يمر الفعل التربوي حاليا من وضع حرج في ظل هيمنة استهلاك الجاهز و السطحي و المائع، دون قدرة المتعلمين على بذل أدنى جهد في التفكير و التصور، فالتربية تبدأ عندما نتوقف أمام الأشياء و الوقائع لنفكر فيها و نعي بها و ندرك الحقائق من أسباب و كيفيات وغايات. إن من عيوب قيم المجتمع الاستهلاكي هو ترسيخ قيم الاندفاع و المرور مباشرة إلى الفعل دون عبور جسر الوعي، و الرغبة في المعرفة دون التعلم، هذا الحال هو ما يشتكي منه أغلب المربين و المدرسين، حيث يكتشفون في كل لحظة استحالة إنجاز المهمة التربوية في أدنى حدودها أمام متعلمين لسوا قادرين على التركيز و الإدراك، لكنهم منجرفون كليا مع طوفان الاستهلاك الجاهز و القيم المائعة التي تروج لها وسائل الإعلام و الإعلان بقوة و إغراء على الحواسب و الهواتف التي اقتحمت البيوت كلها. الجاهز مغري جدا، رخيص في تكلفته و مجهوده لكنه مكلف في خلفياته و تبعياته الذهنية و النفسية و الاجتماعية، إن من تعود على استهلاك الوجبات الجاهزة سيتضرر جوعا دون أن يكون قادرا على أن يطعم نفسه بشرف و شجاعة، و من تعود على ابتلاع المعلومات دون هضمها و التحقق منها سيغرق في الأوهام و الظلال و لن يكون بمقدوره التمييز يوما بين الصحيح و الخطأ. و يمكن أن نقبل بأسف و حسرة انجراف الأطفال وإدمانهم على الجاهز و السطحي و المائع بسبب الغزو التكنولوجي و الإعلام و الإغراء، لكن كيف سيكون شعورنا لو قلنا أن هذه الرذيلة انتقلت إلى المدرسين، يكفي أن يلقي أي أحد منا نظرة و لو خاطفة على مواقع التواصل الاجتماعي ليقف مصدوما أمام كثرة النداءات و الطلبات للحصول على الوثائق الجاهزة لتحميلها بالجملة، من توزيعات و جذاذات و الأغرب من ذلك الحصول على نماذج تقويمات تشخيصية وفروض. مع العلم أن هناك أناس هم في الحقيقة أغبياء و أشرار بطبيعتهم يضعون على الأنترنيت كميات هائلة من الوثائق الفاسدة و التي لا تصلح لشيء سوى لإفساد الوضع المدرسي أكثر مما هو عليه من فساد و تخلف، يضعون وثائق لا تتوفر فيها أي من شروط الجودة التربوية و لا أدنى مؤشر على الذكاء البيداغوجي و البعد الإنساني، فهي لا تتعدى أن تكون نسخا حرفيا لما في الكتاب المدرسي أو دليل الأستاذ التي تحولت إلى ما يشبه ألواح موسى عليه السلام محاطة بسرية شديدة، لكن القوم نسي أن تلك الوثائق هي التي أغرقت المدرسة المغربية على مهل في بركة البلاذة الفكرية و الجمود البيداغوجي و التخلف القيمي. لو كلف كل واحد نفسه من المدرسين الذين يحملون كل يوم وثائق جاهزة ساعة من الزمن ليفكر بجهده و خطه فيما سيقوم به من أنشطة مع متعلميه في حدود قدرته و قدرتهم و قيم راقية، و تبعا لما يحتاجونه و يناسب إيقاعهم، لو توقف كل واحد عند ضميره المهني و واجبه الأخلاقي اتجاه أبناء الشعب و المسؤولية التاريخية و أدرك أن روح التعلم أشرف من الهاجس الإداري و نفاقه البيداغوجي؟ غير ذلك فنحن في نفاق إداري و بيداغوجي، نكذب على أنفسنا و على أبناء الشعب و نتهم الآخرين بتدمير المدرسة؟ و من تنازلوا عن ذكائهم و قدرتهم على الإبداع و التصورفسيكون من الطبيعي أن يتحكم فيهم من هو أقل أو أكثر منهم غباء و نفاقا، و يتقلص وجودهم حتى لا يعلو عن حجم علبة سردين.