خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولسد العجز في مجال التعليم، وتوفير المؤسسات التعليمية، لجأت الدولة إلى حلول ترقيعية، وهي مدارس تتضمن حجرات تدعى «البناء المفكك»، وتنتشر على عموم التراب الوطني لتصل إلى حوالي 6000 حجرة دراسية في المدن والقرى، ورغم أن دورها، كان هو سد ثغرة الخصاص في المؤسسات التعليمية من حيث البنيات التحتية، إلا أن عواقبها وخيمة إلى درجة أنه يطلق عليها ب «مدارس الموت»، فهي الحجرات التي قد تسقط فوق رؤوس المعلمين والمتعلمين في أية لحظة، كما أن خيوطا حريرية، تحتويها هذه البنايات، تعتبر من أكثر العوامل المسببةلأمراض خبيثة كالسرطان وغيرها من أمراض التنفس والصداع، بعد أن يمتد الاشتغال بها لعشر سنوات.. في هذا التحقيق، تنقل «الأخبار» تفاصيل مدارس يدب الخوف في نفوس كل من وجد نفسه مكرها بتعيين وزاري للتدريس تحت سقفها «المميت»، ومن مدينة طنجة استطعنا الوصول إلى حالة رجل تعليم قضى 13 سنة من الاشتغال بها، قبل أن يتقاعد حاملا مرض التهاب الشعب الهوائية «البرونشيت» في رئتيه ويتقيأ الدم، فهل يمكن ربط هذه الإصابة والعشرات الأخرى بمادة «الأميانت» القاتلة ؟ تستوطن بمدينة طنجة على وجه الخصوص العشرات من المدارس ذات الحجرات المفككة، وخصوصا بأحياء بني مكادة، ومن ضمنها تكشف بعض المعلومات التي حصلنا عليها أثناء إنجاز هذا التحقيق، مدرسة الشريف الإدريسي التي بنيت سنة 1992، وقبلها مدرسة ابن زهر التي بنيت بسنوات، ثم تليها مدرسة عبد الكريم، ومدرسة 6 نونبر والطبراني ومدرسة 20 غشت، فضلا عن مدرسة ابن عجيبة، إلى جانب الثانوية الإعدادية المسيرة، حيث تعتبر هذه المدارس من أسوأ المؤسسات التعليمية التي يتعايش معها المئات من التلاميذ والأساتذة، في الوقت الذي يدب الخوف في نفوسهم، ما أن يتم تسجيل حالة مرضية. بعض المصادر التربوية كشفت أن عددا من التلاميذ مصابون بأمراض مزمنة، خصوصا المتعلقة بالتنفس وصداع الرأس، في الوقت الذي سبق وأن سجلت حالة وفاة، بمدرسة «الشريف الإدريسي» خلال السنوات الفارطة، ورغم محاولاتنا المتكررة للوصول إلى عائلة الضحية، ومدى وجود فرضية كون المرض له علاقة بالمدرسة، فإن هذه العائلة انتقلت من الحي الذي توجد فيه المدرسة قرب حي بئر الشفاء، ليختفي معها الموت اللغز. لقد كشف عدد من الأساتذة الذين التقتهم الجريدة، أن لا حديث في أوساطهم، خصوصا العاملين في هذه الحجرات، سوى عن تخوفهم وتوجسهم، من مغادرة سنوات العمل، وهم حاملين لأمراض خبيثة، قد يتسبب فيها ضغط العمل من جهة، أو هذه المواد المسرطنة من جهة ثانية، سيما وأن البنايات التحتية للمدارس المذكورة مهترئة، وهو ما يزيد من شدة الخطر. خطورة «الأميانت» تكشف بعض المعطيات العلمية أن مادة «الأميانت» أو «الأسبست» هي تركيبة تتكون من مجموعة معادن من زمرة «التريموليت» وتتألف من ألياف يتم استخراجها من مناجم خاصة ومنتشرة بشمال إفريقيا. وتضيف المعلومات ذاتها، أن استخدام إسمنت «الأميانت» انطلق منذ السبعينيات من القرن الماضي، خصوصا في مجال البناء وتسقيف المنازل والعوازل الداخلية والخارجية وأنابيب صرف المياه والأدخنة، كما تدخل ألياف «الأميانت»، حسب المعطيات المتوفرة، في صناعة أغلفة الأبواب المقاومة للحريق والخزائن الفولاذية، وأيضا في صناعة الملابس الواقية من الحريق وكوابح السيارات وبعض أجزاء السيارات، وكذلك كمادة عازلة للكابلات والأسلاك واللوحات الكهربائية. وقد كشف العلماء أن خطورة هذه المادة تكمن في نوع المواد المعدنية الموجودة فيها، ومدى تأثيراتها الصحية على المدة الزمنية التي يتعرض لها الإنسان، وكذلك على عدد الألياف وطولها ومتانتها. وتَبين وجود علاقة وثيقة بين المدة الزمنية للتعرض لألياف «الأميانت» وشدة التعرض وبين التأثيرات السلبية على صحة الإنسان، إذ تظهر أعراض المرض بعد التعرض المزمن لألياف «الأميانت» بعد أكثر من 15 سنة من العمل تحت سقفها. وقد صنفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان وهي تابعة لمنظمة الصحة العالمية، «الأميانت» كمادة مسرطنة تسبب أوراما خطيرة عبر وسيلتين رئيسيتين، عن طريق الهواء، أوالاستنشاق خاصة في أماكن العمل، أو عن طريق مياه الشرب، حيث أكدت الوكالة الأمريكية لحماية البيئة في أمريكا أن التعرض لألياف «الأسبست» عن طريق مياه الشرب يصيب الإنسان بأمراض سرطانية في الجهاز الهضمي. كما تنتج عن تعرض العاملين في إنتاج أو صناعة أو وسط به «الأميانت» أمراض عديدة من أخطرها داء الأميانت (الأسبستوز) وسرطان الرئة، تضيف المعطيات العلمية المتوفرة، خصوصا لدى المنظمات العلمية. ويعد داء «الأميانت» وفق المعطيات المتوفرة، مرضا رئويا مزمنا يصيب الرئتين نتيجة استنشاق ألياف «الأميانت» التي تتميز بدقتها الشديدة، والتي تعمل على خفض كفاءة الرئتين والجهاز التنفسي بشكل عام، حيث يحدث اتصال مباشر بين الألياف والخلايا في الرئة ما يؤدي إلى تحول خبيث لهذه الخلايا، وبالتالي ينتج عن ذلك سرطان الرئة. ولوحظ أن المدخنين أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض الذي تكمن خطورته في أن أعراضه تظهر بعد مرور ما بين 15 و20 سنة. وفي الوقت الذي وقعت منظمة العمل الدولية في دورتها ال92 اتفاقية بحظر هذه المادة التي تعرف باسم «الحرير الصخري»، فإن المئات من الحجرات لا تزال ضاربة في أعماق جبال الريف والأطلس الصغير والكبير على المستوى الوطني، خصوصا وأن اتفاقية الحظر نبهت إلى خطورة الأمر، كما وضعت هذه الاتفاقية استثناءات من الحظر في حالات معينة حددتها بشروط اتخاذ إجراءات وتدابير صارمة تضمن عدم تعرض العمال للخطر. ناقوس الخطر سجلت منذ سنة 2008 عدة وقفات احتجاجية، على المستوى الوطني، وذلك كإشارة للفت الانتباه إلى خطورة البناء المفكك ومدى تأثيره الخطير على صحة الإنسان، حيث سبق للأطر التربوية والتلاميذ بالثانوية التأهيلية عبدالله كنون بمدينة وجدة، أن انخرطوا في ذلك كما وجهوا شكايات، يعلنون فيها استنكارهم للحالة المزرية التي أضحت عليها هذه المؤسسة، جراء التصدع الذي أصاب الجزء الكبير من بنايتها، وكذا التسربات المائية التي أصبحت تغزوا الأقسام وتعطل السير العادي للدراسة سواء في مواسم الأمطار أم في غيرها. هذه التصدعات بحسب المشتكين، أصبحت تشكل خطرا مستديما على حياة المتعلمين والمدرسين وكل العاملين بالمؤسسة. وتتضمن المؤسسة عددا من الحجرات المكونة من البناء المفكك الذي تجاوز عمره الافتراضي بعدة سنوات وبالتالي، يضيف المحتجون، فإنه يشكل خطرا صحيا كبيرا على الناشئة، بعد أن أثبتت التجارب أن البناء المفكك يسبب مرض السرطان. وخلال الشهرين الماضيين، دخل عدد من الأساتذة والتلاميذ بمدرسة ابتدائية بمدينة طنجة، في وقفات صامتة، لمحاولة لفت الانتباه إلى خطورة الوضع، بيد أن لا أحد انتبه إلى الأوضاع التي يدرس فيها الجميع، في الوقت الذي تدخلت المصالح النيابية لمحاولة طي الملف وتقديم وعود بالقضاء على هذه المدارس التي توصف ب «مدارس الموت»، كما راسل عدد من الأطر التربوية الوزارة الوصية، فضلا عن مصالحها على المستوى المحلي، يقول فيها هؤلاء إن الحجرات الدراسية من البناء المفكك المصنوعة سقوفها من إسمنت صلب ممزوج بمادة «الأميانت» السامة المسببة للسرطان، متصدعة الجدران، محفرة الأرضية مهترئة الأبواب والنوافذ وأن سقفها يقطر كلما أمطرت السماء، وأن هذه الحجرات لا تقي حرا صيفا ولا قرا شتاء، كما صنف هؤلاء الأطر التربوية الذين كسروا ما يشبه «جدار الصمت»، هذه المؤسسات بالمهددة لسلامتهم النفسية والجسدية، وأنها تمس بسلامة الجميع في مرفق عمومي كان من الأجدر أن يكون مفعما بالحياة والمردودية. اعتراف رسمي أثناء البحث والتنقيب في هذا الملف على وجه التحديد، أقفلت كل الأبواب الرسمية في وجه الجريدة، بدءا بالمكتب الصحي داخل نيابة وزارة التربية الوطنية بمدينة طنجة، وانتهاء بمندوبية الصحة على المستوى المحلي. كان هدفنا الحصول على لائحة عن الأساتذة المصابين بالسرطان لعل خيطا يصل بنا إلى وجود علاقة بين التأثير السلبي لمادة «الأميانت» وهذه الإصابات، بيد أن كل ما استطعنا الوصول إليه، هو اعتراف رسمي مقتضب، من قبل النائب المعفي من مهامه سعيد بلوط الذي أكد أنه تم تسجيل إصابات في هذا الإطار، كما كشف عن بعض الإحصائيات المتعلقة بالحجرات التي تم القضاء عليها، حيث يتجاوز الأمر 67 حجرة، في حين لا تزال حوالي 129 حجرة لم يتم تفكيكها، وتوجد أغلبها في العالم الحضري لمدينة طنجة، مضيفا أن هناك حالات مرضية ليست مرتبطة ضمنيا بالبناء المفكك، مشددا على أن هناك إصابات أيضا في صفوف التلاميذ. أما عن إمكانية وجود شكايات مقدمة حول هذا الموضوع، فقال إن النيابة لم تستقبل يوما شكاية ترتبط بمادة «الأميانت»، لكنه عاد ليعترف بأن هناك إصابات في صفوف أساتذة التعليم الابتدائي، كما وصف هذه الحجرات بغير الصحية، وينبغي القضاء عليها، على حد تعبيره. حامل للمرض بعد طول البحث عن الأساتذة المصابين بالسرطان، بعدما امتنعت المصالح الوزارية بطنجة، عن مدنا بمعلومات شخصية عنهم رغم الحركات الانتقالية التي تساهم في اختفاء آثار هؤلاء محليا، كان من الأجدر البحث بين أجنحة المستشفيات، خصوصا وأن مصادر داخل المندوبية الجهوية للصحة، رمت بدورها الكرة في ملعب الوزارة الوصية، وأن لا معلومات لديها، إلا أن بعض المصادر قادتنا إلى مستشفى «الدوق دي طوفار»، حيث يوجد أستاذ سابق للتعليم الابتدائي، يسمى «م، ز». الأخير أنهك المرض جسمه وأضحى ككرة نار ترميها كل مؤسسة صحية إلى أخرى، حيث كان من ضمن من درس بهذه المدارس المميتة. وفي تصريح خاص، قال الأستاذ إن حوالي 34 سنة، قضاها بين المدارس الوطنية متنقلا بين الصحراء وشمال المملكة، حيث درس حوالي 21 سنة بالسمارة، و13 سنة في إحدى المدارس المحيطة بمدينة طنجة، لكن الأخيرة كانت تضم ما يعرف بالأقسام المفككة. وحول إمكانية كون هذه الحجرات لها ارتباط مباشر بمرضه الخطير الذي هو عبارة عن التهاب الشعب الهوائية «البرونشيت»، نفى الأستاذ ذلك مكتفيا بالقول إن المرض كان يعاني منه منذ زمن، لكنه عبر عن امتعاضه من الاستهتار به كموظف دولة، قضى سنوات في تربية الأجيال، قبل أن يجد نفسه ضحية تلاعبات الأطباء بالمستشفيات المحلية على حد تعبيره، علما أن الوزارة الوصية، لا تغطي النفقات المتعلقة بمثل هذه الأمراض التي تحتاج إلى مبالغ مالية طائلة. وفي الوقت الذي ازدادت حالته سوءا مباشرة بعد إحالته على التقاعد، وهو الذي قضى أزيد من 10 سنوات داخل هذه الحجرات، فإن مادة «الأميانت» يكون تأثيرها قويا ومضرا بالصحة، حسب المعلومات العلمية، حين يتجاوز الفرد 10 سنوات من الاشتغال تحت بنايات تحتوي على هذه المادة، علما أن هذا الأستاذ بدأ يتقيأ الدم بشكل فظيع. صمت وزاري كان آخر ما صدر عن وزارة التربية الوطنية حول هذا الموضوع، هو بلاغ منذ شهر مارس من السنة المنصرمة، قبل أن تلوذ بالصمت المطبق، رغم التحذيرات والاحتجاجات المتتالية، تقول فيه الوزارة الوصية، أنها تنويرا للرأي العام بعد الضجة التي أثيرت حول هذه القضية، فإنها توقفت منذ سنة 1997 عن استعمال البناء المفكك في إحداث الحجرات الدراسية، وأنها قامت في إطار التدابير ذات الأولوية وخاصة تلك المتعلقة بتأهيل المؤسسات التعليمية، بعملية جرد شاملة لكافة الحجرات الدراسية المشيدة، بالبناء المفكك، غير أن النقطة المثيرة في هذا البلاغ هو قولها «إن مادة الحرير الصخري أو «الأميانت» لا تشكل خطرا على سلامة الأشخاص، إلا إذا كانت البنايات في وضعية جد متدهورة أو عند تعرضها لعملية حفر أو قطع أو أية عملية أخرى قد تؤدي إلى إفراز جسيمات منها»، وهو الأمر الذي تكشف عنه صور لبعض المدارس بمدينة طنجة، وصلت حالتها إلى الحضيض، كما تعرضت البنايات لشقوق، تدخل منها أشعة الشمس بشكل مباشر نحو طاولات التلاميذ، كما كانت هذه النقطة محطة احتجاج واسعة قصد دفع المصالح الوزارية للتدخل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. في الوقت الذي كشفت في البلاغ الذي يوصف ب «المنسي»، بين الأطر التربوية، أنها خصصت اعتمادا ماليا سنويا قدر ب 200 مليون درهم لتعويض هذه الحجرات المفككة بالأخرى من البناء العادي.