ترغة حاضرة المغرب الإسلامي الإفريقي العميق : تجمع كتابات تاريخية كثيرة على أن مسجد ترغة هو أول مسجد بالمغرب – بل وفي إفريقية كلها بعد جامع القيروان- مسجد عقبة ابن نافع الفهري التابعي الجليل، أسسه عند دخوله المغرب في حدود سنة (62ه - 681 م) بضاحية ترغة ببني زيات، إحدى قبائل غمارة على ساحل المتوسط، يبعد عن تطوان بنحو (60 كلم) وقد هذا جانب من تاريخ الإسلام، لم ينل حظه من عناية الباحثين والدارسين، والمسجد- منذ عهوده الأولى- وهو يؤدي مهمتين مزدوجتين: العبادة، والتعليم، فكان المسجد والمدرسة في آن واحد، وخير مثال لذلك: المسجد النبوي بالمدينة، فهو أول معاهد العلم في الإسلام، أنشأه الرسول عليه السلام، وكان يدرس فيه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كبار الصحابة والتابعين، وفيه نشأت أصول الفقه المالكي على يد مؤسسه الإمام مالك (1) رضي الله عنه. وسنخصص هذه الحلقة لمساجد المغرب في الفتح الإسلامي، فالمسجد أول ما يفكر فيه المسلمون عند إنشائهم مدينة جديدة، أو فتحهم لمدن غيرهم. 1- ولعل أول مسجد بالمغرب – بل وفي إفريقية كلها بعد جامع القيروان- مسجد عقبة ابن نافع الفهري التابعي الجليل، أسسه عند دخوله المغرب في حدود سنة (62ه - 681 م) بضاحية ترغة ببني زيات، إحدى قبائل غمارة على ساحل المتوسط، يبعد عن تطوان بنحو (60 كلم) وقد انمحت لآثاره، ولكنه لم ينمح من ذاكرة الأهالي، فهو – الآن- عبارة عن روضة تكتنفها أشجار كثيفة من سائر جهاتها ومن الصعب جدا دخولها؛ ومع ذلك، فهم لا يزالون يحترمونه ويعظمونه ويؤدون الأيمان المغلظة عنده إرهابا للخصوم. ثم واصل عقبة طريقه إلى طنجة حاضر المغرب، وكانت- وقتئذ – تحت إمرة يليار أمير غمارة، (2) ولم تكد تصل طلائع جيش عقبة إلى ضواحي طنجة حتى خلف "يليان" لاستقباله والترحيب به، مثقلا بالمال والهدايا الثمينة؛ وقد صدقت فراسة "يليان" في "عقبة"، فهو بعد أن كان صمم العزم على أن يعبر البحر لفتح الأندلس، رأيناه يغير اتجاهه، ويسلك طريقا آخر غير الذي كان أراده. ويختصر ابن خلدون العبارة، ويطوي المراحل، فيقول: " ودخل المغرب الأقصى، وأطاعته غمارة وأميرها يومئذ يليان". (3) وكان قد دله على عورات البربر وراءه بمدينة وليلي، وبلاد مصمودة؛ ففتحها عقبة، وغنم وسبي (4)، ثم توجه إلى وادي درعة والسوس، فنزل بضفة وادي تانسيفت، وغزا مدينة نفيس، وحاصر بها الروم ونصارى البربر. (5) 2- وبنى هناك مسجدا يعرف برباط شاكر، وشاكر هذا من أصحاب عقبة، (6) أنزله به على رأس حامية فنسب إليه؛ ويبعد عن مراكش بنحو (85 كلم)، وكان أقام به المولى إدريس الثاني – إلى عام (197- 812) (7) وقد اندثرت رسومه- منذ المائة الثالثة للهجرة، حتى أحياه السلطان المولى محمد بن عبد الله عام (1187 - 1773). (8) 3- وهناك مسجد ثالث بوادي ماسة بالسوس الأقصى على شاطئ المحيط، يقال إنه من بناء عقبة؛ ومع طول الزمن دفنته الرمال، ولم يبق له أثر. (9) ويذكر ابن عذاري عن شيخه أبي علي: صالح بن أبي صالح: " إنه لم يصح عنده أن عقبة حضر بنيان شيء من المساجد بالمغرب، إلا مسجد القيروان، ومسجده بدرعة – السوس الأدنى- ويعنى به رباط شاكر؛ ومسجد بالسوس الأقصى؛ (10) ومن هناك صار عقبة حتى بلغ المحيط بآسفي، فأدخل قوائم فرسه في البحر حتى وصل الماء تلابيبه، فرفع يديه إلى السماء وقال:"يا رب، لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنين، مدافعا عن دينك، مقاتلا من الكفر بك". (11) 4- ويأتي بعد هذا: مسجد موسى بن نصير المعروف بالبيضاء، أسسه (12) بربوة عالية بمدر بني عمران (قبيلة بني حسان)، يبعد عن تطوان بنحو (30 كلم)؛ وهو مسجد صغير، مربع الشكل، طوله نحو نصف دائرة، طول محرابه: متر ونصف على 70 سم عرضا؛ وهو محكم البناء، بني بالجير والحصى الدقيق (الطابية)، وأرضه حصباء تبدو فيه حفر، ويقال: إن الناس كانوا يدفنون فيه أموالهم عند الفزع، ومن معتقداتهم: أن كل من أخذ منه شيئا لابد أن يصاب بسوء، ولا زالوا يتبركون به إلى الآن، وقد سقط سقف مدخله، وتلاشت أبوابه، وأصاب الوجه الخارجي منه بعض تلاشي؛ ويبدو أنه أدخلت عليه بعض إصلاحات عبر عصور التاريخ، وعلى مقربة منه ثلاث عيون جارية، إحداها من جهة الشرق، وتعرف بعين التين، ولعل هذه التسمية جاءتها ممن كثرة أشجار التين التي كانت هناك؛ والأخرى من جهة الغرب، وتدعى بعين الحجاج بها، وربما كانوا يعتقدون بركتها؛ والثالثة من جهة الجنوب، وتسمى بعين تطليحات؛ وهذه العيون – على ما يبدو – كانت معدة للوضوء، وتتفق جميعها في المسافة بينها وبين المسجد بنحو كيلو متر واحد؛ وظل مسجد موسى بن نصير يؤدي المهمة المتوخاة منه، تقام فيه الصلوات الخمس ويتلى به كتاب الله إلى أن هجره الناس منذ زمان، واقتصروا فيه على إقامة صلاة العيدين، وقد أصبح اليوم مهجورا بالمرة. ومن العلماء الذين زاروا هذا المسجد التاريخي أبو الحسن مصباح الزرويلي المتوفى سنة (1130ه - 1712م). يقول في هذا الصدد: "وقد رأيت مسجدا صغيرا متقن الصنعة، على رأس كدية عالية في الهواء، في جبال بني حسان قرب مدينة تطوان، أجمع أهل ذلك البلد على أنه من عمل موسى بن نصير، نقلو ذلك خلفا عن سلف". (13) وزاره كذلك وتفقد أحواله السلطان المولى الحسن الأول في رحلته الخامسة عشرة إلى القبائل الجبلية يوم الأربعاء خامس محرم سنة (1307 - 1889). (14) 5- مسجد أغمات هيلانة (أيلان)، كان بناؤه عام (85 ه - 704 م) على ما يذكره ابن عذاري المراكشي (15)، ولعله من عمل موسى بن نصير، إذ في حدود هذا التاريخ غزا موسى بن نصير السوس الأدنى وبلاد درعة، (16) ويكتنف هذا التاريخ غموض واضطراب، فابن عذاري يذكر أن ولاية موسى بن نصير على افريقية والمغرب كانت سنة (86 ه - 705 م) (17) بينما يجعل ولاية طارق على طنجة والمغرب الأقصى في سنة (85 ه - 704 م)؛ ولعل هناك تحريفا أو سقطا؛ ويبدوا أن هذا المسجد خرب منذ زمان، وقد بناه من جديد السلطان المولى محمد بن عبد الله، وكان الروع في تأسيسه في فاتح رجب عام (1202 ه -1787 م) (18). ويلاحظ أن موسى بن نصير ربما كان لا ينزل بلدا إلا وبنى به مسجدا، فهو عندما عبر البحر إلى الأندلس سنة (93 ه -712 م)، واستصحب معه ثمانية عر ألفا من خيرة جنده؛ قسمهم فرقا بحسب قبائلهم وأصولهم ومراتبهم، وكان لكل جماعة راية، فانتظرهم هناك بمكان على مقربة من الجزيرة الخضراء، حيث ابتنى فيه مسجدا، وأخذت الرايات تفد عليه في ذلك الموضع؛ بعرف بمسجد الرايات، وظل عامرا قرونا متطاولة.(19) 6- مسجد طارق بن زياد بالشرافات، على بعد نحو (30 كلم) من شفشاون، ذكره ابن عسكر وقال: " إنه أسس أواخر القرن الأول للهجرة" (20) والمحتمل أن تأسيسه كان في حدود سنة (85 ه - 704 م) عندما ولاه موسى بن نصير على طنجة ونواحيها، وعهد إليه بالعمل على نشر الإسلام فيما يجاور طنجة من بربر غمارة وبرغواطة. (21) - آثار عصر الفتوح الإسلامية بالمغرب: لم يمض على دخول الفاتحين إلى المغرب ربع قرن ن الزمن حتى تم إسلام المغاربة أوكاد؛ وبنيت المساجد بالحواضر والبوادي- كما أسلفنا- وحولت معابد المشركين وكنائس النصارى- بعد إسلامهم – إلى جوامع (22)، ووضعت المنابر لمساجد الجماعات على حد تعبير ابن عذار – (23) ثم دور التعليم، وإشاعة الإسلام؛ فكانت هناك بعثات تعليمية في فترات من التاريخ، نذكر منها: * بعثة عقبة ابن نافع الفهري التي كان يرأسها شاكر بن يعلى بن واصل أو مصلين (24) ويقال: اكر بن عبد الله الأزدي، (25) وهو من أصحاب عقبة بن نافع، وأحد مشاهير التابعين؛ (26) وهو الذي علم المصامدة وغيرهم أمور دينهم؛ (27) وكانت له أخبار مع رجراجة في الجهاد، (28) وظل يقاتل كفار برغواطة وغيرهم إلى أن توفي هناك؛ (29) ونجهل كل شيء عن بقية أفراد هذه البعثة. * وتأتي بعد هذا: بعثة موسى بن نصير، وتتكون من سبعة عشر رجلا من العرب، أمرهم موسى أن يعلموا البرابر القرآن، وأن يفقهوهم في الدين؛ (30) ولا نكاد نعرف شيئا عن هذه البعثة؛ ولعل من بينهم هؤلاء الفقهاء الذين هدوا مع موسى ابن نصير فتح الأندلس، وهم: حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني، ت: (100ه - 718م). (31) • وأبو عبد الله محمد بن أوس الأنصاري ت: (102ه - 720م).(32) • والمغيرة بن أبي بردة الكناني ت(33) على أنه في فترة قصيرة برز على الساحة السياسية مجموعة أبطال من البربر، أمثال طارق ابن زياد – معجزة التاريخ، (34) وطريف بن ملوك، وزرعة بن درك، وغيرهم ممن ولاهم موسى مهام خطيرة في المغرب والأندلس برهنوا فيها على كفاءتهم، وحتى في الجانب الثقافي، فلا ننسى خطبة طارق بن زياد في آلاف البربر، وأثرها في نفوسهم:" أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم – عند الله- إلا الصدق والصبر".(35) * وتوجت هذه البعثات، ببعثة عمر بن عبد العزيز. خامس الخلفاء الراشدين؛ فقد ولى على ريقية والمغرب إسماعيل بن عبيد الله بن علي المهاجر القرشي المخزومي، فكان خير، وخير أمير؛ أسلم على يديه بقية البربر الذين كانوا لم يسلموا – بعد- في ريقية، وكانت بعثة عمر بن عبد العزيز تتكون من عشرة فقهاء من التابعين أهل والفضل، لكن أكثر هؤلاء الفقهاء يتجاوزوا حدود إفريقية والقيروان. وسنذكر بعض الذين دخلوا المغرب، أو شاركوا مع موسى بن نصير في فتح الأندلس، مهم: * أبو عبد الرحمان، عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي، تفقه به أهل افريقية، وبث فيهم علما كثيرا؛ شهد فتح الأندلس مع موسى بن نصير، ثم سكن القيروان وتوفي بها سنة (100 ه - 718م).(36) * سعد بن مسعود التجيبي، سكن القيروان، وبث فيها علما كثيرا، وتوفي بها.(37) * أبو الجهم عبد الرحمان بن نافع أو رافع التنوخي، سكن القيروان، وكان أول من استقضى بها بعد بنائها، ولاه موسى ابن نصير سنة(80- 699).(38) * طارق بن جابان الفارسي، كان فقيها عالما فاضلا من فقهاء مصر الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى المغرب ليفقهوهم.(39) * حبان بن جبلة، عده أبو العرب من العشرة التابعين، و كان من أهل الفضل والدين؛ سكن القيروان، وانتفع به أهلها (ت: 125 ه - 702م). (40) - مجلس علم وفتوى ومشورة: لم تكن مهمة هؤلاء الفقهاء العشرة مقصورة على تعليم البربر وتفقيههم فحسب، بل كانوا كذلك أهل فتوى ومشورة لدى القادة الفاتحين. فهذا حنظلة بن صفوان الكلبي، (41) كان هشام بن عبد الملك ولاه على افريقية والمغرب، وكان ذا ورع ودين، ولما ثارت عليه الخوارج- وهو بطجة- جمع طائفة من هؤلاء الفقهاء، ليرى رأيهم في ذلك؛ فكان منهم: سعد بن مسعود التجيبي، وطلقة بن جابان الفارسي، وحبان بن أبي جبلة القرشي مما ذكرناهم آنفا وسواهم؛ فكبوا في ذلك رسالة مفتوحة، ليقتدي بها المسلمون، ويعتقدوا ما فيها، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من حنظلة بن صفوان إلى جميع أهل طنجة. أما بعد: فإن أهل العلم بالله وبكتابه، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه يرجع جميع ما أنزل الله عز وجل إلى عشر آيات: آمرة، وزاجرة، ومبشرة، ومنذرة، ومخبرة، ومحكمة، ومشتبهة، وحلال، وحرام، وأمثال. فآمرة بالمعروف، وزاجرة عن المنكر، ومبشرة بالجنة، ومنذرة بالنار، ومخبرة بخبر الأولين والآخرين، ومحكمة يعمل بها، ومتشابهة يؤمن بها، وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر ان يجتنب، وأمثال واعظة؛ فمن يطع الآمرة، وتزجره الزاجرة، فقد استبشر بالمبشرة، وأنذرته المنذرة، ومن يحل الحلال، ويحرم الحرام، ويرجح العلم فيما اختلف فيه الناس- إلى الله- مع طاعة واضحة، ونية صالحة؛ فقد فاز وافلح وأنجح، وحيي حياة سعيدة في الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(42) وهكذا كان المسد بالمغرب في عصر الفتوح الإسلامية إلى انب كونه بيتا من بيوت الله، ينادى فيه كل يوم خمس مرات: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله، (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة). كان منار إشعاع، وتثقيف، وتعليم وكان المعلمون فيه من الطراز الأول في العلم والمعرفة، والأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن؛ فبفضل جهودهم وجهادهم: تعلم المغاربة أصول الإسلام، يقرؤوا القرآن، وعرفوا اللغة العربية، ورسخت في قلوبهم جذور العقيدة الإسلامية. ومن المسجد كذلك، كان منطلق الدعاة والقادة الفاتحين، وكانوا يرون الدعوة من الجهاد الأكبر، ويعتبرون القتال من الجهاد الأصغر؛ ويؤمنون بأن تعليم القرآن، والتفقه في الدين، ونشر الإسلام، من أجل العبادات، وأرفعها قدرا. .. ترغة "مرضية الوطن" : و تبقى ترغة بجغرافيتها الثابتة و تاريخها المتجذر و أهاليها الأشاوس، منارة علم و معلمة تراثية فارضة ذاتها رغم جرافات الإقصاء و أعاصير الاستئصال ، لأن الحق يعلو و لا يعلا عليه مهما تقلبت الأزمان و تكدرت القلوب و عميت الأبصار .