الجزائر والصراعات الداخلية.. ستة عقود من الأزمات والاستبداد العسكري    الإكوادور تُنهي وجود البوليساريو على أراضيها    بريطانيا بين مطرقة الأزمات الاقتصادية وسندان الإصلاحات الطموحة    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    منتخب U20 يهزم ليبيا في تصفيات كأس إفريقيا    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران        الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



للولائم الملكية وظائف أخرى.. الطعام المخزني وتدجين النخب السياسية بالمغرب
نشر في نيوز24 يوم 15 - 10 - 2016

الطعام طعام، ولكنه عندما يرتبط بقمة السلطة يصبح له بعد آخر يستلزم آلية تحليل متخصصة، وهي ما يسميه ذ. محمد شقير في هذه المحاولة بسوسيولوجيا السلطة، يتحدث فيها عن تقليد المآدب في الآداب السلطانية، ثم يعرج على استعمال الحسن الثاني لمؤهلاته في فنون الطبخ لتوثيق علاقات تبعية النخب لشخصه، كما يبسط طقوس المناسبات الوطنية والدينية في علاقتها بالنخب ورمزية الطعام، فيها مستشهدا بأبعاد سياسية لمائدة الملك من خلال حكاية "ريجيم" السي عبد الرحمن اليوسفي.

يبدو أن سوسيولوجية السلطة بالمغرب ترتكز في استقطاب النخب واستمالة مكوناتها على الإطعام كآلية من آليات التقريب والتقرب. فالقرب من السلطة يعني بالأساس تذوق بعض امتيازاتها، ليس فقط المناصب السياسية والمكاسب المادية، بل أيضا مكاسبها العينية كالتلذذ بأطعمتها وتذوق أشربتها. فالجلوس إلى مائدة السلطان والحضور لبعض المآدب السلطانية هو نوع من التميز تتفرد به النخب التي ينتقيها السلطان وتحظى برضاه.

المآدب السلطانية واستمالة الخاصة

إن استضافة السلطان لأعضاء النخب السياسية أو ما يسمى بالخاصة تعتبر آلية من آليات استقطاب النخب والتحكم في مكوناتها، فاستضافة هذه الشخصية دون أخرى، وتخصيص نخب بدعوات لحضور المآدب، يشكل حظوة لا تمنح إلا للخاصة التي تنفرد باستقبال السلطان والجلوس إلى مائدته.

وبالتالي، فقد كانت هناك مراسيم خاصة تحدد استقبال السلطان لأعضاء الطبقة السياسية وترتيب جلوسهم في مآدبه وموائد طعامه؛ والتي كانت تختلف وتتطور حسب الأسر الحاكمة التي تعاقبت على حكم المغرب.

ففي عهد النظام المريني "كان السلطان يقتبل زواره وهو جالس على عرش منخفض أو بساط أو حصير، وتكون المقابلات غالبا في الصباح وتنتهي في الصباح وتنتهي بمأدبة يشارك فيها خواص رئيس الدولة، كما أن العشاء يشترك فيه الوزراء وكبار الموظفين".

أما في عهد المنصور الذهبي، فقد كانت مراسيم الاستقبال السلطاني تتم وفق طقوس معينة وصفها الفشتالي كما يلي :

«ومن المآثر التي حسنت فيها أيده الله سيرته وحمدت طريقته تقسيم زمانه إلى أيام الديوان، وهي التي يجلس فيها للجمهور والوفود وأحكام الجند ومناولة أمور المملكة بالنقض والإبرام، وخص بذلك يوم السبت ويوم الاثنين ويوم الأربعاء، وكذا سيرته الكريمة أيده الله في كل يوم منها أن يخرج بعد الفراغ من وظيفته وقراءة ما كان يلازمه من الأوراد على إيوانه الكريم وقت الضحى غالبا وبين يدي حضور الطعام، فيؤذن للناس في الدخول على طبقاتهم وأولا قاضي الجماعة بحضرتهم ثم المفتى بها، ثم من يحضر من كبار الفقهاء ومشيخة العلم، ثم الحاجب وقائد القواد والكتاب ثم سائر أكابر الدولة ورؤساء الأجناد ووجوه الناس على طبقاتهم، وعلى حسب مراتبهم، فيأخذون مجالسهم بين يديه ثم يومر بالطعام فيؤتى به ويشرع الباب للداخلين ويغص الإيوان بالخلق ويواكل بيده أيده الله بقية الأمراء الكرام ومن يخص من القرابة وكبار العلماء الذين سميناهم آنفا يوثرهم بذلك إجلالا للعلم وتعظيما لأهله، فإذا أكل وضعت موائده أيده الله بين يديه وينادي بأهل البساط وأكابر الدولة للأكل منها تشريفا وتنويها ثم تتبع بجفان جمة وموائد أخرى متتالية.

ويدعى سائر الناس إليها طبقة ومائدة إثر مائدة حتى يكتفى جميع الحاضرين ويفضل من الطعام ما يكفي أكثر من ذلك، وكان أيده الله يعجبه الأكل بيديه ويدعو إليه وينقبض لانقباضهم عن القيام للأكل، وربما عنف على ذلك بالقول شيمة حسنة وخلق كريم في الفضل فإذا قضى ذلك وقام ودخل وأفاض ذلك الحجيج وانصرف الجم الغفير لمنازلهم وجلس أهل الإيوان وأرباب المناصب وأكابر الدولة الذين عليهم مدار الأمور يرقبون خروج أمير المؤمنين ثانيا فإذا حان وقت الزوال أو كاد يخرج للجلوس وابراسيم؟؟؟ أمور ملكه وسلطانه فيحضر خواص بساطه الكريم وكاتب سره ويناوله ما ورد على أبوابه الكريمة من الكتب من سائر الأقطار لكتب ما يخصه منها وتفريق غيره على الكتبة وتعرض عليه القضايا ومهمات الملك ثم يؤذن لسائر الأكابر والكتاب وأولي المناصب في الدخول فيأخذ عند ذلك أيده الله في العلامة إن كان اليوم يومها فتارة بيده الكريمة إن كانت الكتب أجوبة أو ظهائر، وتارة بالطابع إن كانت مظالم أو براوات الأشغال والعطاء أن يأخذ في إملاء الأجوبة على الكتبة أو في سماع ما يرفعه أهل الديوان من المسائل مناوبة يستمر على ذلك حتى يصلي الظهرين غالبا يوم الناس فيهما فيدخل إلى قصره أيده الله، ويتفرق الديوان، وهذا أيده الله دأبه غالبا في الحضر والسفر وربما عرض له مايوجب انقباضه عن الخروج للغداء فيستنيب ولده الأعز عليه والمترف بالسكنى لصقة في حضرته المولى أبا فارس أعزه الله عند مغيب شقيقه ولي عهد أمير المؤمنين وخليفته من بعده وكبير بنية الأمراء الكرام المولى الأمير الإمام الأعظم أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله أعزه الله تعالى والى أيام الراحة وهي التي تتخلل أيام الديوان لا يحضرها إلا الندمان من الخاصة أو من ينادى من غيرهم لخدمة تعرض أو مشورة تتعين إن كان من أهلها».


المآدب الملكية ومخزنة النخب السياسية

حافظ الملك الراحل الحسن الثاني على الاستراتيجية المخزنية (المطبخية) للتحكم في النخب السياسية واستقطاب مكوناتها بعدما استطاع تكريس نظامه على أساس الولاء السياسي وعلاقات التبعية السياسية، وذلك من خلال ثلاثة أبعاد أساسية:

– بعد مصالحي يقوم على منح مجموعة من المكاسب المادية، حيث كتب واتربوري بهذا الشأن ما يلي: "إن الملك يحرص على أن تكون جميع الخيرات المشتهاة، سواء كانت تعيينات وزارية أم رخصة استيراد بضائع… فإن هذه الأشياء تمنح وتعطى، والاستحقاق الموضوعي والكفاءة لا يدخلان في الحساب... وتسمح نتائج هذه الوضعية للنظام بأن يراقب الحياة السياسية، وفي ظلها يصبح كل اللاعبين المستفيدين من فضائل النظام عملاء".

– وبعد علائقي يقوم على ربط مكونات النخب السياسية بالتبعية لشخص الملك في إطار يشبه الإطار العائلي. وقد شخص واتربوري المنطق السياسي الذي كرسه الملك الراحل الحسن الثاني من خلال إشارته التالية :

"تحيط بالملك مجموعة من الأتباع المخلصين، لكنه يسعى إلى جلب النخبة بكاملها إلى داخل شبكة أنصاره. ومع أن بعض الجماعات ربطت مصالحها بمصالح القصر أكثر من الأخرى، يؤكد الملك على مفهوم النخبة باعتبارها عائلة كبيرة ملتفة مهما كانت الاختلافات بين ممثليها".

بعد ثقافي يتمثل في الترسبات القبلية والعشائرية والجهوية التي مازالت تحرك العقلية السياسية للنخب، حيث أشار بهذا الصدد إلى أن " عقلية العشيرة قد شجعت القصر … أن يتعامل مع مجموعات أو شخصيات، همها الوحيد أن تحتل مكانا خاصا بها، ضاربة بعرض الحائط كل ما يتعلق بتغيير الوضع السائد، وأصبح رجال السياسة مجرد متزلفين ..."، لكن إذا كانت هذه الأبعاد الذي ذكرها واتربوري في بداية السبعينيات من القرن 20 تسلط الضوء على منطق النظام ودينامية تحركه السياسي، فإنها تغفل جانبا مهما يتعلق بالجانب السوسيولوجي الذي يتحكم في علاقات الملك بأعضاء نخبه السياسية، والذي يزيد من تمتين علاقات التبعية التي أكد عليها هذا الباحث.

ويتمثل هذا البعد السوسيولوجي في استضافة الملك الراحل الحسن الثاني لأعضاء النخب ودعوتهم للمآدب التي كان يقيمها بمناسبة السهرات الخاصة أو الاحتفالات الملكية مكرسا بذلك أعراف وتقاليد مخزنية كانت تجمع بين السلطان ونخبه السياسية سواء كانت مدنية أو عسكرية.

وقد استغل الملك الراحل مؤهلاته في فنون الطبخ إلى جانب قدراته المتعددة في السياسة والأدب والفن ليوثق علاقات تبعية النخب لشخصه، وذلك من خلال آليتين رئيسيتين : استعراض البذخ المخزني وإقامة المآدب الملكية

استعراض البذخ المخزني

تشكل الاحتفالات في المغرب مكونا رئيسيا من مكونات الحياة السياسية وأداة من أدوات تكريس الشرعية السياسية للنظام. إذ بالإضافة إلى الاحتفال بالأعياد الدينية التي يترأسها الملك كأمير للمؤمنين، هناك أعياد وطنية تتمحور كلها حول الملك كشخصية سياسية محورية في النظام سواء تلك التي تخلد أحداثا عامة كعيد الاستقلال تاريخ رجوع الملك محمد الخامس من منفاه السياسي، أو مناسبات مرتبطة إما بتخليد تتويج الملك كعيد العرش، أو أخرى مرتبطة بتاريخ ميلاده كعيد الشباب.

وخلال الاحتفال بهذه المناسبات، درج الملك الراحل الحسن الثاني على دعوة بعض مكونات النخبة في البلاد للاحتفال معه بعيد ميلاده المقترن بعيد الشباب، حيث يتم تقديم مختلف أنواع الأطعمة والأطباق الفاخرة، والتي أشار إليها أحد المتتبعين أثناء استعراضه لأحداث محاولة الانقلاب على الملك بقصر الصخيرات في صيف يوليوز 1971 من خلال ما يلي:

"كان الملك حريصا في المناسبات الرسمية على إظهار الأبهة الملكية من خلال الموائد المفروشة التي تحفل بكل ما لذ وطاب، وقدم جيل بيرو في كتابه "صديقنا الملك" وصفا للمائدة الملكية أثناء الاحتفالات بعيد الشباب والذي اقتحمه الانقلابيون في غفلة من الجميع، يقول بيرو، وصل عدد المدعوين إلى الألف بدون احتساب النساء اللواتي يستقبلن في اليوم الموالي، اللباس الرياضي ملزم بقمصان ملونة فتخال أنك وسط ناد فسيح على شواطئ المتوسط حضره الوزراء والدبلوماسيون وصفوة الأثرياء والضباط السامون وأعضاء النخبة المغربية. أثار ترف الموائد دهشة المدعوين، أكوام من فواكه البحر وأسماك السلمون والكافيار، وحلويات وشراب متنوع بينما تشوى عشرات الخراف ويعد الطهاة المقبلات، وتقدم المشروبات الكحولية والشاي ….إثر ذلك سمعت أصوات انفجارات حسبها كثيرون أسهما نارية للترفيه. كانت طلقات الأسلحة الأوتوماتيكية تغطي المضمار وأجمعت الشهادات في سردها حول هياج الطلاب الضباط الذين اقتحموا القصر عقب اكتشافهم خيمة المسكرات وأكوام الطعام الذي لم يسبق لهم تذوقه ….".

من هنا، يلاحظ أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يوظف هذه المناسبات لإظهار بذخ الطعام المخزني ووفرته دلالة على الأبهة الملوكية وقوة السلطة السياسية. وبالتالي، فقد كان الطعام هنا لا يعرض فقط للأكل والاستمتاع، بل كان بالأساس عرضا من عروض القوة المخزنية القائمة على وفرة الطعام وتنوعه وتميزه، وذلك بغرض استقطاب النخبة واستمالتها وإشراكها في مذاق السلطة الذي لا ينعكس فقط في النفوذ والمال، بل في التفنن في تناول مختلف ألوان الأطباق والأطعمة التي لا تتناول كل يوم في مجتمع كانت تعاني أغلبية شرائحه الشعبية من مختلف أنواع الخصاص المادي، حيث كان يتميز طعامها ببساطته وقلة وتشابه وجباته التي كانت تعتمد في الغالب على الخبز والمرق والشاي، وبعض أنواع الفاكهة الموسمية، وعلى رأسها البرتقال. وبالتالي، فقد عكس رد فعل الانقلابيين بإطلاق النار على محتويات بعض هذه الموائد الملكية هذا التناقض الصارخ بين عيشة الأغلبية خاصة تلك المنحدرة من البوادي، التي كان ينتمي إليها أغلب من تلامذة هرمومو، وبين بذخ الأطعمة المخزنية.

وعلى الرغم من فشل محاولتي الانقلاب العسكري، فقد بقي الطعام المخزني سمة من سمات القوة والبذخ المخزني. فكما يتم الحرص على أن يتنقل الملك في موكب يعكس المهابة السلطانية من حراس خاصين وملحق عسكري، ودراجات دركية، وسيارات فارهة، يتم الحرص في الاستقبالات الملكية التي يشرف عليها والاحتفالات التي يترأسها على أن تتضمن عرضا لكل أنواع الأطعمة الفاخرة، والأطباق المخزنية المتميزة.

تدجين النخب السياسية

حرص النظام المخزني منذ بدايته على خلق شبكة علائقية مع محيطه السياسي والاجتماعي من خلال ربط علاقات مصاهرة مع مجموعة من المكونات التي تزيد من تقوية ركيزته الاجتماعية. فقد جرت العادة على إشراف العاهل المغربي على عقد زيجات كل الأفراد التابعين لدار المخزن وضرورة موافقته عليها.

كما يتم غالبا الإشراف أيضا على عقد زيجات بين بعض أفراد الأسرة الملكية وبعض أفراد عائلات ذات منحدرات اجتماعية واقتصادية مختلفة، الشيء الذي يؤدي إلى خلق شبكة علائقية يوسع من خلالها النظام المخزني امتداداته الاجتماعية والثقافية وكذا السياسية. ولعل هذا ما يلاحظ من خلال الترتيب البروتوكولي الذي يحظى به أصهار العاهل المغربي خلال الاستقبالات الملكية وأثناء المناسبات الدينية والوطنية.

كما تشكل المآدب المخزنية وسيلة أخرى لربط النخب السياسية ومخزنتها. فمن خلال هذه المآدب التي تقام بمناسبة بعض الأعياد الوطنية، خاصة عيد العرش وعيد الشباب، ترسل دعوات لمجموعة من الشخصيات السياسية سواء كانت برلمانية أو حكومية أو عسكرية أو حزبية لتحظى بشرف حضور هذه المآدب التي تتميز بتنوع مأكولاتها ومشروباتها، والتي يتفنن المطبخ المخزني في إعدادها وتقديمها للضيوف، الشيء الذي يؤدي إلى تقوية العلاقة التي تربط بين المخزن ونخبه، التي تحس بمكانتها السياسية والحظوة التي تتمتع بها مقارنة بباقي مكونات النخبة السياسية الأخرى. وبأنها أصبحت تنتمي إلى الصفوة المخزنية، من خلال هذه الالتفاتة الملكية والحضور ضمن مدعوي جلالة الملك داخل أحد المجالات الخاصة التابعة لدار المخزن.

وفي هذا الإطار أشار الطوزي إلى أنه باعتبار "دار المخزن مجالا مقتصرا على القصور الملكية ومرفقاتها.. فإن الانتماء إليها هو فضيلة مميزة في إطار التنافس السياسي، بحيث توحي بعلاقة مع فضاءات المركز السياسي".

ولعل هذا الجانب النفسي الذي لا يوليه الكثير من الباحثين اهتماما كبيرا هو الذي يلعب دورا أساسيا في تغيير العديد من النخب من خلال اللعب على شعورها بالتميز، ويهيئها لأن تتحول ليس فقط على الصعيد النفسي والفكري، بل أيضا على الصعيد السياسي والسلوكي، حيث تتدرج في قبول كل المراسيم والطقوس المخزنية التي كانت في السابق تنتقدها وتنادي بتغييرها.

فلقد كان من المفروض أن تقوم هذه النخب المغربية بالتأثير على البنية المخزنية وتعمل على عصرنتها وتحديثها، لكن يبدو أن العكس هو الذي حدث، بحيث لوحظ منذ أكثر من أربعة عقود كيف تمت مخزنة أكثر الفعاليات والنخب السياسية عصرنة وكيف تم إخضاعها للمنطق المخزني بكل مظاهره ومكوناته ومراسيمه.

وقد ظهر ذلك جليا منذ استطاع النظام المخزني أن يستقطب عدة فعاليات ونخب سياسية تنتمي إلى أحزاب كانت تعد من الأحزاب الراديكالية، وأكثرها معارضة للنظام المخزني، وأن يدمجها في محيطه التقليدي. فالكل يتذكر كيف تم فرض الجلباب الرسمي على مختلف النواب المنتمين للمعارضة الاتحادية أثناء الجلسات الافتتاحية التي كان يدشنها العاهل المغربي الراحل، وذلك منذ انطلاق المسلسل الديمقراطي سنة 1977. كما تابع الرأي العام الوطني عبر شاشة التلفزة كيف تكيف جل الوزراء الاتحاديين في حكومة اليوسفي مع المراسيم المخزنية من تقبيل للأيدي الشريفة، وحضور المناسبات الرسمية باللباس الوطني، والاصطفاف في صف المدعوين والمهنئين طبقا للنظام المراسيمي المخزني.

وفي سياق هذه التحولات التي تندمج فيها هذه النخب، يبدو أن المآدب الملكية عادة ما تلعب دورا خفيا لكن أساسيا في عملية التحول السياسي هذه. فحضور أكثر الشخصيات معارضة للنظام الملكي للمآدب الملكية لابد أن يكون له المفعول السحري في التغيير الذي يطرأ على هذه الشخصيات المعارضة، على غرار ما حدث لليوسفي.

فبخصوص حفل آخر عشاء أقامه الملك الراحل الحسن الثاني على شرف رئيس الجمهورية اليمنية السابق عبد الله صالح، تضمن كتاب إنياس دال في كتابه "الحسن الثاني بين التقاليد والحكم المطلق" إشارة دالة بهذا المعنى جاء فيها:

"كانت قائمة الطعام، أو كما يطلق عليها في القصر الملكي، الخوان، وهي كلمة تركية تفيد نفس المعنى، تضم نفس الأطباق التي تعود الحضور على تناولها في مثل هذه المناسبات، عبارة عن خليط من أطباق مغربية تقليدية وأخرى فرنسية كان يفضلها الملك، لكن الملك في تلك الليلة، وإكراما لوزيره الأول عبدالرحمان اليوسفي، الذي كان يتبع نظام حمية صارمة، بما أنه يعاني من مرض السكري، وخرج لتوه من عملية جراحية في الدماغ ألزمته باتباع نظام أكل صارم، كان قد أعد له مفاجأة. وعندما بدأ خدام القصر بتقديم الطعام، قال الملك لوزيره الأول: لقد أمرتهم بإعداد طعام خاص بك يتماشى ونظام الحمية الذي تتبعه، قبل أن يضيف أمام مفاجأة الذين كانوا يجلسون الى مائدته قائلا: اسمحوا لي فأنا سأتناول من نفس الطعام الذي أعد لليوسفي حتى لا أتركه يأكل وحده".

من هنا، فليس من الغريب أن تتحول هذه الشخصية السياسية التي عارضت نظام الملك الراحل الحسن الثاني وصدرت في حقها عدة أحكام بالإعدام، وفرض عليها العيش بالمنفى، إلى شخصية سهلت عملية انتقال العرش إلى خلف هذا الملك دون ضمانات سياسية مكتوبة، حيث من الصعب جدا تناسي الكلمات التي اختتم بها الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تصريحه الحكومي الثاني الذي ألقاه أمام مجلس النواب في يناير 2000، حيث جاء فيه ما يلي:

"اسمحوا لي قبل اختتام خطابي هذا أن أستحضر أمامكم بكل تأثر العهد الذي أعطيته لجلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، عندما أولاني ثقته السامية وقبلت تشكيل حكومة التناوب، لقد كان عهدا على كتاب الله تعالى، إذ المصحف الكريم كان موضوعا على الطاولة بجانب جلالته وأشار رحمة الله عليه قائلا: "هذا المصحف بيننا". أجل، إن هذا العهد الذي يطوق عنقي هو أعظم ميثاق والتزام متبادل جمع بيني وبين جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى، ومايزال يلزمني في عملي تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله..".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.