كشف تحقيق اجتماعي مثير نشرته يومية الشروق الجزائرية، في عددها الصادر اليوم الجمعة، عن معطيات خطيرة تظهر بجلاء مستوى الهشاشة الاجتماعية الذي أصبح يعيشه الأشقاء في بلد النفط والغاز. وأظهر التحقيق معاناة أسرة يأكل أفرادها الحشائش ويشربون من مياه المجاري، مسجلا تراجع الحكومة الجزائرية عن وعود سبق لها أن قدمتها للأسرة، في وقت ترفض فيه مستشفيات الأمراض العقلية استقبال أفراد أسرة يهيمون على وجوههم في الخلاء ويتصرفون حيال الغير بعنف دفعت بوالدهم لربطعن بالسلاسل لسنوات عدة.
وتعود الحكاية لعائلة عناب في ولاية أم البواقي مكونة من أربعة مرضى مصابين بعاهات عقلية، سبق لصحيفة "الشروق" أن أثارت قضيتهم منذ خمس سنوات خلت، وماتزال أوضاعهم على حالها رغم الوعود الكثيرة التي قدمت لهم، خاصة وأن الأسرة المكلومة تقطن في قلب الأوراس، وفي بلد يزدحم بالآلاف من المليارديرات..
وأكد والد الأبناء الأربعة أن كل الوعود التي وصلته، لم تكن أكثر من كذبات، ظل يلتهمها على مدار السنوات، فمازال أبناؤه مقيدين داخل بيت (كوخ)، وعندما يطلق سراحهم لبعض الوقت يهيمون في الخلاء، يأكلون الحشيش اليانع في هذا الربيع، مع الأغنام ويسرحون في المزابل مع الكلاب المتشردة، ويشربون من المجاري الكثيرة في قرية بئر الهنشير، الواقعة في ولاية أم البواقي.
وأضاف الأب ( 62 سنة) في تصريح ل''الشروق اليومي'' وهو يذرف الدموع قائلا " يستفيد كل ابن من أبنائي المرضى من مبلغ أربعة آلاف دينار جزائري .. لا تكفي حتى لشراء الحفاظات، أما عن الأدوية والمسكنات...؟"
في عام 1978 ارتبط السعيد عناب بابنة عمه، التي تصغره بتسع سنوات، حيث بلغ حينها السادسة والعشرين ربيعا، وكان أول العنقود عام 1981 الطفلة لمياء التي ولدت مريضة عقليا، وعندما علم عمي السعيد بأن ثاني العنقود ذكرا، سارع لمنحه اسم محمد، وهذا في عام 1976 ولكن الأيام بيّنت بأن حال محمد العقلي مثل لمياء، وتواصل الجهل والإنجاب أيضا، بحثا عن السليم الأول في العائلة، فأنجب عام 1988 مولودا ثالثا اختار له اسم حسين، فكان ثالث المرضى نفسيا، وعندما بلغت لمياء العاشرة، وحتى آخر الأبناء وهو الطفل عبد الرشيد المولود عام 1999 كان متخلّفا ذهنيا ''مونغولي''، ليجد عمي السعيد نفسه ربّ أسرة كما حلم دائما، ولكنها لا تختلف عن مستشفيات الأمراض العقلية.
ويقسم الأب بالله وهو يقول للشروق اليومي: أقسم بالله أن ابني الأكبر محمد الذي قارب سنه الثلاثين لم يخرج من البيت منذ أبريل من عام 2014 وهو مربوط مثل الحيوانات بالسلاسل، منذ سنة كاملة، لم ير النور بسبب عنفه، لقد طرقت مرة أخرى باب مستشفى الأمراض العقلية بوادي العثمانية بولاية ميلة، ولكنهم رفضوا استقبال أبنائي، لأنهم كبروا وكبر عنفهم وضياعهم، وصارت حالتهم العقلية ميؤوس منها، الوالد يسرح يومه بحثا عن لقمة العيش، والأبناء يكبرون ومشاكلهم تكبر وتذمّر الجيران وأهل الدوار تكبر.
لم يكن الزمن وحده من عذّب عمي السعيد، ولا الدولة فقط، تضيف "الشروق"، وإنما المحيطين من حوله، لا أحد حنّ قلبه على حالته، وهو القاطن في شبه إسطبل، بل راحوا يجبرونه على أن يشتري سلاسل حديدية ويربط أبناءه في البيت، كان مطلب أهل الدوّار أن لا يشاهدوا هؤلاء الأبناء، كانوا يرونهم مثل الكلاب المفترسة، وأصعب ما قاله عمي السعيد ''ما يحزنني أن الناس يشترون الخرفان ويتركوها هائمة في الخلاء، وأنا أقيّد أبنائي بالحديد، ليس خوفا عليهم وإنما خوفا على الناس منهم''.. فمنذ أفريل 2014 والابن محمد مربوط بالسلاسل في عمود بالكوخ، لأن مرضه عنيف، فقد خرج مرة ولم يعد، ظل يمشي ويجري لمدة أسبوع حتى وجده والده في مكان بعيد عن القرية، بأكثر من مائة كيلومتر في بلدية شلغوم العيد التابعة لولاية ميلة، ويتحوّل بكاء عمي السعيد إلى عويل، وهو يذكرنا بالقول بأنه يستعمل شاحنة عندما ينقل أبناءه للعلاج، مربوطين مثل البقر، البعض يطلبون مني مغادرة الدوار وآخرون يعتبرونني ضائعا مثل أبنائي، سألناه ثم ماذا، فقال: حلم حياتي الآن هو الموت.
الصحراوي .. ربع قرن مقيّد القدمين
غير بعيد عن ولاية أم البواقي، مسرح المأساة الأولى، تنقل فريق الجريدة إلى ولاية باتنة، لنقل مأساة ''رجل السلاسل''....الذي يعيش مأساة عمرها أكثر من 35 سنة.
"وصلنا بلدية لازروا في الجهة الغربية لولاية باتنة، والتي تبعد عن عاصمة الولاية ب50 كلم، أين يتواجد المنزل العائلي للشقي الصحراوي بوعزة البالغ من العمر61 سنة، والمعروف في المنطقة برجل السلاسل نسبة للسلاسل والقيود التي لم تغادر رجليه منذ سنوات، وجعلته سجين غرفة، شاءت إرادة الله أن تحمل بين جدرانها العديد من الذكريات المريرة، خاصة وأن الصحراوي لم ير نور الشمس منذ سنوات مرضه، وكان في استقبالنا أمّه العجوز وأبوه، وقد قارب سنهما التسعين، تقربنا منهما واستفسرنا عن الصحراوي فكان لهما حديث طويل امتزج بالدموع تارة وبحمد الله أخرى، وبتنهيدات في غالب الأحيان."
عندما تصبح السلاسل الحل الوحيد
تعقدت الأمور على الصحراوي خاصة بعد فشل رحلة العلاج، حيث أصبح لا يعرف المنزل، وكان إذا خرج لا يرجع إلا بعد أسابيع، وعن هذا الوضع يحكي ابن عمه حمزة بوعزة عن حادثة تعرضه لإطلاق نار من قبل أعوان الحرس البلدي، عن طريق الخطأ، حيث اشتبه في الصحراوي بأنه إرهابي، حاول اقتحام مدرج مطار مصطفى بن بولعيد بباتنة، ليتراجع أعوان الحرس بعد اكتشافهم بأنه مريض، وأعادوه إلى المنزل سليما معافى، لتمر الأيام ويخرج الصحراوي من المنزل شتاء، أين جرفته السيول ولم يعرف عنه الناس أي خبر فاعتقدوه ميتا، خاصة وأن فترة غيابه فاقت الشهرين، ليعود الصحراوي إلى المنزل بقدرة الخالق، وتبدأ حكاية القيود والسلاسل التي رأى فيها أفراد العائلة الحل الوحيد لمنعه من الخروج، خوفا عليه وخوفا منه على الناس، حيث تم تقييد الصحراوي بسلاسل لم تغادر قدميه منذ ربع قرن.
بيت من مترين ومرحاضه إناء
هذا الوضع أجبر صحراوي أو كما يسميه البعض''رجل السلاسل'' حبيس غرفة لا تتعدى مساحتها المترين، يفترش فيها التراب، لتستمر المعاناة في غرفة سجن موحشة، ارتفعت بها نسبة الرطوبة وغابت عنها الإنارة ودورة المياه التي عوّضتها الأم بإناء يقضي فيه الصحراوي حاجته، حفاظا على نظافة المكان، والملفت للانتباه أن غرفة الصحراوي ليس بها باب وسقفها مصنوع من صفائح خشبية، وجدرانها متشققة مهدّدة بالانهيار في أية لحظة، إلى هنا سنعتبر الأمر عاديا، حتى وإن كانت مأساة رجل لم يعش مثل باقي الرجال.
إلا أن الأمر المحيّر هو عدم زيارته للطبيب منذ سنوات، ولم يعان من مشاكل مرضية وأزمات مزمنة في ظل الظروف المناخية القاسية، وطبيعة المنزل المتميز بالبرودة القاسية شتاء، والحرارة المرتفعة صيفا، وضع مأساوي قال عنه بعض الجيران الذين التقت بهم الشروق اليومي بأنه خارج اهتمامات المسؤولين الذين يأتون لتسوّل أصواتهم في الحملات الانتخابية فقط، وحتى الجمعيات الخيرية التي يهمها التقرب من المسؤولين وليس النزول إلى الجزائر العميقة، أما أكل الصحراوي ووجبات إطعامه، فأمه البالغة من العمر 86 سنة رفقة والده البالغ من العمر 87 سنة، هما من يتكفلان بتحضيرها وسط ظروف بدائية تنعدم فيها أدنى شروط النظافة، يحكي ابن عمه لزهر وعلامات الحزن والأسى بادية على وجهه: إنه يعيش مع أسرته الفقيرة، ظروفا معيشية قاسية، خاصة وأنه يفتقد لأي مدخول شهري، ليصبح عالة على أمه التي تعاني أصلا من أمراض مزمنة أخرى وخاصة الشيخوخة لأن اللائي في عمرها قد ارتاحوا من تعب الحياة، ربما الإعاقة سرقت منه حريته وقيّدت حركته، ولكنها لم تسرق منه قوة الإرادة والإيمان بقضاء الله وقدره.
ويضيف والده عمي حسين عن حكاية سجنه: القيود هي التي أعادت الحياة للصحراوي، ولنا جميعا، خاصة بعد أن اطمأن قلبي وأصبح قريبا مني، ويؤكد أنه خلال فترة تواجده بالغرفة التي لا توجد بها نافذة، إذ أن الصحراوي لم يخرج إلى الشارع، ولم ير نور الشمس منذ سنوات، كما أن الصحراوي لا يعرف مصطلح النوم، لأنه لا ينام ليلا ولا نهارا، فوقته كله حديث لا ينقطع مع ظلام المنزل الكئيب، ومن المفارقات أيضا فإن الصحراوي لا يعرف من الحديث سوى ''ربي...ربي'' ليضرب مثلا في الصبر والإيمان بقدرة الله، خاصة وأنه كان ينوي الزواج وتكوين أسرة قبل أن يضربه الداء.