خيّب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي آمال مئات الملايين من العرب والمسلمين عندما كشف عن انحيازه الكامل إلى المجازر الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة حيث وجه اللوم إلى الضحية، وأعفى الجلاد الإسرائيلي من أي نقد حقيقي. الرئيس ساركوزي أكد في تصريحاته التي أدلى بها، أثناء توقفه في رام الله، في بداية جولته الحالية، السقوط الأخلاقي لهذا الغرب الحضاري الديمقراطي، عندما لم يتردد لحظة في تحميل حركة حماس المسؤولية عما يحدث حاليا في قطاع غزة بقوله «إنها تصرفت بشكل غير مسؤول لا يغتفر بقرارها رفض تمديد التهدئة، واستئناف إطلاق الصواريخ على الدولة العبرية». أمر مخجل أن يسقط الرئيس الفرنسي الذي يمثل دولة الحريات وقيم الانتصار للعدالة والضعفاء، هذه السقطة، في وقت تنقل إلينا عدسات التلفزة العالمية صور عشرات الأطفال وقد مزقت أجسادهم الصواريخ الإسرائيلية. الرئيس ساركوزي لم يذهب إلى المنطقة في مهمة سلام، أو لوقف إطلاق النار، مثلما ادعى، وإنما لكي يعطي إسرائيل غطاء أوروبيا لإكمال «الهولوكوست» الذي بدأته قبل عشرة أيام ضد أناس محاصرين مجوّعين وعزل. فصول المؤامرة تتضح يوما بعد يوم، فبعد الصمت الغربي المريب، ومنع مجلس الأمن الدولي من قبل أمريكا والدول الأوروبية دائمة العضوية فيه من إصدار أي قرار يدين العدوان الإسرائيلي ويطالب بوقفه، ها هو الرئيس الفرنسي يختار منبر السلطة الفلسطينية في رام الله ليعلن أن حركة حماس «تتحمل مسؤولية كبيرة عن معاناة الفلسطينيين في غزة»، وهو صك براءة من زعيم إحدى دول التحالف الغربي لإسرائيل، لإعفائها من أي مسؤولية أو لوم، وصك إدانة للضحايا.. هذا هو النفاق الغربي الذي أوصل العالم إلى هذا الوضع الماسوي الذي يعيشه، بدءا من تصاعد أعمال العنف والإرهاب وانتهاء بالانهيار الاقتصادي الشامل. من الواضح أن الحكومة الفرنسية تؤيد هذه المجازر الإسرائيلية، بعد أن اطلعت على الأهداف التي تسعى حكومة تل أبيب إلى تحقيقها أثناء زيارة السيدة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية لفرنسا يوم الخميس الماضي. فبعد هذه الزيارة الخاطفة تغير الموقف الرسمي الفرنسي كليا، وانقلبت جولة ساركوزي من مهمة سلام ووقف الحرب، إلى مباركة لها وإعطاء الحكومة الإسرائيلية كل الوقت والدعم للمضي قدما فيها، حتى تحقق أهدافها كاملة. الهدف الأساسي من هذا العدوان ليس وقف إطلاق الصواريخ، وإنما «تغيير النظام» في قطاع غزة، أي إطاحة حكومة «حماس» وإعادة القطاع برمته إلى بيت طاعة السلطة في رام الله. إسرائيل تسير على خطى معلمها الأمريكي، فطالما أن إدارة الرئيس بوش نجحت في تغيير نظامي العراق وأفغانستان، تحت ذريعة أنهما نظامان دكتاتوريان، فما المانع أن تغير إسرائيل حكومة منتخبة بصورة ديمقراطية في اقتراع حر في قطاع غزة؟ الحكومة الإسرائيلية اتخذت من إطلاق الصواريخ ذريعة للإقدام على هذه الخطوة، بتضخيم حجم أضرارها، لأنه لا توجد لديها أي ذرائع أخرى، فلا توجد مقابر جماعية في قطاع غزة، ولا يوجد أي تنسيق بين حركة «حماس» وتنظيم القاعدة، ولم تستطع المخابرات الأمريكية أو نظيرتها الإسرائيلية فبركة أي علاقة بينها وبين أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). إسرائيل استخدمت أساليب الحصار والتجويع لتركيع أهل القطاع، ودفعهم إلى الثورة ضد الحكومة، وعندما فشل هذا الأسلوب اللاأخلاقي المعيب، لجأت إلى الهجوم الجوي، وعندما فشل هذا الهجوم في ترويع قادة حماس، وحركات المقاومة الأخرى ودفعها إلى الاستسلام ورفع الرايات البيضاء تمّ اللجوء إلى الغزو البري. تغيير النظامين في العراق وأفغانستان لم يحقق النصر للإدارة الأمريكية والتحالف الغربي الذي دعم حروبها، بل أوقعهم في حرب استنزاف مادية وبشرية لا أحد يتنبأ كيف ستنتهي. وتغيير النظام في قطاع غزة إن تم بالقوة العسكرية، وعلى جثث المئات، وربما الآلاف من الأطفال والمدنيين، وهذا ما نشك فيه، فإنه لن يحلّ مشكلة الصواريخ، ولن يوقف المقاومة، بل ربما يجعلها أكثر شراسة، تماماً مثلما حصل في العراق وأفغانستان، وسيجعل إسرائيل تغرق في مستنقع غزة وبحرب دموية استنزافية، ستهرب منها مهزومة ورافعة الراية البيضاء. تجارب الحروب الإسرائيلية الأخيرة، سواء ضد منظمة التحرير (اجتياح عام 1982) أو ضد حزب الله (صيف 2006) وقبلها (حرب الحزام الأمني) كشفت أن إسرائيل تخرج دائماً من هذه الحروب أضعف سياسياً وعسكرياً في الوقت نفسه، ومحاولة قلب هذه المعادلة في الهجوم على قطاع غزة «الخاصرة» الأضعف في «تحالف الشر»، حسب التوصيف الأمريكي، مقامرة كبيرة قد تأتي بخسائر غير محسوبة بل وغير متوقعة. احتلال غزة أمر مكلف.. والبقاء فيها أمر أكثر خطورة، وعودة سلطة رام الله على ظهر الدبابات الأمريكية أمر مستبعد، ونفى ذلك السيد محمود عباس صراحة في مؤتمره الصحافي، اللهم إلا إذا كانت هذه السلطة تريد أن تستعيد تجربة «حكومة فيشي» التي نصبها النازيون لحكم فرنسا تحت احتلالهم، ولن نستبعد أن يحاول السيد ساركوزي تسويق هذه الفكرة أثناء توقفه في رام الله بإيعاز إسرائيلي. إسرائيل ربما تكسب عسكرياً، لأنها تخوض حرباً من طريق في اتجاه واحد وضد عدو ضعيف جداً، محاصر ومعزول ومقطوعة كل طرق إمداداته، حتى الطبية منها. ولكنها تخسر دبلوماسياً وأخلاقياً وسياسياً. فقد بات العالم يشاهد جرائمها في صور الشهداء الأطفال وأجسادهم الممزقة. التعتيم الإعلامي الإسرائيلي، ومنع الصحافيين من دخول قطاع غزة لتغطية الوقائع على الأرض، وهو أمر لم يحدث في عهد صدام حسين الذي يتهمه الغرب بالديكتاتورية، لن يحول دون وصول الحقائق إلى الرأي العام العالمي. وما يؤلمنا أن هذا الإعلام الغربي الذي يعطينا دروساً في المصداقية والموضوعية الصحافية يصمت على هذه الإهانة، بل وينحاز في معظمه إلى هذه «الدولة الديمقراطية» (من منظورهم) التي تمارس المنع لإخفاء مجازرها. خيبة أمل كبرى أخرى تتمثل في موقف الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما الذي صمت عن المجازر الإسرائيلية، بحجة الالتزام بالبروتوكول، وتكرار القول بأنه لن يعلق على أحداث غزة لأنه يوجد رئيس واحد في أمريكا. أوباما نسي أنه خرج عن هذه القاعدة عندما لم يتردد في إدانة الهجوم الدموي في مومباي بأكثر العبارات شدة. كل القواعد تتغير عندما يكون الجلاد إسرائيلياً ويكون الضحية عربيا أو مسلما. إسرائيل لن تنجح في تغيير النظام في غزة، اللهم إلا إذا غيرت الشعب الفلسطيني من سكان قطاع غزة، واستبداله بشعب آخر، ويبدو أنها بدأت هذه المهمة بحرب الإبادة والتطهير العرقي التي تشنها حالياً.