من الغنائم إلى المائدة، ومن المقدس والهالة المخزنية إلى السلطان ظل الله في الأرض..تنفض الأستاذة خديجة صبار الغبار عن الطقوس المخزنية عبر قراءة لكتاب "مؤسسة المخزن" للدكتور محمد جادور تحت المجهر 3/3.الأستاذة الصبار تخص "فبراير.كوم" بهذا التحليل. هذه دراسة قراءة لكتاب "مؤسسة المحزن" للدكتور محمد جادور الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، والكتاب الأطروحة كما تقول صاحبة الدراسة خديجة صبار عن مختبر المغرب والعوالم الغربية كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدار البيضاء، حفريات في التاريخ المقارن لمخزن سلطانين من أعظم سلاطين المغرب، استحوذت قوة شخصيتها في الكتابات المحلية والأجنبية، وشكلت حجر الزاوية الذي احتلاه فيها من حيث حجمه وطبيعته التي جمعت بين ما هو واقعي وما هو أسطوري: يتعلق الأمر بالسلطان أحمد المنصور والسلطان المولى إسماعيل وتجارب حكمهما كنماذج متميزة لتحديث المؤسسة المخزنية وبنيانا على أساسه شيد المغرب الحديث. وربطت أغلب التحليلات والتأويلات ذلك بمؤهلاتهما الشخصية وحسن تدبيرهما واحتكاكهما بالمستجدات الدولية، لاسيما وأن الأستاذ جادور اختار فترة تزامنت مع نشوء مفهوم الدولة الأمة في أوربا وبداية الثورة الصناعية من جهة، وانطلاق الفكر الليبرالي من جهة أخرى،وفي الحلقة الثالثة تناقش الأستاذة صبار الطقوس المخزنية ... أصبح التطور الحاصل في العلوم الإنسانية يعطي اهتماما كبيرا "للسلطة الرمزية"، أي السلطة التي لا يمارسها سلطان أو ملك أو رئيس، وإنما تمارسها المنظومة الرمزية في الحقول المعرفية المختلفة، ذلك أن المعرفة تحولت إلى هيمنة ايديولوجية وسياسية ظاهرة، فما تدعوه بعض الأوساط الثقافية اليوم "الغزو الثقافي" ما هو إلا ممارسة ظاهرة أو خفية لسلطة غير مباشرة، وهي أصعب أنواع السلط التقليدية الأخرى. فالسلطة الرمزية التي تتبدى في الفنون والآداب والمظاهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية، لا تمارس سلطتها بشكل علني كما هو الشأن بالنسبة للسلطة السياسية التي يقوم عليها حاكم أو سلطان، فما هي أشكال الحضور الرمزي للمخزن؟ وما هي الآليات المتحكمة في هذا الحضور؟ الواقع إن الحضور المادي بوظائفه المختلفة بقي مجسدا في شخص السلطان، الذي كان يختزل في القوة العسكرية والإدارية للمخزن، ويؤمن استمرارية سلطته وسلطة القبائل والمدن، كوضع يدل على مدى تمتع المؤسسة السلطانية بنفوذ لافت، تغلغل إشعاعه في طيات الأجهزة التي تمثله على الصعيد الجهوي والمحلي، فأضفى عليها في عهد السلطانين هيبة وعظمة كبيرتين، أكدتا حجم الترابط الحضوري بين الشق المادي والشق الرمزي للممارسة المخزنية التي لا يمكن تناولها والوقوف عند طبيعتها بمعزل عن الآلية المتحكمة في هذه الروابط، وملامسة الوجه الثقافي الذي يتخذ الديني ضمنه بعد التعبير الجمعي في نمط عيش السلطانين. أي كيف ينتج الرمزي بعتاده المؤسساتي وتجدره التخيلي أنماط العبور الواعي واللاوعي من الاعتقادي إلى السياسي ، وليس المقصود بالاعتقادي هنا المقدس، أي المفهوم الديني الأحادي، وإنما المقدس كجزء من منظومة ثقافية نمارسها في حياتنا اليومية، في اعتقاداتنا، في النظم التي تخدمنا والطرق التي نحكم بها، في العلاقات ضمن العمل وفي العائلة، وحتى في المؤسسة الزوجية، ذلك أن الذات تبنى عبر الاجتماعي – التاريخي – الثقافي. في هذا السياق يقول الأستاذ عبد الله العروي: "إن الإسلام لا يحمل دلالة إلا في سياق تجربة جماعية تاريخية شاملة تسمح له بأن يكون قابلا للوصف". يتبنى الأستاذ محمد جادور تصورا نظريا حول مفهوم المقدس عالج فيه بعض المظاهر الممارسة في واقع محدد (مخزن السلطانين) بأسلوب منهجي تاريخي سيكولوجي اجتماعي تجريبي أيديولوجي يدل على أن المقدس يتأسس في إطار تكون تاريخي واجتماعي وثقافي وليس دائما علويا، بل إنه مخلوق، منتج من واقع صراعاتنا وحاجياتنا الاجتماعية. وبما أننا لا نعايش المقدس إلا رمزيا فإنه يتحول في ذاته إلى قوة فعالة ويصاحب العلاقات الإنسانية في حركتها الذائبة دون توقف. (دورات الأعياد وطقوسها). ويصهر الحضور الرمزي للمخزن لا بمفهوم الدولة وأجهزتها ومختلف الشخصيات التي تساهم في تدبير دواليبها وإنما بالآليات المتحكمة في الأحداث الإنسانية، أي القوى التي تنشط المؤسسات والفئات الاجتماعية والأفراد. فكل مؤسسة كما يورد fustel de coulauges تخفي نظام أفكار تعبر عنه رموزها التي تنتشر في أبعادها المقدسة، وفي مساراتها السياسية التي تدخل كنسيج قوى ومتماسك (ص 165). فلا يمكن تناول الحضور المادي لحكم معين دون رموزه التي تعبر عن مستلزمات وجوده، والحفاظ على استمرار يته. فالجبروت وحده لا يخول الزعامة الكاملة، كونه قائما على قوة الإكراه، لا الإقناع الذي لا يتم تحقيقه إلا بواسطة القوة الرمزية، التي تملك القدرة على إنتاج أشكال تعبيرية تضاهي في قوتها ونجا عتها نظيرتها المادية، وتسعى إلى تبرير سلوكيات النظام السائدة وإلى إيجاد حدود ومراتب جديدة وإعادة إحياء الموروث منها (ص 165) بحكم أن المظاهر التاريخية للمقدس تتنوع بشكل واسع في عمل عبر ثقافي. ولم يبتعد الفيلسوف الألماني "إرنست كاسيرر" عن الحقيقة حين أكد على أن الرموز هي المفتاح لطبيعة الإنسان، وبالتالي فهناك فرق أساس بين ردود الفعل الحيوانية، والاستجابة الإنسانية. والإنسان حين يستجيب فهو يعقل ذلك من خلال شبكة رمزية معقدة تلعب فيها اللغة والأسطورة والفن والدين أدوارا أساسية، فالرمزي هو الذي يحيا فيه المقدس حركيته بين أنماط القول والسلوك والتخيل، وفي الكشف أيضا عن الطقوس بوصفه المجال الذي يتحول فيه المقدس إلى معيوش بالجسد، إلى فضاء معلن ونظام مادي ورمزي. والرمزية علامة إيجابية، بحيث لا يتم الاعتراف بهيبته الدولة وبحكمها وبماهيتها وبتصوراتها في غياب المنظور الرمزي. وداخل فضاء الرمزية، على المرء الباحث أن يفتح جميع عيونه الجسدية (المسام) أو كما يقول نيتشه أن يرى بعين ثالثة السطح العميق لتلك المؤسسات التي تخفي نظام أفكار تعبر عنه رموزها التي تنتشر في أبعادها المقدسة التي تحدث عنها Fustel كما أورد الأستاذ وما تحمله من نشوة الحركة والحضور. وظف المخزن المغربي خلال العصر الحديث رموزا مختلفة تجسدت في مظاهره الاحتفالية: المراسم والبروتوكول، مواكب التنقل السلطانية، استقبال السفارات وفي البناء والترميم والقصبات والأضرحة، وفي مواكب الشموع وعيدي الفطر والأضحى... وكلها مظاهر لها علاقة وطيدة بالفضاء العام للمجال الطقوسي الذي يستغرقها. وظلت جميعها مؤطرة بنسق الثقافة الإسلامية وبخاصية البركة والجود المستمدة من النسب الشريف، وممارسة الجود حسب رأي أبي العباس السبتي كافية للانخراط في حضرة الجود كحضرة ربانية يتماهى فيها مع الذات الإلهية في "وحدة شهود تؤهله لكرامات التحكم في الخلق"، يتعلق الأمر بمظاهر ثابتة وأخرى متغيرة حسب ذهنية السكان وأوضاعهم الاجتماعية المعيشة. وميز بين سلطتين رمزيتين: سلطة رمزية مرئية وملموسة سلطة رمزية لا مرئية أي مجردة وإذا رمنا استجلاء ماهية هذه التمظهرات والأشكال الاحتفالية المذكورة في المؤلف، مع الرغبة في ضبط هذا المجال كفضاء يستوجب تحديد مكوناته ومرتكزاته الضابطة، فسنجد أنفسنا أمام مجال طقوسي مركب من موضوع يشكل محور الاحتفال الطقوسي وإطار اجتماعي (قروي أو حضري) وزمن (مناسبة) وأنشطة اجتماعية (القوى المنشطة: مؤسسات وأفراد وفئات). الأعياد الدينية التي تجمع مظاهرها بين التعالي والبسيط، الهيبة والتواضع، الديني والسياسي، الفضاء الخاص والفضاء العمومي، وشكل عيد الفطر والأضحى حدثين لبروز السلطان أمام الرعية، وتجديد المشروعية أمامها، وعيد المولد النبوي واستعراض مواكب الشموع في أحياء العاصمة حيث يمر الموكب وسط جموع الناس المصطفين على جنبات الطريق، وتحت نغمات الموسيقى وأصوات التكبير، لتنتهي المسيرة بدخول القصر، وتدفق جموع من الحزابين ومن الشعراء الذين يتبارون في تقريض قصائدهم، في انتظار تقديم صنوف الأطعمة الفاخرة التي يشارك فيها السلطان إلى جانب الأشراف والفقهاء والقضاة وكبار رجال الدولة... ليؤذن بعد ذلك للمساكين والمحتاجين بالتهام ما تبقى من فضلات الطعام (ص 167) ويرمز موكب الشموع للزواج بين السلطان وبين الرعية، أي ملازمة أحدهما للآخر. يتحدث ماكس فيبر عن حياة الرفاه التي طبعت بلاطات أوربا العصر الوسيط، ويلاحظ أنها لم تكن ذات طبيعة استهلاكية لكنها كانت نوعا من إثبات الذات l'auto affermation . والمأدبة السلطانية استعمالية استهلاكية إلى جانب إظهار الأبهة المستمدة من النسب الشريف وتأكيدها (ص 169) وتنبيه العامة إلى وجود نوعين من البشر في المجال السلطاني العامر بأبهته وغناه: واحدة سعيدة وأخرى غبية، ومجرد امتداد له وكأن لا وجود لها إلا بوجوده، لترويض الجميع على الطاعة (العامة والخاصة وخاصة الخاصة). أما توظيف الكرم بصفته سلطة مادية في أبعادها الرمزية والسياسية، فلا ينفصل عن تكريس فكرة مؤداها أن السلطان يمثل مصدر مختلف أنواع العطاء، ويسهر بنفسه على عملية التوزيع وفقا لرؤيته الخاصة، وتبعا لضوابط اتخذت من الأحداث الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية مرجعية لها، ولنا أن نتصور حجم الطاقة الغامضة الشبيهة بمجال مغناطيس يمارس جاذبيته، تلك الجاذبية التي عمل الإسلام على توجيهها نحو الله، وما دام السلطان يمثل ظله على الأرض ، فهي توجه نحوه، حاليا ونحو أولاده مستقبلا كونهم يمثلون الاستمرارية. بين الطقوسي والسياسي يكمن ثقل الرمزي، لا فقط فيما يعرف تحت مدلول الثقافة الشعبية، ثقل تعكسه الصلات القوية بين إدارة شؤون الطقوس وإدارة شؤون الدولة في علاقة جدلية تضمن: تدعيم ولاء الأتباع، ترهيب الخصوم والأعداء، تكريس فروض الطاعة، للسلطة الأبوية الرءوفة برعاياها، أي العامة، علما أنها هي من يحمل في الحقيقة كراسي الحكام وعروش السلاطين.