في ظل الأوضاع والأحداث التي يمر منها العالم العربي والمخاض العسير من أجل صرخة مولود جديد اسمه الديمقراطية تحضرني قولة شهيرة للدكتور وعالم المستقبليات الشهير المهدي المنجرة الذي نتمنى له الشفاء وطول العمر حيث قال منذ عقود أن الانتفاضة في العالم العربي قادمة لا محالة، و المثير في قوله هذا هو تسطيره على لا محالة بحيث يبدو الرجل متأكدا مما ذهب إليه، وكيف لا وحسه الثاقب وفكره النقدي يحيط بكل جوانب الحياة السياسية، والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع العربي. وهاهو التاريخ يصدُق هذا التنبؤ وهذه النظرة الاستشرافية للمستقبل. لقد كتب المهدي المنجرة ونظَّر وحاضر ونصح وناضل بفكره وقلمه من أجل تبني رؤى التغيير نحو الديمقراطية والمساواة لكن كأن صرخاته كانت في واد إذ أنه قوبل بالتهميش والتغييب من الساحة الإعلامية الوطنية ومنعت محاضراته في كثير من الأحيان. إن الفكر الحر ليشكل دائما خطرا داهما على جيوب مقاومة التغيير وقوى الفساد التي من مصلحتها أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه حتى تتمكن من صيدها الثمين الذي لا يتأتى إلا بوجود ماء عكر. وإذا عدنا إلى وطننا المغرب وألقينا نظرة صغيرة على سياساتنا التعليمية والإعلامية باعتبارهما أقوى الأسلحة في يد النظام لوجدناهما آليتان من آليات العنف الرمزي ضد الشعب. فالتعليم الذي هو في الأساس آلية للتثقيف والتنوير وإنتاج المواطن الواعي ذو الفكر النقدي الحر أصبح يُنتج لنا جحافل من التلاميذ والطلبة ذوي المستوى الضعيف بالمقارنة مع سنوات الثمانينات والتسعينات. وهذا ما يجعل لسان الكثيرين يقول "آش من قرايا بقات اليوم، تلميذ فالباك ومايعرفش يكتب تاسميتو بالفرنسية." وللإشارة، اسألوا الأساتذة عن المستوى الذي وصل له التعليم لدرجة أن الأساتذة القدامى الذين درَّسوا أيام العز يعدُّون الأيام المتبقية لتقاعدهم لكي يرتاحوا من فوضى التعليم الحالي كما يصفونه. أين يكمن الخلل إذاً؟ الخلل في نظري ونظر الكثيرين هو سياسة التركيز على الكم والوصول إلى أرقام كبيرة في نسب التمدرس لمغازلة البنك الدولي والمنظمات والدول المانحة والإهمال الممنهج لكل ما من شأنه تحسين الكيف وهنا مربط الفرس. علاش؟ لكي يستمر الوضع على ما هو عليه. أما السياسة الإعلامية في المغرب فمعالمها واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء. فإذا عدنا إلى قنواتنا التلفزية العمومية وقمنا بمجهود تحليلي بسيط لوجدنا أن عنوانها الكبير هو ضرب القيم الحضارية والثقافية والدينية للمجتمع المغربي بدعوى الانفتاح. لا أستغرب عندما أجد فتيات صغيرات يتكلمن اللهجة اللبنانية بطلاقة اللبنانيين أنفسهم لأن تلفزاتنا تتسابق على بث أحدث المسلسلات المكسيكية والتركية المترجمة. أضف إلى ذالك السهرات وبرامج الغناء اليومية وكأن الشعب المغربي لا يتقن سوى الغناء والشطيح والرديح. ما هو الحيز المخصص للبرامج الوثائقية االتاريخية والعلمية والثقافية بالمقارنة مع المسلسلات المدبلجة والسهرات وبرامج الغناء؟ ألا تكفينا مهرجانات الغناء التي تتكاثر كالفطر حتى أصبحت لكل مدينة مهرجان؟ هل بالغناء سنجاري سرعة القرن الواحد والعشرين الذي لا مكان فيه للضعيف؟ رأيي الذي ربما يختلف معه الكثيرين هو أن هناك نية مبيتة لإشغال الشعب عن القضايا الأساسية التي تتعلق بحاضره ومستقبله وذالك بقتل حسه وذوقه وذكائه وفصله عن واقعه بمثل هكذا مسلسلات وبرامج. علاش؟ لكي يستمر الوضع على ما هو عليه. إن الذي يدير ظهره لهموم الآخرين يجعل من نفسه أتفه التافهين سواء كان شخصا أو مؤسسة، ومؤسساتنا الإعلامية الرئيسية، أقصد الأولى و دوزيم، تتناسى مشاكل الشعب وهمومه الأساسية وتستهدف قيمه وأخلاقه. وكما بدأت بحكمة المهدي المنجرة أختم به أيضا. إن القيم الأخلاقية والثقافية للمجتمع هي أساس التقدم والراكب في قطار العولمة بدون قيم ولا هوية واضحة فكأنما هو مسافر بلا حقائب وإلى اتجاه غير معروف، أي مسافر إلى المجهول.