منعم أولاد عبد الكريم - ناشط حقوقي في مسألة التربية على القيم، تلعب القدوة دورا حاسما، لهذا، أقوم أحيانا بتمعن بعض السلوكات المنحطة الصادرة عن "كبارنا" (نساء ورجالا) بالفضاءات العمومية، فأفهم نسبيا سبب كل هذا الانحطاط القيمي الذي صار يغرق فيه مجتمعنا. قبل يومين، كنت أتجول رفقة أسرتي بشوارع مدينة مراكش فأعجبت كثيرا برونقها ونظافتها، لكنه لفت انتباهي، في الآن نفسه، أن لا أحدا يحترم ممرات الراجلين، على قلتها. وفي إحداها صادفنا شابين إسبانيين يتحينان الفرصة لعبور الطريق، وبما أن لا أحدا انتبه لتواجودنا على الرصيف أو أعطى لذلك قيمة، رغم وجود طفل رضيع في عربته إلى جانبنا، قال أحدهما لصاحبه: – Todo está bien, vale, pero algo de ética hay que tener. Que sea al menos por el niño…. (الترجمة: كل شيء يبدو جيدا. أوكي. لكن يلزم أيضا قليل من الأخلاق. فليكن ذلك على الأقل من أجل هذا الطفل..). هذه ربما مجرد واقعة بسيطة من بين العشرات من الوقائع والمواقف التي تصادفنا يوميا، والتي يتجلى فيها انعدام أو اضمحلال الحس القيمي لدى الكبار في السن بأماكن عمومية أخرى. فمثلا، قد يحدث معك أن تتوجه لشباك إدارة عمومية أو مصلحة ما فتجد كيف أن أناسا تبدو عليهم علامات الوقار ويفترض فيهم، بالتالي، تقديم القدوة للناشئة أنهم في الواقع بعيدون كل البعد عن كل ذلك، إذ لا يولون أية أهمية للصف وانتظار الدور واحترام من يسبقونهم. كما فد تصادف في شوارع مدننا نساء ورجالا كثر يلقون بالقمامة حيث ما أرادوا وكأن الأمر عادي وطبيعي. أما في محطات سيارات الأجرة والحافلات، صارت أمرا عاديا تلك السلوكات الأنانية والعدوانية الشنيعة التي تحكم الأفراد والمجموعات، والتي تكون الغلبة فيها للأقوى والأرعن. في المقاهي، يحدث أن تنزوي في ركن معزول وهادئ من أجل التركيز في القراءة أو الكتابة، فيحدث غالبا أن يجلس بجانبك أحدهم ليشرع في تدخين السجارة تلو الأخرى نافثا سمومها في وجهك، وكأن شيئا لم يكن. في الساحات والفضاءات الخضراء، بدل أن تشم رائحة النباتات والزهور تزكم أنفك الروائح الكريهة للفضلات الحيوانية والبشرية. أما في العمارات السكنية فحدث ولا حرج عن سلوكات بديئة لا تمت بصلة لتقاليد وأخلاق حسن الجوار الذي غالبا ما يتحول إلى عداء وتناحر ينتهي بمفوضيات الشرطة والمحاكم. يحدث هذا في الفضاءات العمومية، فماذا يحدث داخل البيوت يا ترى؟!. تتميز الشعوب المتحضرة والمتمدنة عن باقي الشعوب بخضوعها لمنظومة قيمية واضحة، وبانضباط مرافقها العمومية لنظام صارم يحرص على احترامه الجميع، من باب أن احدى أهم القيم المجتمعية التي يتربى عليها الفرد هي أن القانون يعلو ولا يعلى عليه، وذلك يا إما باحترامه والتقيد به، أو بأداء الدعائر والامتثال للعقوبات حينما تصدر عن الفرد مخالفة تمس حقوق الجماعة. أما الشعوب التي تحكمها النوازع البشرية البدائية لما قبل عصر التمدن، فتجد فضاءاتها العمومية تغرق في الفوضى والعشوائية، وحتى وإن وُجِدت الضوابط القانونية الكافية لاشتغالها واستقامتها، فستلقى من هم مسؤولون على حسن تطبيقها يوظفونها توظيفا سيئا من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، بتلقي العمولات والرشاوى، أو بتخديم منطق القرابة والعشيرة، مقابل غض الطرف عمن يرتكبون مخالفات قد تبلغ مراتب الجرائم في حق العموم. كما قد تلقى الكثير من عامة الناس ينتشون بتحايلهم على القوانين، ولا يجدون أي حرج – مثلا – في إرشاء عون عمومي أو ابتزازه أو تهديده أو التوسل إليه لكي لا يدفعون غرامة عن مخالفة ارتكبوها في حق الجماعة التي ينتمون إليها. إن منظومة القيم هي فرامل المجتمع. ومادامت قيمنا تتهوى سيظل مجتمعنا كالسفينة الفاقدة للبوصلة، تتقاذفها الأمواج والعواصف ليكون في النهاية مصيرها الغرق. ومادام كبارنا عاجزون عن نقل القيم الحميدة والنبيلة للأجيال الصاعدة، فلا يمكننا أن نطالب شبابنا بما لم نقدمه لهم، لأنهم في الأخير ليسوا إلا نتاج ما زرعناه فيهم من قيم، خصوصا وأن المدرسة التي من شأنها تقويم تلك الاعوجاجات المنتجة داخل الأسرة هي أيضا معطوبة ومشلولة كليا وتحتاج لمن يقومها. فمسألة القيم المجتمعية، إذن، مسألة جوهرية وحيوية بالنسبة لتقدم الشعوب وتماسكها وأية سياسة تنموية لا تأخذ بعين الاعتبار هذا البعد ستظل سياسة قاصرة محكوم عليها بالفشل حتى وإن رصدت لها كل ميزانيات العالم. وهنا تصير مسألة إعادة النظر فيما نلقنه لأبنائنا في المدارس أمرا حاسما غير قابل لأي تسويف. إن اضمحلال الخطاب القيمي داخل حجراتنا الدراسية يُعد سببا أساسيا من مسببات هذه الانتكاسة المؤسفة والمخجلة التي تعيشها المدرسة المغربية حاليا، حينما تحولت من مؤسسة تربوية إلى فضاء تعليمي فقط، تٌشحن فيه عقول الناشئة بمعارف متناقضة وجافة، وغير مؤطرة بما يلزم من قيم إنسانية كالتعايش والتسامح واحترام الوقت والقانون، إلخ. وهكذا صرنا نلاحظ كيف أن المدرسة المغربية تحولت من قاطرة تجر المجتمع نحو الأعلى، وتنقل إليه قيم التمدن والتحضر، إلى مقطورة تدفعها أمراض المجتمع وتناقضاته نحو الهاوية. ففي الوقت الذي يجب أن تقوم فيه المدرسة بالتأطير القيمي للفرد والمجتمع، مرتكزة على القيم الإنسانية الكونية، نجد أن المجتمع هو من يقوم اليوم بنقل عدوى انهيار القيم إلى المدرسة، فنجدها تعاني من نفس ما يعاني منه المجتمع من مظاهر الانحلال والعنف والفوضى.