كنا نعتقد ان النظام الرسمي العربي يعيش غيبوبة الموت السريري، حيث لم يحرك ساكناً طوال المجازر الاسرائيلية التي استمرت لمدة ثلاثة اسابيع متكاملة في قطاع غزة، بل ان بعضه كان متواطئاً، بشكل مباشر او غير مباشر، مع هذه المجازر، على امل ان ينجز له العدوان الاسرائيلي ما عجز عنه، اي اجتثاث ظاهرة المقاومة في هذا الجيب الصغير المتمرد على حالة الاستسلام السائدة في محيطه العربي. ولكن بوادر حياة بدأت تدب في شرايينه في الأيام القليلة الماضية، حيث شاهدنا حراكاً في اكثر من اتجاه يثير العديد من علامات الاستفهام حول اسبابه ومراميه في آن. ويمكن رصد هذا الحراك ومحطاته والقائمين عليه في مجموعة من النقاط: اولاً: قيام الامير مقرن بن عبد العزيز رئيس جهاز الاستخبارات العامة السعودي بزيارة مفاجئة الى العاصمة السورية دمشق حاملاً رسالة شفهية الى رئيسها من الملك عبدالله بن عبد العزيز، وتردد انها جاءت رداً على رسالة مماثلة حملها رئيس الاستخبارات السوري الى العاهل السعودي. التسريبات الاعلامية السورية والسعودية قالت ان هذه الزيارات تأتي تنشيطاً لجهود المصالحة العربية. ثانياً: الرئيس المصري حسني مبارك طار فجأة الى المنامة في زيارة غير معلن عنها، مثل جميع زياراته السابقة (خوفاً من تكرار حادثة اغتيال اديس ابابا)، الزيارة تمت تحت عنوان اظهار التضامن مع البحرين في مواجهة التهديدات الايرانية لعروبتها، وبعد التصريحات التي أدلى بها حجة الاسلام ناطق نوري واعتبر فيها البحرين محافظة ايرانية. كيف سيتضامن الرئيس مبارك مع البحرين في مواجهة تهديدات كلامية، وهو الذي لم يتضامن مطلقاً مع ابناء قطاع غزة الذين واجهوا حرباً اسرائيلية أدت الى استشهاد 1350 شخصاً واصابة ستة آلاف، وتدمير منزل من بين كل ستة منازل بالقنابل والصواريخ الاسرائيلية، ومن المعروف ان قطاع غزة امتداد للأمن القومي المصري، وما زال يعتبر مسؤولية اخلاقية وقانونية مصرية. ثالثاً: توجه وفد مصري الى الخرطوم برئاسة السيد احمد ابو الغيط وزير الخارجية المصري وعضوية اللواء عمر سليمان رئيس جهاز الاستخبارات لبحث قضية دارفور، واحتمال اصدار محكمة الجنايات الدولية قراراً بطلب تسليم الرئيس السوداني عمر البشير للمثول امامها، ثم طار الوفد بعد ذلك الى الرياض لتسليم رسالة الى العاهل السعودي. رابعاً: السيد عمرو موسى امين عام الجامعة العربية يطوف حالياً بعواصم عربية لبحث موضوع المصالحة، ومن بينها محطة دمشق، وهو الذي تجنب زيارة اي عاصمة عربية خارج اطار محور دول الاعتدال. الانطباع الأول الذي يخرج منه اي مراقب لهذه التحركات هو لعب قادة الاستخبارات دوراً رئيسياً فيها، اي ان الحوار حول المصالحة يتم من خلال القنوات الاستخبارية، وليس السياسية مثلما تقتضي الأعراف، وكأن هذه المصالحة مشروع أمني، او ان الخلاف الذي يتم التركيز على ازالة اسبابه هو خلاف امني وليس على اساس قضايا سياسية محضة، مثل التعامل مع ملف الصراع العربي الاسرائيلي، وكيفية التعامل مع نتائج الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة، ووصول ادارة امريكية جديدة الى سدة الحكم، وتعاظم صعود قوى اقليمية جديدة غير عربية في المنطقة مثل ايران وتركيا. نحن الذين طالبنا بضرورة وضع حد، وبشكل سريع دون ابطاء، للانقسامات العربية الرسمية، لا يمكن ان نعارض، او حتى نشكك، بأي جهود تبذل حالياً من اجل تحقيق المصالحة العربية، ولكن يظل من حقنا ان نسأل على اي اساس ستتم هذه المصالحة، وما هي الارضية السياسية والاستراتيجية التي ستقوم عليها. بمعنى آخر نسأل الى اي مدى سيذهب هذا الغزل السعودي السوري الحالي، ولماذا يتكثف في هذا التوقيت بالذات عندما بدأت الوفود الامريكية، من الكونغرس ومجلس الشيوخ، تحج الى قصر المهاجرين في دمشق، ثم هل ستجرّ الحكومة السورية نظيرتها السعودية الى معسكرها، اي ما يسمى بمعسكر دول الممانعة، او العكس؟ خطة الادارة الامريكيةالجديدة تفكيك المحور السوري الايراني، وابعاد سورية عن ايران على وجه التحديد، من خلال عروض بكسر الحصار واعادة العلاقات الى طبيعتها بين واشنطنودمشق، وربما التلويح مجدداً بجزرة هضبة الجولان. فهل ستصب المصالحة السعودية السورية في الهدف نفسه؟ لا نشك في ذكاء المطبخ السياسي السوري، خاصة انه حقق نجاحات كبيرة في كسر العزلة الدولية التي فرضتها امريكا على سورية، مثل زيارة الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي لدمشق، وتوقيع اتفاق تجاري مع الاتحاد الاوروبي، وتمتين العلاقات مع بريطانيا (زيارة وزير خارجيتها ديفيد ميليباند لدمشق)، ولكن هل يدرك كبير الطباخين السوريين ان كل هذا الاهتمام ببلاده يعود الى تحالفها مع ايران وحزب الله وحركة حماس، ويمكن ان يتبخر اذا ما تحقق الهدف منه، اي اخراج سورية من هذا التحالف، وقد ينقلب الى نتائج وربما اجراءات عكسية. وتجربة الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه مع امريكا ماثلة في الأذهان، خاصة تحالفه مع دول الاعتدال وامريكا واوروبا لكبح جماح الثورة الايرانية، والحيلولة دون امتدادها الى شواطئ الخليج العربية الغربية، ثم انقلاب الجميع ضده، والتآمر على اطاحة نظامه. ما نريد ان نخلص اليه من هذا الاستطراد هو التأكيد على ان تقوم اي مصالحة عربية على اساس الثوابت العربية، ومشروع نهضوي عربي متكامل يحقق لهذه الأمة مكانتها، ويبلور مشروعها في مواجهة مشاريع القوى الأخرى، والمشروعين الايراني والتركي على وجه الخصوص. نشرح اكثر ونقول ان المصالحة يجب ان تتم بعد مرحلة من النقد الذاتي من قبل محوري الممانعة والاعتدال، ومناقشة الأخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها الطرفان، والاعتراف بها، والعمل على اصلاحها، وابرزها الدوران في دوامة الاعتدال الكاذبة، ومساندة المشاريع الامريكية في الهيمنة والحصارات، وتغيير انظمة عربية، والصمت على اطلاق يد العدوان الاسرائيلي للولوغ في الدم الفلسطيني واللبناني. المصالحة العربية التي يريدها، وعبّر عنها، الشارع العربي بكل وضوح في هبّته الأخيرة، يجب ان تقوم على ارضية المقاومة للمشروعين الامريكي والاسرائيلي، والانحياز للمشروع الوطني الفلسطيني المقاوم، وترتيب البيت الفلسطيني على اساسه، وليس على اساس التسول من الدول المانحة، ومواصلة الانخراط في مفاوضات عبثية. فمن المؤلم ان القضية الفلسطينية تختصر حالياً في قضايا هامشية مثل التهدئة وفتح المعابر والانفاق، بعد ان كانت قضية تحرير وتقرير المصير. نتطلع الى مصالحة تعيد الحد الأدنى من الهيبة العربية، وترتقي الى مستوى الشعوب وكرامتها وطموحاتها، لا الى مصالحة ضد هذه الشعوب وتطلعاتها المشروعة في العدالة والتقدم والمساواة وتحرير الاراضي المغتصبة. صحيفة القدس العربي اللندنية 17/02/2009