ينشر بالاتفاق بين أريفينو و الكاتب د.جميل حمداوي عن كتابه ثقافة الأمازيغيين وحضارتهم الأمازيغ والإسلام: لم يدخل الإسلام شمال أفريقيا إلا مع الفتوحات الإسلامية التي سن سياستها الخلفاء الراشدون ، وامتدت مع خلفاء الدولة الأموية. فقد انشغل عمرو بن العاص كثيرا، عندما فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب، بمواصلة نشر الإسلام في شمال أفريقيا، فاستأذن الخليفة عمر بن الخطاب (ض) في فتح برقة وطرابلس، فكتب إليه قائلا:" إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين أفريقية تسعة أيام،فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوة فعل"، فكتب إليه عمر:"لا...إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة،غادرة مغدور بها،لا يغزوها أحد مابقيت". [1] وقد استصعب عمر بن الخطاب فتح بلاد البربر لقوة شكيمة الأمازيغيين، وصعوبة إخضاعهم، وسرعة تقلب مزاجهم، ووعورة بلادهم، ومخافة من تعسف الولاة في معاملاتهم للبربر عن طريق المغالاة في الضرائب والجبايات، وسوء التصرف مع كبراء القوم وأسيادهم. ويروي لنا كل من البلاذري وابن عبد الحكم أن عمرا بن العاص، لما فتح الإسكندرية ، سار في جيشه يريد المغرب حتى قدم برقة، فصالح أهلها ، بعد أن انهزموا في المعركة أمام قوة جيشه العتيد، ثم فرض عليهم أن يهيئوا له" ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية على أن يبيعوا من أحبوا من أبنائهم في جزيتهم" [2]. وكانت برقة يومئذ من أخصب أراضي القارة الأفريقية، حتى إن سكانها كانوا يرسلون الخراج بكل طواعية إلى والي مصر بدون حاجة إلى الجابي. ومن ثم، كان فتح برقة سنة 21ه، فتابع عمرو بن العاص فتوحه، ثم غزا طرابلس التي افتتحها عنوة سنة22ه.[3] ولما تولى عثمان بن عفان (ض) إمامة المسلمين، قرر نشر الإسلام خارج الجزيرة العربية، لكن هذه المرة ليس في اتجاه الشرق كما فعل عمر بن الخطاب(ض)، بل الاتجاه غربا نحو البحر الأبيض المتوسط، وبالضبط إلى ربوع أفريقيا الشمالية. وهكذا، بدأ التفكير في إحياء مشروع نشر الإسلام نحو غرب مصر عبر مراحل اتسمت بالمد والجزر[4]. وعليه، فأول ما قام به عثمان بن عفان أن عزل عمرا بن العاص ، وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح على مصر الذي أرسل بعض السرايا لمهاجمة أطراف أفريقيا، فكانت لا ترجع إلا بعد حصولها على الغنائم. وبعد ذلك، فكر ابن أبي سرح جديا في فتح شمال أفريقيا، فاستأذن في ذلك عثمان بن عفان الذي أذن له ذلك سنة 27ه، فخرج في جيش، قوامه عشرون ألف جندي من عرب الجزيرة العربية وقبط مصر وبربر من أفريقيا، كما شارك فيه بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كمروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فخاض القائد المسلم معركة ضد البطريق جورجيوس حاكم أفريقيا القسطنطيني الذي ولاه هرقل واليا على الشمال الأفريقي حيث استبد بالحكم لصالحه، فانهزم الروم في هذه المعركة شر هزيمة. لكن القواد البيزنطيين صالحوا عبد الله بن أبي سرح على مبالغ طائلة من الذهب ، على أن ينسحب بجيشه من أفريقية، وعاد بن أبي سرح إلى مصر دون أن يولي أحدا لمدة 17 سنة." وعلى الرغم من أن عثمان بن عفان لم يمانع في فتح الشمال الأفريقي حيث أرسل جيشا دخل تونس بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح قبل سنة 30ه، فإن الاهتمام الحق بهذه المنطقة لم يبدأ إلا على عهد الأمويين الذين لم يقنعوا بفتحها، بل حاولوا إقامة حكمهم عليها، وربطها بمركز الخلافة. والحق أنه كان لابد لدولة الإسلام على عهد الأمويين، وقد ذهبت بعيدا في الفتوح، أن توجه اهتمامها لحوض المتوسط ، وما يحيط به من بلاد ، وما يزخر به من تجارة، خاصة وأنهم كانوا- على عكس الخلفاء الراشدين- مهتمين بشؤون البحر. ولكن الأمر لم يكن يسيرا على الإطلاق، ففي الوقت الذي استطاع المسلمون أن يقيموا خلال بضع سنوات دولة واسعة الرقعة في المشرق، فإنهم ظلوا زهاء قرن من الزمان يحاولون أن يثبتوا دعائم الدين الجديد في بلاد الشمال الأفريقي".[5] ولم يفتح المسلمون شمال أفريقيا ، في عهد الخلفاء الراشدين وسلاطين الدولة الأموية، إلا لعوامل عدة تتمثل: في يسر الإسلام ، ونبل أخلاقه، وسوء الإدارة البيزنطية بعد وفاة الإمبراطور جوستنيان ، وعدم وجود روابط سياسية أو دينية بين البربر، ورغبة البربر في التخلص من نير الاحتلال البيزنطي. ومن هنا، فقد عين معاوية بن سفيان سنة45 ه ابن حديج؛ والي مصر، قائدا للفتوحات الإسلامية في أفريقيا، وكان ابن حديج تابعا لسلطة الخليفة مباشرة. وقد دخل هذا القائد شمال أفريقيا لإغاثة هباهيا Habahia الذي طالبه هرقل بالغنيمة نفسها التي قدمت للمسلمين (300 قنطار من الذهب)، ولما امتنع أرسل هرقل قائده نقفور لمقاتلته، فالتجأ هباهيا إلى معاوية بن أبي سفيان للتحالف معه ضد هرقل، فأرسل الخليفة معه جيشا جرارا ، فدخل الجنود تونس، فالتقى الجيش العربي مع جيش هرقل في مدينة قونية التي ستبنى عوضها مدينة القيروان، فانتصر المسلمون في المعركة، وهرب الجيش البيزنطي إلى سوسة، فلحقه المسلمون هناك، فاستولوا على المدينة كما استولوا على بنزرت. وفتح ابن حديج ، في هذه الحملة العسكرية، بنزرت وجلولا وجربة وسوسة، ثم عاد متنصرا إلى القاعدة العسكرية والإدارية بمصر. ولم تكن هذه المناوشات إلا امتدادا لفتح أفريقية الشمالية، و قد دام هذا النوع من المد والجزر على مستوى الفتوحات الإسلامية من سنة 27ه إلى سنة 45ه. وعليه، فقد عين عقبة بن نافع واليا على أفريقية سنة 46ه. وبقي، في حملته الأولى، خمس سنوات، ودخل ، أثناء توليته، مجموعة من الحصون والمدن في طريقه لفتح أفريقيا، خاصة في ليبيا وتونس، وأسس مدينة القيروان سنة 62ه، لتكون عاصمة لحكمه، ومركزا استراتيجيا لانطلاق قواته العسكرية في نشر الإسلام عبر ربوع شمال أفريقيا. وقد استعان عقبة بن نافع في تحركاته بجيش يتكون من القوات العربية والقوات البربرية التي كانت تحارب المرتدين عن الإسلام والمتمردين المتعصبين والمنشقين عن سلطة الخلافة جنبا إلى جنب. وفي 51ه، عين معاوية بن أبي سفيان سلمة بن مخلد الأنصاري واليا على مصر والمغرب العربي، فعين هذا الأخير بدوره أبا المهاجر دينار واليا على أفريقيا لمدة سبع سنوات؛ بسبب خوف سلمة بن مخلد من قوة عقبة بن نافع القيادية، وخشيته من مكانته الكبيرة، وحظوته لدى الخليفة الأموي، وكان بين أبي المهاجر وعقبة بن نافع عداوة كبيرة أدت إلى عزل عقبة من منصب قائد الجيوش، وحامل لواء الفتوحات الإسلامية في المغرب العربي. وقد واصل أبو مهاجر دينار فتوحات عقبة بن نافع، فوصل إلى غرب الجزائر، ولم يلق مقاومة تذكر، سواء من قبل الروم أم من البربر، وأسلم كسيلا وقبيلته أوربة عند دخول أبي المهاجر إلى الجزائر لنشر الإسلام. لكن عقبة بن نافع قد احتج لدى الخليفة يزيد بن معاوية، ومن عليه بما قام به من خدمات جليلة لصالح الخلافة الأموية، فعينه يزيد مرة أخرى واليا على أفريقيا، ليواصل حملته الثانية سنة 62ه، ووصل ، في فتوحاته، إلى بحر الظلمات غربا و إلى حدود الجزيرة الخضراء شمالا ، بعد أن فتح ربوع تونسوالجزائر والمغرب، كما انتقم من أبي المهاجر بأسره إذلالا ، وتقييده تعذيبا طوال مسيرته التي خصصها لفتح شمال أفريقيا ، وقد وصلت إلى حدود سوس المغربية جنوبا. وفي الوقت نفسه، كان يهين صديقه البربري الملك كسيلا . بيد أن هذا الأخير، قد انتفض ضده، وقتله قرب نهر الزاب بالجزائر. وبعد مقتل عقبة بن نافع، أرسل الخليفة عبد الملك بن مروان زهير بن قيس البلوي لفتح شمال أفريقيا ، ومجابهة كسيلا . وقد انتهت المعركة بانتصار المسلمين في معركة ممش بتونس، ومقتل الثائر المتمرد عن السلطة المركزية الملك البربري كسيلا. وبعد استشهاد زهير بن قيس البلوي في معركته التي خاضها ضد الروم في معركة برقة سنة 71ه، عين حسان بن النعمان واليا على المغرب، وقضى على الكاهنة الأوراسية ديهيا زعيمة البربر في نوميديا. وبعد ذلك ، فقد عين موسى بن نصير واليا على المغرب العربي. وفي عهده، فتح المسلمون الأندلس على يد طارق بن زياد. ويعني هذا أنه بعد فتوحات حسان بن النعمان المظفرة في أفريقية، وانتصاره على آخر مقاومة في بلاد تامازغا بقيادة الكاهنة ديهيا، واصل موسى بن نصير اللخمي فتوحات حسان بن النعمان، ودخل إلى المغرب تقريبا بدون مقاومة تذكر . والسبب في ذلك أن حسان بن النعمان قد هيأ له الأرضية الكاملة، وأخمد كل الثورات الأمازيغية والمناوشات الرومية والثورات المضادة، وأسكت كل المتمردين . هذا، وقد أحضر موسى بن نصير معه ألف فقيه ليعلموا البربر أصول الدين الإسلامي والفقه والحديث. وقد تأثر البربر – فعلا – بحضارة العرب ولغتهم ودينهم بكل سهولة، وتطبعوا بسلوكهم، وتمثلوا مبادئ الإسلام السمحة. وفي هذا، يقول جوستاف لوبون:" للبربر لغة عريقة يحتمل أن تكون مشتقة من الفينيقية الكنعانية. ويدين البربر بالإسلام، ولكنهم كانوا يدينون بآلهة قرطاجنة الكنعانية. وقد تعربت البربرية حيث تتألف لغة بلاد القبائل الأمازيغية بنسبة الثلث من العربية. فتأثير العرب في شمال أفريقيا أكبر وأقوى من الرومان والإغريق الذين لم يتركوا أثرا في اللغة البربرية."[6] ومن ثم، فقد اتخذت فتوحات موسى بن نصير وجهتين أساسيتين: وجهة بحرية للهيمنة على البحر الأبيض المتوسط وجزره، ووجهة برية لفتح جميع الثغور والمناطق التي استعصت على الفتح من قبل حسان بن النعمان من أجل نشر الإسلام، والتعريف بدين محمد (صلعم). وعليه، إذا كان الفتح العربي الإسلامي في الشرق قد تم بسرعة لافتة للانتباه، حيث أخضع المسلمون، في عهد عمر بن الخطاب (ض)، مجموعة من البلدان، كالشام ومصر والعراق وفارس ، فقد ظلت أفريقيا الشمالية منطقة عسيرة، وأرضا خطيرة؛ بسبب وعورة التضاريس الأفريقية. ويعرف الأمازيغ بشدة المقاومة لكل من حاول الاعتداء على حريتهم وممتلكاتهم، علاوة على صلابة عودهم، وكثرة شجاعتهم ، وقوة شكيمتهم، بله عن كونهم لايقبلون الضيم، ولا يرضون بالذل؛ نظرا لاعتزازهم الكبير بأنفسهم أنفة وكرامة واستعلاء . لذا، بقيت أفريقيا الشمالية وعرة التطويع من قبل الفاتحين المسلمين ، وصعبة الإخضاع لمدة تتراوح بين 22ه و82ه. أي: فترة زمنية تقدر ب60 سنة من تاريخ المد والجزر من أجل نشر الإسلام بين ساكنة تامازغا التي أظهرت العناد، وعدم الانقياد بسهولة لسلطة الخلافة الأموية . ومن ثم، كان إسلامهم يتأرجح بين الاعتناق الطوعي و الردة المؤقتة . وقد قيل: "إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة، وزحفوا في كلها للمسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، وقيل بعدها.[7]" وفي الأخير، لقد اعتنق الأمازيغيون الإسلام عن حب وإيمان واقتناع ، ووجدوا فيه ضالتهم للتخلص من الضيم والظلم والاستعباد، كما كان ذلك في عهود الرومان والوندال والبيزنطيين، فاندمجوا في المجتمع الإسلامي الكبير بكل سهولة ويسر ومرونة، وصاروا دعاة له في كل زمان ومكان. وخلاصة القول، فقد عرف الأمازيغيون بتدينهم الشديد اللافت للانتباه، وتمسكهم الرصين بعقائدهم التي نشأوا عليها فطرة أو اكتسابا. وفي هذا ، يقول اصطيفان اكصيل :" إن البربر في غالبيتهم متدينون، ويشعرون أن لهم رسالة. وهم يدافعون عن معتقدهم بحمية، تشهد بها على الخصوص تلك السلسلة الطويلة من الفتن والحروب التي جرت في القرون الأخيرة من أعصر التاريخ القديم، وكذلك في القرون التي تلت الفتح العربي."[8] . ومن هنا، فقد عبد الأمازيغ في البداية الحيوانات والأوثان والأصنام والملوك ، وقدسوا مظاهر الطبيعة من شمس وقمر وأرض ومطر...، وتأثروا بديانات القرطاجنيين والفينيقيين والفراعنة واليونان والرومان، فعبدوا تانيت ، وبعل، وأمون، وبوسيدون، ومارس، وهرمس، وايزيس، وأوزيريس، ومترا، وباخوس، وأسكولاب... كما انساقوا وراء اليهودية والنصرانية، لينتقلوا – فيما بعد- إلى تمثل عقيدة الإسلام إلى يومنا هذا. وقد نشأ ، في وسط الأمازيغيين، مجموعة من علماء الدين واللاهوت الذين تمكنوا من اللغات والثقافات المجاورة، فتسلحوا بعلوم الدين والمنطق والفلسفة والجدل والمناظرة، ثم أصبحت لهم مكانة كبيرة في تاريخ العقيدة وأصول الدين والفكر إلى يومنا هذا. [1] – البلاذري: فتوح البلدان، دار الكتاب، بيروت، 1982، ص:266. [2] – ابن عبد الحكم: فتوح افريقية والأندلس، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1987م، ص:29؛ وانظر كذلك: خليفة بن الخياط: تاريخ خليفة بن الخياط، دار طيبة، الرياض، 1985م، ص:144. [3] – انظر البلاذري: فتوح البلدان،ص:314؛ وابن عبد الحكم: فتوح أفريقية والأندلس، ص:34. [4] – المالكي: رياض النفوس، تحقيق حسين مؤنس، القاهرة، مصر، 1951، صص:10-15. [5] – د- عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ص:42. [6] – نقلا عن عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، ص:88. [7] – ابن خلدون: نفسه، ص:103. [8] – اصطيفان اگصيل: نفسه، ص:112-113.