين الشخصية الثانية من الحزب الفائز، فسيفتح المجال لفقهاء الدستور لإعمال التأويل الدستوري لعبارة " وعلى أساس نتائجها"، هذا إذا استحضرنا إعمال الفصل 42 من الدستور الذي ينص على أن " الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة . الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة..." .. وتجدر الإشارة بهذا الخصوص إلى أنه في حال اهتدت العدالة والتنمية إلى حكومة الأقلية، والتي ستجمعها بحزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية، فإنها سترفض بحجة أنها حكومة فاقدة للأغلبية، ومن شأن اعتمادها تهديد استقرار العمل الحكومي، وتعريضه للتعطيل المستمر. أما السيناريو الثالث، وهو إعادة الانتخابات، والتي لوح بها بنكيران غير ما مرة، فإن حصوله ضئيل جدا استحضارا للتكلفة المالية الباهظة للانتخابات، وما تستلزمه من تعبئة للموارد البشرية والإمكانيات المادية؛ بالإضافة إلى عدم قدرة العديد من الأحزاب السياسية الدخول في صراع انتخابي جديد، وهي التي خرجت من حلبة الصراع منهكة القوى. أضف إلى ذلك التخوف من العزوف على صناديق الاقتراع .. كما أن خيار إعادة الانتخابات صعب جدا في الظرف الحالي إن لم يكن شبه مستحيل، خاصة إذا وضعنا نصب أعيننا أن إعادة الانتخابات تشكل في حد ذاتها هامشا صغيرا جدا للخروج من المأزق الدستوري في ظل نمط اقتراع لا يتيح لأي حزب أو تكتل الحصول على أغلبية برلمانية مريحة. هذا إذا ما وضعنا نصب أعيننا إدراك الدولة العميقة أن إعادة الانتخابات من شأنها أن تبوئ حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى من جديد وبعدد أكبر من المقاعد. هناك سيناريوهات محتملة كثيرة، لكني ركزت على الممكن منها، لأني أناقش المخارج الممكنة من واقع البلوكاج دون أن أغرق القراء في سرد عقيم لمختلف السيناريوهات. وذلك في نظري مرده إلى أن السياسة هي فن الممكن في زمن المستحيل باعتماد منهج علمي يمزج بين الحقائق الثابتة والمتخيل القابل للتطبيق.. وهو ما يعني بالنسبة لي إسقاط العديد من السيناريوهات التي لا تراعي الخصوصية المغربية ولم تقف عند سيرورة الانتقال الدبمقراطي بالمغرب، ولم تعر الأهمية للتقاطب الذي عرفته الحياة السياسية المغربية في الآونة الأخيرة.. إن ما يؤشر عليه ما يعتمل في الساحة السياسية اليوم هو اتجاه النظام إلى عزل العدالة والتنمية من خلال ما نلاحظه من تشكل تحالف قوي يضم حزب الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. وتوجيه السهام لحزب الاستقلال لدفعه إما لفك ارتباطه مع العدالة والتنمية أو العزلة بعد إقصائه من المشاركة في الحكومة.. يمكن القول ختاما إن المغرب يعيش تحولا جذريا في مساره الديمقراطي، وهو ما يحتم عليه تغيير شيئين أساسيين : أولهما نمط الاقتراع الذي لا يسمح لأي حزب أو تكتل سياسي الحصول على أغلبية مريحة تسمح له بتطبيق برنامجه الانتخابي بكل حرية ومسؤولية، على أساسه تتم المحاسبة بعد انتهاء إيالته الانتخابية، مع ما يتطلب ذلك من رفع العتبة للحؤول دون البلقنة السياسية. والشيء الثاني هو تعديل الدستور حتى يجيب على كل الأسئلة المطروحة حاليا بوضوح وبدون حاجة إلى إعمال التأويل.