الأستاذ عصام احميدان كنا قد أشرنا في مقال سابق إلى أن هناك ثلاث مشاريع إقليمية تتنافس في المنطقة: المشروع التركي، المشروع الإيراني، المشروع السعودي، وقلنا أن المشروع العربي الوحيد في المنطقة هو المشروع السعودي، وأن هذا المشروع تضرر كثيرا بفعل الثورات العربية، مما عزز مكانة المشروعين التركي والإيراني في المنطقة. اليوم، وبعد إعلان وفاة ولي العهد السعودي سلطان بن عبد العزيز، نستطيع القول أن المشروع العربي السعودي يقترب من لحظة انكسار تاريخي، ذلك أنه بعد انحسار الدور الإقليمي السعودي وفقدانه لحليفه التونسي والمصري، وتحرك الساحة الشعبية البحرينية بفعل المعارضة الشيعية، وأيضا بفعل الدور القطري غير المتناغم مع الدور السعودي، والأقرب إلى المشروع التركي الذي يدعم غربيا بشكل غير محدود.. اليوم، نستطيع القول أن السعودية ستشهد خروج الصراع الداخلي بين أجنحة الحكم إلى الواجهة، مما سيشكل أكبر تحدي للدور السعودي في المنطقة. إن الحكم في السعودية موزع بين قوتين أساسيتين: جناح الملك عبد الله بن عبد العزيز وأبنائه الماسكين لملف الاستخبارات و الحرس الوطني، وجناح آخر يطلق عليه اسم: الجناح "السديري" وهو جناح الإخوة الأشقاء للأخ غير الشقيق لهم "عبد الله"، وهم سلطان بن عبد العزيز المتوفي اليوم وهو ولي العهد ووزير الدفاع، ابنه بندر بن سلطان، سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية و النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، عبد الرحمن بن عبد العزيز نائب وزير الدفاع والطيران والمفتشية العامة. ما يميز الحكم في دول الخليج عموما، وفي السعودية أيضا، هو أن بنية الحكم يعاني من الشيخوخة، وقد انتبه لذلك الأمر الملك عبد الله بن عبد العزيز والذي استطاع بفضل حنكة ودهاء مستشاره السابق التويجري أن يضع قانون مجلس البيعة، وهو قانون ينقل الحكم من الأب إلى ابنه كما هو معمول به في كل من المغرب والأردن خلافا لما عمل به تاريخيا في السعودية أي نقل الحكم من الأخ لأخيه. إن "قانون مجلس البيعة" يشكل هاجسا كبيرا لدى الجناح السديري، حيث يرى هذا الجناح المتنفذ والذي له علاقات واسعة مع اليمين المحافظ "الحزب الجمهوري الأمريكي" أن قانون البيعة من شأنه أن ينقل الحكم من الملك عبد الله إلى أحد أبنائه وإخراج السديريين نهائيا من الملك، خاصة فيما لو توفي ولي العهد سلطان بن عبد العزيز في حياة الملك عبد الله وهو ما تم فعلا اليوم. إن الجناح السديري في مواجهة قانون مجلس البيعة يتمسكون بفكرة نقل ولاية العهد لوزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء نايف بن عبد العزيز، بالرغم من أن سلمان بن عبد العزيز شقيقه يميل إلى طرح نفسه أيضا بديلا لولاية العهد.. غير أن في مقابل ذلك كله، يتمسك جناح الملك عبد الله بقانون البيعة الذي تشكل فيه هيئة البيعة التي تضم كل أبناء عبد العزيز الجهة صاحبة قرار اختيار ولي العهد من بين أبناء الملك عبد العزيز.. مما يشكل تعويما للقوة العددية للفرع السديري. من المحتمل جدا أن يخرج الخلاف الداخلي حول موضوع "ولاية العهد" إلى العلن بين الجناحين القويين في الحكم السعودي، وهو ما يزيد من انشغال وإضعاف الدور السعودي في المنطقة، وتشاء الأقدار أن تتحرك بقوة الدبلوماسية الإيرانية والتركية للتقارب والتنسيق في ذات اليوم الذي يعلن فيه وفاة ولي العهد السعودي.. إننا هنا أمام صعود إقليمي تركي وأيضا إيراني وفي مقابل ذلك انكسار تاريخي للمشروع العربي السعودي، بل إن قرار الأممالمتحدة أمس ضد الرئيس صالح في اليمن والذي يطلب منه ترك السلطة ولا يمكنه من الضمانات الدولية لعدم المتابعة القضائية لاحقا ، يشكل أيضا دليلا آخر على قرب سقوط حليف آخر للسعودية. إن إعلان أوباما الانسحاب الأمريكي من العراق نهاية هذه السنة، ورفض حكومة المالكي منح الحصانة للقوات الأمريكية بعدم المتابعة القانونية، فرصة لإيران أن تتقوى أكثر فأكثر في العراق، غير أن الولاياتالمتحدة قد تلجأ إلى تحريك المشروع التركي ونفوذه في العراق للحد من نفوذ المشروع الإيراني في بلاد الرافدين.. وهو ما يفسر استغلال الولاياتالمتحدة للعملية التي نفذها حزب العمال الكردستاني والتي استهدف بموجبها الجنود الأتراك، بحيث حاولت الولاياتالمتحدة اتهام إيران وسورية بالوقوف وراء حزب العمال الكردستاني لكي يتم توجيه الدور التركي ليتناقض مع الدور الإيراني في المنطقة وخاصة في ملفي سورية والعراق.. وقد التقطت إيران الإشارة، وتحرك اليوم وزير خارجيتها صالحي في زيارة غير معلن عنها من قبل، لتنسيق المواقف وقطع الطريق على المخطط الأمريكي. إننا اليوم، أمام مرحلة تاريخية تتجه من المحاور الإقليمية الثلاث، إلى ثنائية قطبية في المنطقة تمثل فيها تركية وإيران قطبي هذه التحولات الإقليمية، كما نتوقع أن تتحول لاحقا حالة المنافسة بين المشروعين التركي والإيراني إلى حالة صراع سياسي إقليمي، لكن هل سيقبل حزب العدالة والتنمية التركي اللعبة الأمريكية ليواجه المشروع الإيراني؟ أم أن الحركة النورسية وهي الحركة الأساس المحركة للمشروع التركي ستفرز حالة سياسية جديدة؟ سنأتي في مقال مقبل لتوضيح منطلقات الحركة النورسية وعلاقتها بالإسلام السياسي التركي وبالمشروع التركي ككل.