خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المصادقة على تعيينات جديدة في مناصب عليا    الحكومة توقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    رصد للمرة الأخيرة بالمغرب.. دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار    الحكومة تصادق على مشروع قانون يتعلق بحماية التراث    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد بن عبد الكريم الخطابي، الثقافة الأمازيغية والحركة الوطنية
نشر في شعب بريس يوم 27 - 06 - 2012


عبد السلام خلفي
1- محمد بن عبد الكريم الخطابي بين سندان الاستغلال الإعلامي لاسمه ومطرقة تشويه صورته

اشْتَغلت الآلةُ الإعلامية المغربية، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، على تقديم محمد بن عبد الكريم الخطابي في صورة "البطل الأسطورة" الذي هزم الجيوش الاستعمارية رغم قلة عدد جنوده وضآلة العتاد الذي كان يمتلكه. غير أن هذه الآلة التي كانت تجتهد لإبراز الوجه المشرق من شخصية الرجل كانت تبرز فيه أيضاً تقاسيم بطل "عروبي- قومي" "سلفي" و"إسلامي"، مازجة بين صورة المقاوم الذي استطاع أن يهزم أقوى الدول الاستعمارية بصورة البطولة "العربية" التي تجد لها جذوراً في "العروبة" وفي قيم الإباء العربية والقومية التي يعبر عنها مفهوم الجهاد في الإسلام. وللحقيقة فإن هذا العمل الإعلامي لم يكن يُقصد من ورائه استعادة إحدى الرموز الوطنية كي تحتل مكانتها اللائقة في تاريخ المقاومة الوطنية، بل كان يُقصد به في الغالب الأعم تصفية حسابات سياسية وإيديولوجية آنية من خلال ادّعاء الانتماء إلى هذه التجربة التي كان حطب نارها قبائل ريفية فقيرة ومعزولة وتعيش أوضاعاً اجتماعية مزرية. ففي ظل سياق بناء الدولة الوطنية التي كان يُراد لها أن تكون عربية خالصة، أمعنت الآلة الإعلامية في سبر فكر الخطابي وتمادت في إعلانها الانتساب إلى حركته المسلحة، كما أن النخب التي تخرجت من رحم الحركة الوطنية المدينية تنافست في عرض صورها، التي التقطتها إلى جانبه عندما كان في مصر، على صفحات الجرائد وفي ثنايا الكتب التاريخية والسير الذاتية، موهمة الرأي العام أنها كانت دائماً إلى جانبه في نضاله ضد الاستعمار.

ولقد عانى محمد بن عبد الكريم الخطابي من هذا الاستغلال السيئ لاسمه، مما جعله في كل مرة يتدخل لكي يعلن مواقفه الحقيقية، ولكي يضع مسافة بينه وبين المدّعين إلى درجة إعلانه القطيعة معهم، بل وطرده لبعضهم من منزله. وهكذا سنلاحظ أنه في الوقت الذي كان فيه هؤلاء المدَّعون يعلنون، وبدون مواربة، انتماءهم إلى تجربة المقاومة المسلحة بوصفهم الامتداد الشرعي لها، مستغلين رمزية الرجل لكي يسمحوا للأحزاب وللحركة الوطنية عموماً " بالاستفادة من مجده وتجربته وشهرته العالمية الكبرى" ، (كما عبر عن ذلك علال الفاسي في مؤلفه : الحركات الاستقلالية)، كانوا يعملون، من جهة أخرى، على انتقاده وتشويه صورته سراً وإعلاناً لكونه لم يكن يومن بالعمل الوطني الذي يومنون به. وكما يذهب إلى ذلك الأستاذ علي الإدريسي فإن "قادة هذه الأحزاب كانوا بحاجة إلى استغلال سمعة عبد الكريم في العالم، وليس إلى منهجيته التي رحلت إلى الفيتنام مع هوشي منه، وإلى الصين مع ماوتسي تونغ، وإلى أمريكا اللاتينية مع تشي جيفارا" . ونتيجة لاختلاف المشاريع التحررية التي كان يحملها كل طرف منهما فقد تجرأوا عليه، واستغلوا اسمه وسمعته العالمية، وأخذوا يروجون عنه في الأوساط القريبة من القصر أكاذيب ومواقف أدّت في لحظات معينة إلى قطع الراتب الذي كان قد خُصِّص له لما نزل بمصر. وشكلت "الجمهورية" التي أسسها في ظروف خاصة، الفزّاعة المثلى لحياكة الدسائس ضده، كما أن أحداث 1958 التي اندلعت بالريف ضد حزب الاستقلال، والتي رُفعت خلالها شعارات من نمط "يسقط حزب الاستقلال تسقط الحكومة" و" لتسقط الحكومة، يحيى الملك"، و " بن يوسف ملكنا وعبد الكريم زعيمنا" ، قُدِّمت للقصر بوصفها أحداثاً "عنصرية" لريفيين تُحركهم الغريزة "البربرية" بإيعاز من الخطابي الذي يهفو إلى زمن السيبة والانفصال والدولة الريفية المستقلة ؛ بله وتجاوزوا كل هذا فنشروا عنه حكايات تنقص من قدراته الفكرية والعقلية، كقول أحدهم عندما زاره في القاهرة: إن عبد الكريم "أصبح شيخاً مضطرب السلوك لا يؤمن بالعمل الوطني" وأنه "عندما نتحدث إليه عن العمل السياسي يرفض ذلك، ويشير بيده، وكأنه يحمل مسدساً" .

ولم تخل الأوساط الشرقية بدورها من حياكة نفس المواقف، وهكذا فعندما أعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي إعجابه بتركيا الكمالية العلمانية، وبضرورة اقتفاء خطى الدول الغربية، حمّلوه أوزار انهزامه، واتهموه بكونه كان عاجزاً عن قيادة شعبه، وأنه أضعف معنويات الريفيين بسبب انجذابه إلى الغرب وعدم استغلاله للعصبية القبلية، فقد كتبت المنار مثلاً: " يعترف القائد الريفي بأنه لم يعرف كيف يقود شعبه، لقد علم جيداً كيف يستفيد من التقنيات التي تعلمها من الأسبان، وزاد بذلك قوته الدفاعية، ولكنه انجذب إلى مظاهر الحضارة الأوروبية التي أضعفت قوة الريفيين المعنوية. تلك القوة الكامنة في عصبيتهم" . والأنكى من كل هذا هو أن هذه النخب المتنفذة التي تسلمت زمام السلطة من فرنسا عملت بكل الوسائل والطرق كي لا يكون للرجل ذكر في مغرب الاستقلال، وأما "الذين كانوا يرددون أقواله ونداءاته فكان مصيرهم ينتظرهم في معتقلات الحزب" ، ووصلت الأمور إلى حد تجريم ذكر اسمه، بله واستغلاله أيضاً للتخلص من المعارضين. فقد أشار الفقيه البصري في مذكراته إلى هذا الأمر عندما قال: "وكثر الإيحاء آنذاك بأن من يطرح موضوع إعادة بناء الدولة ومسألة الدستور، إنما يحركه عبد الكريم "الجمهوري"، أو يخدم مصالح الاستعمار، أو يحاول التآمر على الملك" .

2- محمد بن عبد الكريم من مرحلة التشويه والاستغلال إلى مرحلة بناء الدولة العربية الجديدة

وفي الوقت الذي كان فيه عبد الكريم يتهيأ للقاء ربه كانت نخب الحركة الوطنية بصدد وضع اللبنات الأخيرة في صرح بناء الدولة المغربية العربية المرتكزة على مبادئ إيديولوجية ظاهرها "العروبة" و"السلفية" و"القومية" وباطنها الاستئثار بالسلطة والمال واقتسامهما بين الأهل والعشيرة. وقد اتخذت إلى ذلك مسالك منها، إضعاف حركة التحرير التي انطلقت في جميع ربوع الوطن، والاستفراد بالسلطة عن طريق تحييد البوادي التي اندلعت فيها الحركة المسلحة، وإعادة إنتاج النخب من خلال بناء مدارس موجهة إلى الشعب يُراد من ورائها تعريب الإنسان والمحيط، ومدارس أخرى موجهة إلى أبنائها يُراد منها تعليمهم علوم "الكفار" ولغاتهم تحضيراً لهم لكي يتسلموا زمام السلطة، دون أن ننسى إمعانهم في إغلاق كل المعاهد والمدارس التي كانت تدرّس بها الأمازيغية. وبهذا ستنتقل استراتيجية النخب الحضرية انطلاقاً من 1956 من مرحلة الدعاية للاستقلال تحت رحمة الحماية (ضدا على مواقف محمد بن عبد الكريم الذي كان يدعو إلى المقاومة) إلى مرحلة الدعاية للدولة العربية الجديدة، مستعيدة خلال ذلك واقعة ما يسمى ب"الظهير البربري" لكي تشرْعِن لدعوتها، ولتزرع في وعي ولاوعي الجماعة "البربرية" (كما تحب أن تسميها) الخطيئة الأصلية التي ثبتتها في أفئدتهم بقوة الإعلام، بله وجعلتهم يومنون بأنهم هم مقترفوها، وأنهم للتخلص منها لا مناص من الاعتذار النصوح عن طريق التخلص من "بربريتهم" التي هي العلامة الناصعة على خيانتهم. ولما كانت رجالات المقاومة المسلحة كلها أمازيغية فإنها استعادت، كما رأينا، رمزيتهم وأعادت، من جهة أخرى، تشكيل شخصياتهم بما جعل منهم أبطالاً على المقاس، أي عرباً ينتمون سلالياً إلى الدم العربي، ويؤمنون بنفس القيم القومية والسلفية التي تشكلت بها أحزابهم وتنظيماتهم. هكذا، إذن، تكون نخب الحركة الوطنية (السلفية والبعثية) قد استفادت بشكل مضاعف، فهي، من جهة، استغلت "سُمعة" عبد الكريم لقضاء مآربها على الصعيدين الوطني والعالمي، كما أنها، من جهة ثانية، خلقت منه ذلك "البعبع" (ونعتذر عن الوصف) الذي تخيف به السلطة المركزية ولتجني من وراء ذلك خدمات ومنافع جلّى.

3- الصورة الانشطارية لمحمد بن عبد الكريم: "البطل العربي الموحد" أو "الجمهوري البربري الانفصالي"؟

وسيظل المجال مفتوحاً أمام النخب العروبية لكي تثبت دعايتها، ولكي تصبح هذه الدعاية حقيقة تاريخية تُنشر في الإعلام وتدرس في المدارس والجامعات، ويعاد إنتاجها في كتب السيرة التي أنتجها سياسيوهم ومثقفوهم بعد أن بلغ بهم الكبر عتياً. غير أنه في الوقت الذي ظنوا فيه أنهم قد انتهوا من "العنصر البربري" للأبد من خلال تعريبه وتحميله "سُبة وعقدة خطيئة الظهير البربري" و"سبة وعقدة "الجمهورية الريفية"، انبرت أمامهم الحركة الثقافية الأمازيغية التي أخذت تنازعهم في ملكية رمزية هؤلاء الأبطال الأمازيغ، فأخذت تستمد هي بدورها منهم مبادئها، بله وتعتبر نفسها الامتداد الحقيقي لها. ولم يكن للنخب العروبية أن تسكت عن هذا "الوافد" الجديد ولذلك بادرت للرد، وهي المالكة للقوة الإعلامية، فادعت أن الحركة الأمازيغية ما هي إلا امتداد "للظهير البربري" ولكل مشاريع "الانفصال الاستعمارية"، وأنهم البذرة التي بذرها المستعمران الفرنسي والأسباني لتفتيت الأمة المغربية، بل وضرب الأمة العربية في الصميم، وأن عبد الكريم الخطابي لو كان حياً بين ظهرانيهم للعنهم ولتبرأ منهم، بل ولقاتلهم إلى أن يعودوا عن غيهم خانعين صاغرين. وللأسف، فإن هذه الردود لم تخرج أبداً عن المنطق الذي ظل يتحكم في الصورة التي لهم عن عبد الكريم. فهو، عندما يتعلق الأمر بتثبيت عروبة الأمة المغربية، نراهم يستعيدون صورته "الإيجابية" لديهم (العروبة، الوحدة، المقاومة، الإسلام بشقيه السلفي والإسلاموي إلخ.) لكي يواجهوا به خصومهم المفترضين، ولكن عندما يتعلق الأمر بتثبيت الصورة النمطية عن الريف ( الذي يرادف في مخيالهم صورة المنطقة المهددة للوحدة الوطنية) نراهم يستعيدون أو يذكّرون بالصورة "السلبية" لكونه تجرأ، في لحظة ما، وأسس "جمهورية ريفية"، تماماً مثلما يفعلون بالنسبة للمناطق الأمازيغية الأخرى عندما يستعيدون "أسطورة الظهير البربري". وهكذا أصبحنا أمام صورة انشطارية لعبد الكريم، يحار في تمثلها المتخصصون فأحرى عامة الناس. وللتدليل على هذا المنطق الغريب الذي تحول، للأسف، إلى ثقافة جماعية، يمكن أن نشير فقط إلى ما نشر في غضون السنوات الأخيرة عن هذا الرجل. إذ بمناسبة ذكرى وفاته السابعة والأربعين، مثلاً، نشرت الصحف المغربية مقالات واستطلاعات ووثائق تؤرخ لمساره في المقاومة، غير أن الملاحظ على هذه المنشورات هو أنها كانت غالباً ما تستعيد هذه الصورة "الانشطارية" لكي تصفي حساباتها السياسية والإيديولوجية الآنية مع خصومهم من الذين ينادون بإعادة الاعتبار إلى اللغة والثقافة الأمازيغيتين أو الذين ينادون بالحكم الذاتي. وسوف نقتصر، لكي نوضح هذه الصورة (التي بقدر ما تدفع الأمازيغ إلى تبني خيارات التعريب، وتبرر لسياسات التهميش لمنطقة الريف) على مقالين؛ أما أحدهما فقد نشر، منذ سنتين، في جريدة المساء (العدد 1057، 13-14 / 02 / 2010)، وأما الثاني، فقد نشر في جريدة الأسبوع الصحفي منذ نفس التاريخ تقريباً (العدد 584/1021، 12 مارس 2010).

أ‌- الصورة الأولى: عبد الكريم الخطابي العربي الوطني الموحد غير الطامع في الحكم والمعادي للمناضلين الأمازيغ

إن هذه الصورة هي ما ستكشف عنها بكل وضوح المقالة الأولى؛ وقد جاءت هذه المقالة مرفقة برسالة من عبد الكريم إلى السلطان محمد الخامس، قدم لها صاحبها، آنذاك، رشيد نيني، بمقدمة يشرح فيها السبب الذي حدا به لنشر الرسالة، والذي لخّصه في رغبته "تصحيح مغالطات تاريخية صورت الأمير عبد الكريم كمعارض للملكية وكطامع في الحكم". ولكن صاحبنا، وهو الذي كان مشغولاً جداً بتصفية حساباته مع الحركة الثقافية الأمازيغية، سرعان ما نسي موضوعه الأصلي هذا لينزلق نحو موضوعه الأثير الذي جاء ليرافع من أجله، والذي يتلخص في التلويح بعروبة محمد عبد الكريم ومواقفه الأصيلة من اللغة العربية ومن الوحدة الوطنية، في وجه "غلاة الأمازيغية" الذين وضعهم في الطرف المناقض تماماً للمبادئ التي ظل يدافع عنها هذا الرمز التاريخي. لقد كتب صاحب المقال يقول: "ما أحوج بعض غلاة الأمازيغية في الريف والجنوب [ولستُ أدري لماذا استثنى الوسط !!] الناقمين على اللغة العربية أن يتمعنوا في دفاع الأمير عبد الكريم عن اللغة العربية، تعليماً واستعمالاً، وما أحوج بعض الداعين إلى الانفصال والحكم الذاتي في الريف الذين اجتمعوا في بروكسيل، الأسبوع الماضي (يقصد الأسبوع الأول من شهر فبراير 2010)، من أجل دراسة "مستقبل الريف" ، إلى تأمل الفكر الوحدوي للأمير المجاهد". ثم بعد ذلك يعرض للرسالة بعد أن يصفها بأنها "صالحة لمغرب اليوم" نظراً "لبعد نظرها وعمق مراميها، والوطنية الصادقة لكاتبها".

ونحن إذ لا نناقش صحة كتابة عبد الكريم لهذه الرسالة من عدم كتابته لها، إذ هذا الأمر نتركه للمختصين، فإننا سنلاحظ أن المقالة، بتضمينها لهذه المقدمة التوجيهية، قد أخرجت الرسالة- الوثيقة من سياقها التاريخي الذي جاءت فيه، لكي تُحمَّل بمضامين أخرى جديدة، ولكي تتحول إلى دليل إدانة شديدة لتيار يختلف معه السيد نيني. وإن شئنا الدقة قلنا: إن الكاتب – المعلق على الرسالة قد توقف عن الدفاع عن عبد الكريم الخطابي بمجرد ما انزلق إلى موضوعه الأثير، والذي لم يكن الخطابي فيه سوى مشجباً رخيصاً لتحميل نصه ( الرسالة – الوثيقة) آراء الكاتب الإيديولوجية والسياسية في صراعه مع خصوم لا ينتمون إلى زمن الخطابي، ولا يصدرون عن نفس الفهم للوقائع، نتيجة لتغير الظروف والسياق، ونتيجة لاختلاف سقف الوعي من جيل إلى آخر. والحقيقة أن ما قام به كاتب المقال هو بالضبط ما كانت تقوم به النخب الوطنية من قبل، أي تنزيه "البطل-الأسطورة"، في سياق الدفاع عن العروبة والوحدة، بهدف تحييده وعزله عن الجماعة التي ينتمي إليها كخطوة أولى، ثم توجيه النصوص التي كتبها أو لم يكتبها لتصبح، كخطوة ثانية، حاملة لهواجس وآراء لم تكن لترِدَ على بال الخطابي في ذلك الزمن. وأخيراً يصل إلى النتيجة المتوخاة، وهي: "أْبْلسَةُ" أو "شيْطنة" الجماعة الأمازيغية التي ستصبح انطلاقاً من هذا التحليل العدو رقم واحد لمحمد بن عبد الكريم. كيف لا وهم جماعة من الغلاة الذين يعادون اللغة العربية ويتربصون بالوطن لفصل شماله عن جنوبه باسم الحكم الذاتي، في حين أن الخطابي هو الوحدوي والمدافع عن إدماج اللغة العربية في المدرسة، وجعلها رسمية في الدستور؟.

ب‌- الصورة الثانية: عبد الكريم الخطابي القبلي والانفصالي الطامع في الحكم والذي تهيمن عليه الروح "البربرية"

وهي الصورة التي ستقدمها لنا المقالة الثانية؛ إنها مقالة لا تحمل أي توقيع، وتقدم عبد الكريم في صورة مناقضة تماماً للصورة التي قدمه بها السيد رشيد نيني. بله إن كاتب المقال بدأ منذ البداية يبرر سبب استبعاد عبد الكريم ورفض إدخال رفاته إلى المغرب. تقول المقالة: " رويداً، رويداً تظهر أسباب هذا القرار الملكي أبا عن جد، بمنع دفن المجاهد عبد الكريم الخطابي في المغرب، واستمرار استبعاد نقل جثمانه ليدفن في الريف، لأن كل قرار من هذا القبيل سيحيي عند سكان منطقة الريف، تلك الروح التي هيمنت على بطل الريف، الذي بعد أن سجل انتصارات كبرى على الأسبان والفرنسيين أعلن نفسه رئيساً لجمهورية الريف". وعندما نتساءل عن هذه الروح التي هيمنت على عبد الكريم، والتي ستجعل الريفيين يحيونها من جديد، فإننا لن نجد أمامنا غير روح الجمهورية "البربرية"، وروح الانفصال، وروح الإحساس بالانتماء إلى الأمة الريفية دون الأمة المغربيةَ ! ولتأكيد هذا الزعم فإن الكاتب سيرفق مقالته برسالة / بيان - وثيقة، كما فعل نيني، كان قد أرسله محمد عبد الكريم إلى الدول المشتركة في معاهدة الجزيرة الخضراء، والذي يصرح فيه بما يلي:

"نحن حكومة جمهورية الريف المؤسسة شهر يوليوز عام واحد وعشرين وتسعمائة وألف نعلن ونشعر الدول المشتركة في عقد الجزيرة لعام 1906 بأن المطامح العليا التي أدت إلى تلك المعاهدة كانت بسبب الخطيئة القائلة بأن بلادنا الريف تشكل جزءاً من المغرب، لأن بلادنا تشكل جغرافيا جزءاً من إفريقيا. فنحن لسنا مغاربة البتة كما أن الإنجليز لا يمكن أن يعتبروا أنفسهم ألمان".

وللأسف فإن كلتا الرسالتين-الوثيقتين قُرئتا قراءتين مغرضتين: فالرسالة الأولى تنزه عبد الكريم وتشيطن التيار الأمازيغي، بله وتضعه على النقيض من المواقف والمبادئ التي دافع عنها الرجل؛ وأما الرسالة الثانية فإنها تهز هذه الصورة المنزَّهَة هزاً عنيفاً وتجعل من "البطل العربي والوحدوي والمدافع عن اللغة العربية" رجلاً "انفصالياً"، كما يُفهم من النص، فهو (أي الخطابي) يعلن بأنها "خطيئة أصلية" القول "بأن بلادنا الريف تشكل جزءاً من المغرب"؛ بله والأدهى من ذلك أنه يصرح وبدون مواربة أننا "نحن الريفيين لسنا مغاربة البتة". هكذا، إذن، يتحول البطل العربي المعتز بعروبته في جريدة المساء إلى ريفي مستغني، في جريدة الأسبوع الصحفي، عن الأمة المغربية (فبالأحرى الأمة العربية)، والوحديُّ فيه يتحول إلى انفصالي: إنها "المغالاة، يقول صاحب المقال، في التنكر للمغرب" (لاحظوا معي أن نفس الوصف الذي وصف به السيد نيني الحركة الأمازيغية هو نفسه الذي سيصف به كاتب مقال جريدة الأسبوع الصحفي محمداً بن عبد الكريم: إنها "المغالاة"). وهنا، مرة أخرى، تُستحضر فزَّاعة الجمهورية الريفية، وفزاعة التخويف من الريفيين الذين سيحيي فيهم عبد الكريم، إن دُفن بمسقط رأسه، " تلك الروح التي هيمنت على بطل الريف". وفي جميع الأحوال فإن هذه الروح الشيطانية، إذ تَستهدف الجماعة الريفية الأمازيغية، فإنها تعمل قدر الإمكان لإطالة ذلك الإحساس القاهر بالخطيئة الأصلية التي ارتُكِبت يوم تم الإعلان عن الجمهورية، مع ما يحمله ذلك الإحساس من ضرورات الاستغفار النصوح عن الذنوب المرتكبة عن طريق التخلي عن الهوية الأمازيغية والاندماج النهائي في الجماعة العربية.

والحقيقة أن صاحب المقال لو كان نزيهاً لاستمر في عرض الرسالة التي كتبها عبد الكريم. فالرسالة كما تم نشرها في مجلة أمل، العدد 8 السنة الثالثة 1996، تتحدث أيضاً عن موقف عبد الكريم من اللغة الأمازيغية، كما تتحدث أيضاً عن جنس الريفيين المنفصل عن سائر العروق الإفريقية. يقول البيان (الرسالة) كما ورد في المجلة المذكورة:

"نحن حكومة جمهورية الريف، المؤسسة في يوليوز 1921 نعلن ونشعِر الدول المشتركة في معاهدة الجزيرة الخضراء عام 1906، بأن المطامح العليا التي أدت إلى تلك المعاهدة لا يمكن أن تتحقق قط، الأمر الذي أثبته تاريخ الأيام الماضية، وذلك بسبب الخطيئة البدئية القائلة أن بلادنا، الريف، تشكل جزءاً من المغرب، إن بلادنا تشكل جغرافيا جزءاً من أفريقيا، ومع ذلك فهي منفصلة بصورة واضحة عن الداخل، وبالتالي فقد شكلت جنسياً عرقاً منفصلاً عن سائر العروق الإفريقية التي اختلطت بالأوروبيين والفينيقيين قبل مئات السنوات بفعل الهجرة. كذلك تختلف لغتنا بصورة بينة عن اللغات الأخرى، المغربية أو الإفريقية أو سواها. فنحن الريفيين لسنا مغاربة البتة، كما أن الإنجليز لا يمكن أن يعتبروا أنفسهم ألماناً".

غير أن الكاتب فضل عدم التعرض لإشكالية اللغة التي قال عنها عبد الكريم بأنها "تختلف بصورة بينة عن اللغات الأخرى المغربية أو الأفريقية". فلو تعرض لها لذهب، ربما، إلى القول بأن محمد بن عبد الكريم رجل لا يتنكر فقط للوحدة الوطنية ولكن يتنكر أيضاً للعربية وللعروبة والوحدة العربية، (ألم يقل بأن "بلادنا تشكل جغرافيا جزءاً من أفريقيا"، فأين هو "الوطن العربي" إذن ؟!!) وبأنه يدافع عن لغته الأمازيغية وعن جنسه الريفي الذي اعتبره "عرقاً منفصلاً عن سائر العروق الإفريقية التي اختلطت بالأوروبيين والفنيقيين قبل مئات السنوات بفعل الهجرة". ولاحظوا، هنا، فإن عبد الكريم لم يقل أن هذا الجنس قد اختلط بالعرب أو بالأفارقة. لقد أكد، إذن، على هوية جنسية أخرى للريفيين، تماماً كما أكد على لغتهم الخاصة التي قدمها كدليل حاسم لكي يجعل كل الأمم المشتركة في معاهدة الجزيرة الخضراء عام 1906 مقتنعين بأن الريفيين أمة مختلفة، وأنهم، بسبب لُغتهم المختلفة، يستحقون ليكونوا كذلك تماماً مثل الإنجليز الذين لا يعتبرون أنفسهم ألماناً. ولكن يبدو أن تفضيل كاتب المقال السكوت عن هذا الأمر راجع إلى أن صاحبنا يريد أن يوهم الناس بأن عبد الكريم ينطلق ايديولوجياً من نفس المنطلقات التي انطلقت منها النخب الوطنية العروبية، أي الانتماء إلى نفس العرق ونفس اللغة، أو على الأقل أنه (أي الكاتب) لا يريد أن يثير إشكالية اللغة كما كان طرحها عبد الكريم في زمن لم تكن فيه لا حركة ثقافية أمازيغية ولا تيارات تدعو إلى الحكم الذاتي؛ ولكنه مع ذلك جعلها إحدى مقومات تشكُّل دولة.

محمد بن عبد الكريم الخطابي: رمزية الصورة المتشظية المحاصَرة

إنها، إذن، صورة متشظية عن بطل يجمع بين كل المتناقضات، ولكنها صورة تؤدي أهدافها كاملة حسب سياقات الاستعمال؛ بحيث أصبحت الإحالة على هذه الصورة وعلى حرب الريف ظاهرة عقدية وإيديولوجية أكثر مما هي ظاهرة تاريخية وعلمية. فقد تغذت، للأسف، مما تراكم من نزوعات الهيمنة من أجل تصفية حسابات سياسية مع فرقاء وخصوم لم يعودوا ينتمون إلى زمن عبد الكريم، ولكن ينتمون إلى زمن أبناء وحفدة عبد الكريم. وهل لنا أن ننسى الحصار الذي ضرب على هذه الشخصية لعقود طويلة نتيجة لهذا الاستخدام السيئ، والذي تبرأ منه عبد الكريم في حياته كما أشرنا، بله واعتبره شكلاً من أشكال المس بحجيته وصدقه. إن هذا الاستغلال السياسي يحمل، في نظرنا، إرهاصات خطيرة لتدمير رمزية هذه الشخصية التاريخية الكبيرة، ليس فقط لأن عبد الكريم اتخذ مواقف محددة في سياقات وظروف خاصة كان لابد أن يتخذها، ولكن أيضاً، وهذا هو الأخطر، لأن تلك المواقف تُفسر كما لو أنها أبدية تتجاوز الزمان والمكان والتي لا يمكن للنخب الوطنية أن تصفح عن "مرتكبيها" إلا بتحلل الريفيين من هويتهم اللسانية والثقافية وارتمائهم كلياً في أحضان العروبة. إن الأمر لا يتعلق، هنا، للأسف، باستلهام للقيم النبيلة عبر استلهام التجربة الثرية لهذه الشخصية، والتي منها: حب الوطن، والدفاع عنه، واسترخاص النفس من أجل الآخرين إلخ.. بله ولا يتعلق حتى بدراسة هذه الشخصية والكشف عن مكامن أخطائها وحسناتها. إن الأمر يتعلق بإسقاطات ايديولوجية على مواقف وإشكالات سياسية آنية، منها: موقف عبد الكريم من الحكم الذاتي؛ موقفه من العربية والعروبة؛ موقفه من الأمازيغية والمزوغة؛ موقفه من العلمانية والإسلام السياسي إلخ.. وبصيغة أخرى فإننا نطالب من عبد الكريم أن يفتي لزمن غير زمانه، نريد أن نورطه في صراعات فكرية وسياسية لم يكن لها حضور قوي في زمنه؛ وإذ تتم الإغارة على رسائله والوثائق التي تركها، فإنه، نظراً للجهل المركّب بالظرف التاريخي وملابساته، وبحكم النزوعات الهيمنية التي تتحكم في الاختيارات اللسانية والثقافية والسياسية للنخب المتنفذة، يتم إخراج هذه الرسائل وهذه الوثائق من سياقاتها التاريخية الحقيقية لتُحمّل بمضامين تنتمي إلى سياقنا التاريخي الحالي، فيُتلاعبُ برموزنا الجماعية، مسقطين أهواء المرحلة وطموحات أصحابها على نصوص تُقوَّلُ ما لم تقله.
وبهذا سيُصْنع من عبد الكريم شخصية "التناقض" المثلى؛ فهو انفصالي ووحدوي في نفس الوقت؛ وهو عروبي متشبع بعروبة القوميين والأحزاب الوطنية، وريفي قبَلي يتنكر لمغربيته وللجنس غير الريفي من المغاربة؛ وهو منافح عن اللغة الأمازيغية التي درَّسها بمدينة مليلية، ومتنكر، في نفس الآن، لها وللغات المغربية الأخرى؛ وهو جمهوري يرفض الملكية، وملكي يعترف بسلطان محمد الخامس ويصادق الملك فاروق؛ وهو علماني منبهر بالتجربة التركية وبالفكر الغربي، وسلفي إسلامي، لأنه درس بالقرويين واستعمل الدين في جهاده ضد الاستعمار. إنه بكلمة واحدة عدو للشيء ونقيضه، صديق للشيء وضده. إنه عبد الكريم الذي لا نتعرف على قسمات وجهه إلا في مرآة الوطنيين الذين يستعملونه كما أرادوا وكيفما شاءوا. هذا هو عبد الكريم الذي يُقَدَّم إلينا في كتبنا ومجلاتنا وجرائدنا وإعلامنا، بله وفي مدارسنا. فهل من عقل حكيم؟.

4- ما الذي يجب التأكيد عليه في شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي؟

إنه بعودتنا إلى سيرة محمد بن عبد الكريم، سنجد أن الرجل لم يكن أبداً كما قُدم لنا، فقد كان رحمة الله عليه:

1. أمازيغياً من الريف، وكانت لغته الأم هي اللغة الأمازيغية التي وظفها في حياته اليومية وخاطب بها المجاهدين، وأصدر بها الأوامر؛ وهل كان في إمكانه غير ذلك، وكل الريفيين لا يستعملون غيرها؟! بل وهل كان في إمكانه أن ينتصر في "أنوال" و"دْهار أوباران" و"إيغريبن" لو أنه أعطى الأوامر بالعربية الفصيحة أو بالأسبانية؟!

2. يحب لغته الأمازيغية ويحيا بها، بدليل أنه لم يتنكر لها يوماً ولم يمجها، ولم يُصدر بياناً أو يعلن في لحظة ما أنها لغة غير صالحة لتُدرّس في المدرسة كما فعلت التيارات العروبية والوطنية التي نادت بقتلها، ودبجت البيانات والقرارات والمواقف الحزبية لإقصائها كي يصفو الجو لغيرها؛

3. يحرص على نقلها إلى الأجيال اللاحقة، بدليل أنه علمها لأبنائه، ولم يكن يرضى أن يستعمل غيرها في بيته مع أهله وفي اللحظات الحميمية والانفعالية التي كانت تجمعه بمن يحب أو بمن يثيره، سواء عندما كان بين ظهراني أهله بالريف مجاهداً ومقاتلاً، أو عندما كان منفياً في جزيرة لارينيون، أو عندما فضل الاستقرار بمصر. هذا ما أكده أبناؤه وحفدته وكل الذين عايشوه في أكثر من تصريح وحوار؛ وكما يقول الأستاذ محمد أونيا فإن "الرجل كان لا يشعر بأي امتعاض وهو يتخاطب بالريفية مع بني جلدته" ؛

4. يدرِّس اللغة الأمازيغية في مدينة مليلية لسنوات، ولم يصدر عنه أنه أحس بالدونية يوماً وهو "يرطن" بهذه اللغة أمام جنيرالات ونخب المدينة، بل كان يعلمها لهم أيضاً ويمنحهم النقط التي يستحقونها؛ وكان يكاتب طلبته النجباء ويشجعهم على التقدم في تعلم الريفية، فقد كتب في هذا الصدد رسالة إلى أحد تلامذته من الإسبان بمدينة مليلية يدعى "أنخيل مونيوز بوسكي" (Angel MUNOZ BOSKUE) يقول له فيها: "حمداً وصلاة، صديقي الأكرم سيد أنخيل مونيوز بوسكي، أراك تتقدم في تعلم اللغة الريفية ويسرني جداً أن أرى سيادتكم متمتعين براحة البال والسعادة والهناء والسلام. صديقك محمد بن عبد الكريم الخطابي" .

5. يعي أهمية اللغة والفروقات اللسانية بين الريفيين وغيرهم من ساكنة المغرب، وهو ما جعله ينص على أن لغة الريفيين تختلف عن لغات المغاربة الآخرين عند كتابته للبيان الذي أرسله إلى منظمة عالمية تضم كل الدول المشتركة في معاهدة الجزيرة الخضراء لعام 1906؛ وهو ما يعني أنه كان يحمل وعياً جنينياً بإشكالية اللغة وعلاقتها بتشييد الأمم وتقدمها؛

6. يعتز بحرب المقاومة التي قادها ضد أعتى الدول الاستعمارية في ذلك الوقت، ولذلك فهو لم يتنصل يوماً من جمهوريته ولا من انتمائه الريفي الأمازيغي، لا عندما كان مقاوماً بجبال الريف، ولا عندما كان منفياً في جزيرة لارينيون ولا عندما كان مستقراً بمصر؛

7. يحمل مشروعاً إنسانياً يتجاوز المفهوم الضيق للقومية العربية الذي ظلت تدافع عنه الحركة الوطنية، كما أنه لم يسجل عليه أنه انخرط يوماً في أية حركة قومية كيفما كانت، والأكثر من ذلك أنه ظل وفياً للملك فاروق رغم المكانة التي كان يحتلها في جمهورية عبد الناصر القومي الذي كانت علاقته به متوترة في بعض محطاتها؛

8. منبهراً بالتجربة التركية العلمانية، وبشخص مصطفى أتاتورك الذي جعل من اللغة التركية لغة رسمية للبلاد، بل وتحمس في مرحلة من مراحل حياته المقاومة لإرسال الطلبة الريفيين إلى تركيا لتلقي تعليمهم؛ كما أنه كان منبهراً بالحضارة الغربية، ودعا إلى اقتفاء أثر الغربيين للخروج من التخلف. يقول في إحدى تصريحاته: " لقد أعجبتني السياسة التي اتبعتها تركيا، [...] فلن تستطيع الدول الإسلامية أن تستقل إلا إذا تحررت مقدما، من التعصب الديني واقتفت أثر الشعوب الأوروبية، إلا أن الريفيين لم يفهموني، وقد ناهضني الشيوخ لأنهم شاهدوني مرة وقد لبست زي ضابط. فكل بلد لا تزال تقيم وزنا كبيرا لهؤلاء المشايخ، لن تتقدم إلا ببطء إلا إذا ما لجأت إلى العنف والقوة" . وفي غشت 1923 أذاع الخطابي منشوراً يقول فيه: " إن الريفيين قادرون على حكم بلادهم ومستعدون أن يبرهنوا كما برهن الترك على أنهم يستطيعون بلوغ مرامهم بقوة ساعدهم" . وهذا يثبت، مرة أخرى، أن الرجل لم يكن شرقاني أو قومي الهوى كما لا يني يؤكد أولئك الذين انزرع في نفوسهم هذا الهوى؛ فالنموذج التركي ظل حاضراً في وعيه تماماً كما ظل النموذج الغربي حاضراً لديه أيضاً؛

9. ينتقد طروحات الوطنيين الفكرية والإيديولوجية والسياسية، إذ اعتبرهم مهادنين همهم الوحيد هو البحث عن مصالحهم من خلال استعادتهم لنفس النموذج المخزني الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر؛ بل إنه في سياق مجادلته مع علال الفاسي الذي قال عنه مستنكراً بأنه «لم يبن خلال خمس سنوات مدرسة واحدة" ، أجابه الخطابي قائلاً: "نعم، ولكنكم أنتم، وطنيو مرحلة ما بين الحربين، لم تفعلوا إلا هذا، إنكم لم تكونوا سوى أساتذة مدارس" .

وبالإضافة إلى كل هذا وذاك حاول محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يبرئ ساحته من استغلاله للدين في حربه ضد المستعمرين، ولذلك صرح في أكثر من مناسبة أنه لم يكن إلا رجلاً وطنياً قام يدافع عن أرضه بقوة السلاح. بله، وأشار في بعض تصريحاته إلى أن التعصب الديني كان سبباً من أسباب هزيمته، فقد قال: "كان التعصب الديني سببا من أسباب هزيمتي"، وأكد على أن ما يقوم به المغاربة والجزائريون من ممارسات عنيفة ضد المستعمرين ليس من الإسلام في شيء، فبالنسبة إليه أن: "الإسلام لا علاقة له بما يمارسه الجزائريون والمغاربة" . ويبدو أن هذا الموقف هو الذي جعل عبد الكريم لم ينضم إلى حركة الإخوان المسلمين بمصر كما لم ينضم إلى حركة القوميين العرب، بالإضافة إلى أن حربه ضد المستعمر لم تسوغ له يوماً وضع القنابل في الأسواق والاعتداء على المدنيين كما دأبت على فعل ذلك الحركات المتطرفة والإرهابية، بله إنه رفض رفضاً قاطعاً الدخول إلى مليلية عندما انتصر في أنوال لخوفه من أن يتحول هذا الانتصار إلى مجزرة ضد السكان. ولنتذكر أن الأمر، في كل هذه الحالات التي حمل فيها الريفيون السلاح، كان يتعلق بغزاة مستعمرين، وليس بمدنيين؛ ورغم ذلك فإن عبد الكريم كان يوثر المواجهة العسكرية بين الجيوش، ولم يكن يلجأ أبداً إلى بدعة الاغتيالات ووضع القنابل في الأماكن العمومية والاعتداء على أعراض ودماء المدنيين كما وقع في دار بريشة وفي غيرها من السجون الوطنية لاحقاً.

5- لقد كان محمداً بن عبد الكريم الخطابي يحمل مشروعاً ثقافياً أمازيغياً جنينياً

نعم، لقد كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يحمل هذا المشروع الجنيني. صحيح أنه لم يكن مشروعاً واضح المعالم، نظراً للظروف التي كان يمر بها، ولكنه، على أية حال، كان مشروعاً قائماً وفي طور التشكل؛ ونحن إذا ما تجاوزنا الوثوقيات التي قدمه بها الوطنيون، فإننا سنتيقن من أن هذا المقاوم الكبير:

1- كان يشعر بفخر واعتزاز بلغته الأمازيغية، وهذا ليس فقط لأنه كان أستاذاً لهذه اللغة في فترة معينة بمدينة مليلية، ولكن أيضاً لأن هذه التجربة –كما يقول الأستاذ أونيا- كان لا بد لها "أن تخلف آثاراً عميقة في نفسيته من شأنها أن توقظ لديه تلك الرغبة الدفينة التي يحملها كل "أمازيغي" ولم لا كل مغربي، عن شعور أو عن لا شعور، في أن يرى اللغة الأمازيغية لغة عالمة" ؛

2- كان واعياً بالظروف السياسية التي كان يمر منها المغرب، ولذلك وضع على أجندة أولوياته المقاومة المسلحة لاسترجاع الأرض؛ فحتى لو افترضنا جدلاَ أنه طرح قضية الأمازيغية، وفي سياق عروبي قومي عدائي، اعتبر فيه القوميون والسلفيون والوطنيون التجربة التركية مروقاً عن الدين، وأعلنت فيه الاتجاهات الإسلاموية والسلفية والعروبية الوطنية والقومية عداوتها الصريحة لكل مشروع شبيه للمشروع التركي، بل وعملت على محاربتها بكل الوسائل، فإنه لا محالة كان سيُتَّهَمُ "بالانشقاق والزندقة، تماماً كما هوجم مصطفى كمال أتاتورك حينما عمد إلى إدخال إصلاحات تحديثية في تركيا الجديدة، فاستبدل اللغة العربية باللغة التركية مكتوبة بحروف لاتينية" ؛

3- كان يحمل مشروعاً تحريرياً وتحررياً: تحريرياً، لأنه كان يريد أن تظل الأراضي المغربية خالية من أي استعمار أجنبي؛ وتحرريا، لأنه كان يريد للمغرب أن يخرج من التخلف ويلتحق بركب الدول المتقدمة ويعدل بين مواطنيه. ولأن القضية الأمازيغية لم تكن مهددة كما هو عليه الأمر اليوم بفعل سياسة التعريب اليعقوبية التي مورست منذ 1956، وبفعل "العوربة" و"العولمة"، فإنه آثر –مرحلياً- أن ينذر نفسه أولاً للارض دفاعاً عنها، فلم يكن يصدر في كل مواقفه السابقة عن مشروع ثقافي أمازيغي واضح (وإن كان يحمل بذوره)، بل كان يصدر عن مشروع وطني ومغاربي أساسه الوحدة والعدالة واحترام القيم الثقافية الوطنية وعدم مهادنة المستعمر إلى أن يرحل مهزوماً مدحوراً.

وبطبيعة الحال فإن هذا لم يكن ليعني أبداً أن محمد بن عبد الكريم كان يضمر مواقف سلبية من اللغة العربية، بل إنه على العكس من ذلك تماماً، كان من أكثر المدافعين عنها، خاصة وأن الأمازيغية كانت في ذلك الوقت هي اللغة الأكثر انتشاراً ولم تكن العربية سوى لغة نخب سياسية أو متفقهة محدودة الانتشار؛ وعلى هذا الأساس نجده:

1. يعتز بها (أي بالعربية)، ويستعملها في حياته الدينية والثقافية على غرار ما كان معهوداً في ذلك الزمن وفي القرون الماضية؛ فقد كان يوظفها في حدودها الوظيفية التقليدية، ويمارس تدريسها، كما أشرنا، لما كان مستقراً بمدينة مليلية إلى جانب اللغة الأمازيغية؛

2. يحرص على تعليم اللغة العربية لأبنائه، ويحضهم على إتقانها، لكونها كانت البوابة لتعلم المعارف الدينية، ولممارسة الشعائر الإسلامية؛ وهو ما أكدته تصريحات الأبناء؛ كما أنه لم يكن منغلقاً على لغته الأم (الأمازيغية) وعلى اللغة العربية، بله إنه كان منفتحاً على اللغات الأجنبية ومنها اللغة الأسبانية والفرنسية، وقد عمل على تعلُّم وتعليم أبنائه هذه اللغات بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية؛

3. يحرص أن تحتل هذه اللغة مكانتها التي تستحقها في مرافق الدولة المغربية، وهو ما دعا إليه أكثر من مرة؛
4. يميز بين الدفاع عن اللغة العربية وما تحمله من قيم ثقافية ودينية سامية وبين الدعوات التي تستعمل هذه اللغة وهذه الثقافة للضغط في اتجاه الانخراط في حركة قومية يعقوبية كحركة القوميين العرب أو في حركة دينية متطرفة كحركة الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين والسلفيين الذين يستعملون الدين للوصول إلى السلطة وبناء مشروعهم القائم على القهر والتنميط اللساني والحضاري؛

5. يعشق الأمم العربية ويعتز بنضالاتها ويعمل من أجل تحررها وتقدمها وازدهارها، دون أن يعني ذلك أنه كان قومياً أو إسلامياً أو أنه كان يتنكر لجذوره الريفية-الأمازيغية ويدعو إلى اغتيالها أو على الأقل إقصائها؛

6. يحترم الاختيارات القومية للدولة الناصرية، بله وعمل من أجل استثمارها في ذروة انتشارها من أجل تحقيق الجلاء الاستعماري من المغرب وشمال إفريقيا، وهذا ما تؤكده الكثير من تصريحاته ومن الرسائل التي أرسلها إلى الرئيس جمال عبد الناصر .

7. يحب المغرب ويومن بوحدة ترابه وبالوحدة المغاربية، مستعداً للتخلي عن كل شيء لتحقيقها، دون أن يعني ذلك أنه تنصل من جمهوريته الريفية التي ظل يعتز بها، أو بريفيته التي رضعها في الألبان؛ وفوق ذلك كله فإن هذا لم يمنعه أبداً من أن يعلن على رؤوس الأشهاد أن الملك الشرعي للمغرب، وضمنه الريف، هو محمد الخامس، وأن مقاومته للاستعمار أو تأسيسه للجمهورية المعلومة لم يكن أبداً من أجل البحث عن السلطة أو من أجل الحصول على الجاه والمال، أو من أجل فصل الشمال عن الجنوب. ولهذا رفض رفضاً قاطعاً أن يكون "ألعوبة بين أيدي الاستعمار لمنافسة الملك الشرعي محمد الخامس" ، فغامر بنفسه وبحياة عائلته وتخلى عن جميع أمواله لما نزل بمصر، وذلك حتى لا يُسْتَغل سياسياً من طرف فرنسا التي كانت تريد استعماله؛ ولتوضيح مواقفه أرسل ابنه إدريس يوم 12 شتنبر 1956 " ليعبر عن ولائه وولاء الأسرة الخطابية بأجمعها للملك محمد الخامس" ، كما أنه سيقابل يوم 13 يناير 1960 الملك محمد الخامس بقصر القبة بالقاهرة، ويشرح له مواقفه، ثم يضع بين يديه كل مطالبه والتي اختصر أهمها في "بحث الخطوات الجديدة العملية لإجلاء كافة القوات الأجنبية من المغرب وبدون قيد ولا شرط" .

8. يومن بالإسلام ديناً، ويستلهم منه قيمه النبيلة؛ غير أن هذا لم يكن حافزاً بالنسبة له لكي يستعمل هذا الدين العظيم في مشاريعه "السياسية" ضد من يختلفون معه في الرأي أو في المواقف، كما أن هذا لم يمنعه أيضاً لكي ينبهر بالتجربة العلمانية التركية، ويدافع عنها، ويدعو إلى مقاطعة الشيوخ واقتفاء أثر الغرب.

6- كان محمد بن عبد الكريم نتاجاً للوطن بأبعاده المتعددة، وكانت نُخب الحركة الوطنية بوقاً لقومية إقصائية وعرقية

إن محمد بن عبد الكريم الخطابي كان يعكس، في العمق عصره، ويعكس الظروف التي عاشها والتي فَرَضَت عليه لكي يتخذ كل المواقف التي اتخذها. وأما أن نحاول اليوم إخراج كل ما قام به من سياقه التاريخي وإسقاط صراعاتنا السياسية الآنية على نصوص ووثائق تقرأ بشكل مبتور ومُشوّه وخارج سياقها، فهذا هو الاعتداء المبين على رجل استرخص حياته وقاوم بكل ما لديه من عزم من أجل تحرير بلده وجعله مرفوع الرأس كما كان لا يني يكرر. لقد كان محمد بن عبد الكريم محكوماً بإكراهات فكرية وتنظيمية وحربية وسياسية قاهرة فرضت عليه أن يعلن عن جمهوريته، وكان محكوماً بثقافة أمازيغية تعكس الذهنية الجماعية للريفيين، جعلته يؤكد على اختلاف اللسان الريفي عن باقي الألسنة الأخرى، كما أنه كان محكوماً أيضاً بإكراهات التحولات السوسيو-ثقافية والسياسية والقومية التي كانت تعج بها الساحة السياسية والثقافية بمصر لما استقر بأرض الكنانة، مما جعله ينخرط في الدفاع عن قضايا العرب والمسلمين، ويرجئ الخوض في القضايا ذات الصبغة الهوياتية، إما لكونها لم تكن مطروحة في ذلك الوقت أو لأنها لم تكن قد نضجت بعد في ذهنه أو لكونه كان واعياً بحدود تحركه، وبالمواقف العدائية التي كان يحملها القوميون والوطنيون للتجربة التركية. ثم، هل كان في إمكانه أن يجعل من الأمازيغية إحدى أولوياته وهو الذي كان يناضل من أجل الأرض؟ بله، وهل كان في مقدوره أن يجعل اللغة العربية، نفسها، من أولوياته أيضاً وهو الذي كان ينسق على الصعيد المغاربي لتنظيم الكفاح المسلح؟ إن الأهم بالنسبة إليه كان هو تحرير الأرض المغربية، وبناء مجتمع عادل يسوده الأمن. وأما القول اليوم بأن عبد الكريم لم يطالب بتدريس اللغة الأمازيغية، وأنه لذلك يجب إقصاؤها وعدم تدريسها ووأدها –كما طالب بذلك الجابري- وأنه على الحركة الثقافية الأمازيغية أن تصمت وتقف عند سقف الوعي الذي وصل إليه عبد الكريم، وأن تنخرط في التعريب، فأعتقد أن هذا إيقاف لسيرورة الزمن، ودعوة إلى التخلي عن هذه اللغة التي درّسها عبد الكريم، وعلمها أبناءه رغم ظروف الحرب والنفي والغربة. هي دعوة، بالنسبة إلينا، أقل ما يمكن أن نقول عنها أنها ليست وطنية.

إن هناك، على الأقل، مكونان، كما يقول عبد الله العروي، يشكلان شخصية الرجل، فهناك أولاً "المكون الريفي"، وهو المكون الذي يحيل، في نظرنا، على هويته العميقة، بوصفه كائنا اجتماعيا له انتماء إلى ثقافة ولغة-أم، وهما العنصران اللذان يبنينان كيانه: شعوره ولا شعوره؛ وهناك، من جهة ثانية، "المكون الأجنبي"، إذ لا ننسى أن عبد الكريم تأثر بالحضارة الغربية، وعبر بشكل واضح عن نيته الإصلاحية من خلال تبني نماذج حضارية غربية، وعلى رأسها النموذج السياسي الذي بلوره في النظام الجمهوري الذي أرساه، أو من خلال دعوته لتبني نموذج سياسي ملكي قائم على مفاهيم الديموقراطية التي يضمنها الدستور . ويمكن أن نضيف إلى هذين المكونين "المكون الإسلامي" الذي ظهر واضحاً بعد انتقاله من جزيرة لارينيون إلى مصر؛ ومن الثابت فإن المكونين الأولين هما ما كانت تعارضه النخب المدينية في شخص عبد الكريم، فهي كانت تعتبر المكون الأول يشكل تهديداً لتوسعها في البوادي وفي المناطق الأمازيغية، ولإمكانية فرضها النموذج اليعقوبي القائم على التنميط الاقتصادي والثقافي واللساني؛ كما كانت تعتبر المكون الثاني تهديداً مباشراً لمشروعها الدولتي القائم على بناء دولة مخزنية عروبية وتستعيد نفس أشكال الحكم التيوقراطية التي تخول لها تحويل المغرب إلى مقاطعة تابعة للعائلات المتنفذة. وعلى هذا الأساس فقد شكل انهزام الخطابي ونفيه فرصة سانحة للتعبير عن مشروعها من خلال:

1. مناهضة مشروع عبد الكريم الخطابي التحرري، إذ كانوا يتوهمون أنه كان يحمل مشروعا "بربرياًّ" يقف في وجه توسع المخزن العربي، وأن هذا المشروع يشكل خطراً عليهم، وهو ما عبر عنه ريزيت عندما قال: " إن الانتصار على عبد الكريم الخطابي قد شكل النجاح النهائي لتعريب المغرب، وذلك رغم الاستعمال الانتهازي والمخالف الذي قامت به الصحافة العربية للشرق الأدنى لهذا الانتصار. ومنذ ذلك الحين فإن أي تناول للخصوصية البربرية لا يكون له كمقابل التوسيع المتلازم لنفوذ المخزن العربي في المغرب، سيبدو وكما يعبر عنه، بألفاظ ديماغوجية، "يرفع وتيرة الأسلمة"" ؛

2. اتخاذها لموقف عدائي واضح من اللغة الأمازيغية وثقافتها، وذلك إما بإغلاقها للمدارس والمعاهد التي كانت تُحسب على الأمازيغية، أو بدعوتها إلى عدم تدريس اللغة الأمازيغية أو عدم كتابتها، بالحروف اللاتينية أو بحرف تيفيناغ أو منحها أي وضعية رسمية؛ أو أيضاً بخروجها ببيانات وتقارير تؤكد فيها على الاكتفاء بتدريس اللغة العربية دون الأمازيغية؛ ويمكن لنا أن ندرج، في هذا الصدد، مثلاً:

- التقرير الذي قُدم إلى المؤتمر الإسلامي العام وجميع مسلمي العالم من طرف اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، والذي تمت الدعوة فيه إلى:

 "احترام اللغة العربية لغة البلاد الدينية والإدارات كلها بالإيالات الشريفة، وكذلك سائر المحاكم وعدم إعطاء أي لهجة من اللهجات البربرية أي صفة رسمية، ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية»

- الموقف الذي خرج به الجمع العام لحزب الوحدة المغربية في 11 دجنبر 1937 والذي أكد فيه على أن حزب الوحدة المغربية:

 "يعتبر العربية بمثابة اللغة الرسمية الوحيدة للشعب للمغربي المسلم منذ اعتناق المغاربة للإسلام،

 "يولي لباقي اللهجات البربرية أهمية جد ثانوية، لأنها لهجات محلية وعامية، ولا تمثل أية ثقافة ولا علم ولا حضارة،

 "يحارب كل محاولة ترمي إلى بربرة المغاربة من جديد أو إلى شل تيار العروبة داخلهم، وفي نفس الوقت يركز جهوده على تعميم اللغة العربية وثقافتها في جميع المدن والبوادي حتى تصبح اللغة الوحيدة للنهضة المغربية الجديدة"

- البيان الذي وقع عليه علماء ومثقفو الحركة الوطنية والذي تم التأكيد فيه على:

 "أن التعريب الكامل العام في التعليم والإدارة والعمل والشارع، هو مطلب قومي أجمعت عليه الأمة منذ الاستقلال، وهو مبدأ لا يتعارض بحال من الأحوال، مع دراسة اللغات الأجنبية الحية كلغات، ولا يتناقض مع رغبتنا جميعاً في التفتح على حضارة القرن العشرين، وإنما يؤكد فقط رغبة الشعب المغربي في المحافظة على مقومات الشخصية الوطنية، ومن المعلوم أنه لا يمكن لهذه الشخصية أن تنمو وتزدهر إلا في إطار اللغة القومية، ولا يمكن للتعليم أن يصبح شعبياً وديموقراطياً ومزدهراً إلا باللغة القومية" .

3. استغلالها لما يسمى ب "الظهير البربري" لكي تشرعن لعملية التعريب الشامل ولتؤسس لدولة ممركزة تقوم على التعليمات، وترفض أي نوع من أنواع التسيير المحلي للجهات بما فيه التسيير التقليدي الديموقراطي الذي كان سائداً من قبل؛

4. تركيزها على مشروع بناء الدولة القومية العربية ذات المنحى المخزني والتيوقراطي، ورفضها ومعاداتها المطلقة لتجربة الدولة التركية العلمانية التي وضع أسسها أتاتورك والتي كانت النموذج بالنسبة لمحمد بن عبد الكريم؛

5. سكوتها التام عن مصير محمد بن عبد الكريم منذ أن تم نفيه إلى جزيرة لارينيون من طرف فرنسا سنة 1926 إلى حين نزوله بمصر سنة 1947؛ فهي لم تبادر في أي لحظة بمطالبة السلطات الفرنسية كي يعود هذا البطل الكبير إلى بلاده المغرب، بله إنها على العكس استغلت غيابه لتحيين مشاريع أخرى تختلف تماماً عما كان يدعو إليه الخطابي ؛

6. استغلالها لعودته من منفى جزيرة لارينيون إلى مصر لكي تحاصره بالقاهرة داخل أسوار ما سُمي في حينه ب "مكتب المغرب العربي"؛ حيث تحول هذا المكتب إلى سجن له وإلى مصدر مدر للأموال بالنسبة لبعض أعضائه؛ فمن المعلوم أن هؤلاء الأعضاء سارعوا، بعد أن أصبح الرجل بين أيديهم، وبعد أن تخلى عن جميع أمواله التي كان قد أرسلها إلى فرنسا، إلى جمع الأموال من أثرياء وملوك وسلاطين ورؤساء الدول الإسلامية والعربية بمبرر "تحسين ظروف السكن والإنفاق على الأسرة [أي أسرة الخطابي]" إلا أن الخطابي لم يعرف شيئاً عن هذه الأموال خاصة "وأن الصلة قد انقطعت تماماً بينه وبين أعضاء الحركة الوطنية المغربية" ؛ ورغم البحث في هذا الموضوع فإن " هذه المبالغ لم نعثر على قيمتها" كما يورد ذلك السيد محمد الصغير الخلوفي في (ملفات من تاريخ المغرب). والأسوأ في كل هذا، كما أشرنا، هو تعريضهم الخطابي وأسرته لشظف العيش وللتضييق "الذي فات الحد" (كما عبر عن ذلك)؛ وهذا ليس فقط لأن أسرته تم تشتيتها، ولم يتم إيجاد سكن لائق به، ولكن أيضاً لأنهم حرموه من الزيارات؛ وقد عبر هو نفسه عن هذا التضييق بقوله: " لقد تعرضنا لمرض جماعي كما حدث لنا تماما غداة وصولنا إلى جزيرة لارينيون سنة 1926م. ولو أن السكن كان متوفراً في الجزيرة كنا محرومين من الاتصال بالخارج. أصبحنا نظراً لبعدنا عن المعمورة تحت رقابة الأعداء التقليديين، وهذا طبيعي. وهنا في هذا المنزل المريض (يقصد منزله بمصر الذي لم تكن تتوفر فيه أدنى شروط العيش الكريم) أصبحنا محرومين من الاتصال بالخارج أيضاً للنطاق الذي ضربه حولنا من عانقنا ورحب بنزولنا"؛ وهكذا منعوا عنه زيارات الشخصيات السياسية الكبيرة، ومنعوا عنه زيارات الطلبة المغاربة الموجودين بمصر؛ وهو ما أدى بهذه الشخصيات إلى الاستنكار، فكاتبته في الأمر، إذ "توصل لأجل ذلك بسيل من الرسائل الاستنكارية" كما يقول؛ ومن بين هذه الرسائل التي توصل بها تلك التي تتهم هؤلاء المحيطين به بكونهم كانوا يأخذون الأتاوات لكي يسمحوا لهم بالدخول إليه؛ فقد جاء على لسان الخطابي: "حتى هؤلاء لم يسلموا، فالرسميون وأصحاب المكانة الاجتماعية أو السياسية كانوا يوافقون ولكنهم يستغلونهم بدفع الأتاوات والرشوة والابتزاز على أن يحضروا الاجتماعات كلها. أما غير ذلك فكانوا يمنعونهم منا حتى تلقيت سيلاً من رسائل الاستنكار بهذا الخصوص" .

7. التركيز على سياسة المهادنة والمقاومة السلمية القائمة على المفاوضات السرية، وتوقيع البيانات، وفي بعض الحالات انخراط البعض في تبني السياسة الاستعمارية وذلك كما وقع عندما تمت مبايعة بن عرفة، وهذا كله بدلاً من المقاومة المسلحة التي قادها عبد الكريم وقادتْها إلى جانبه النخب الأمازيغية والقروية في الجنوب؛

8. التبرؤ من العمليات العسكرية التي قام بها المقاتلون، والتي كان يشجعها عبد الكريم بله وكان يعمل من أجل إنجاحها، في جميع دول شمال إفريقيا؛

9. التركيز على مبدأ عروبة المغرب من خلال تبنيها لمفاهيم القومية العربية التي كان ينشرها شكيب أرسلان، وتجاوزها لمفهوم تعليم اللغة العربية وثقافتها، الذي كان يدعو إليه عبد الكريم، إلى مفهوم تعريب الإنسان والمحيط، وتحويل المغرب إلى مغرب "عربي"؛

خلاصة
ولنا أن نتساءل بعد كل هذا. هل كانت تجربة الحركة الوطنية امتداداً لتجربة محمد بن عبد الكريم؟ إن عبد الله العروي يذهب إلى أن الحركة الوطنية لم تستعد للأسف هذه التجربة ولم تستفد منها، بله حرفتها. يقول: "لم تغن التجربة الريفية، الحركة الوطنية، ولم تضف إليها، بل يحتمل أن تكون الأخيرة هي التي استرجعتها وحرفتها كي تلتقي مع منطلقاتها الخاصة" . ونحن إذ نشير إلى هذا الخلل وإلى هذا الاستغلال والتحريف المشينين، بل وإلى هذه الحرب الهوجاء التي ووجه بها هذا البطل، نرجو أن يتوقف تلامذة الحركة الوطنية، الذين أصبحوا كثراً اليوم، عن هذه الحرب الهوياتية باستغلال هذا الاسم الكبير وتحريف تجربته الثرية في حرب الريف من أجل تحقيق أهداف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها دنيئة: اغتيال الأمازيغية لغة وثقافة وطمس حضارتها واتخاذ الأمازيغ خوَلاً إلى أن يذوبوا في عروبة مفتَرَضَة، والوقوف في وجه تحديث الدولة المغربية عن طريق شرعنة هذه "العروبة" بوصفها قيمة أسمى والحط من قيمة "المزوغة" بوصفها رديفاً للتخلف والفلكلرة والخيانة والهمجية، وأخيراً، إعادة إنتاج النخب على أسس عائلية وعرقية تتقاسم وحدها السلطة والخيرات والأمجاد "العرقية التليدة". إننا ندعوهم إلى تبني موقف متوازن من اللغتين الأمازيغية والعربية. ندعوهم إلى أن يستدمجوا المكونين في صلب هويتنا الوطنية، ويتوقفوا نهائياً عن حشر الدين وشخصياتنا الوطنية في أمور ليست من الدين ولا من التاريخ في شيء. ندعوهم إلى استنزال ديموقراطي للدستور بترسيم اللغة الأمازيغية ومساواتها مساواة كاملة بأختها العربية؛ تلكم هي نصيحتنا إن أُريد لهذا الوطن خيراً، وإلا فإن الحداثة والمساواة والتسامح والتعايش والاحترام المتبادَل ستصبح كلها قيماً مؤجّلَة إلى إشعار آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.