(لم يأخذني للخوض في هذا المستنقع إلا الغيرة على أبناء وطني الذين يقاسون من المعاناة ما لا يفهمه الجالسون على الأرائك هناك... فليعذرني كل من يخالفني) ----------------------------------------------------------------------------------------------- كان الوزير محمد الوفا هنا.. صار الوزير الوفا هناك... كان التعليم في شأن.. صار التعليم في آخر... لما كان السيد الوفا على رأس الوزارة، انكمش أعداء التعليم شهورا، بدأ الجسم التعليمي يكتشف عاهاته وبدأ بعضه يتداعى للبعض بالحمى والسهر.. بدأنا ننسج الأحلام ونظن الظنونا.. خلنا لبعض الوقت أن الماضي ماض وأنه حان وقت الإصلاح الحقيقي، بعيدا عن كلام التلفزيون.. تماما كما الربيع العربي المزعوم.. أو كأهل قرية قيل لهم زوراً إن ببلدتكم نفطا، فاعتمروا جلابيبهم ووضعوا الصفر فوق رؤوسهم تيمّناً بأهل الخليج، ونزلوا إلى مركز البلدة يسألون: "ما فيه بنات؟؟".... إن السيد الوفا قد أقدم على العديد من الخطوات الجريئة، والتي كان البعض يعترضها فقط حبا في المعارضة وضرب الطاولات بقبضات اليد ليس إلا.. فعلها الرجل حينما خرج ووقف وعاين شخصيا ظروف التعليم، وفعلها لما أخرج قوانين لم نكن نحلم بها، فعلها لما أوقف نزيف تكليفات الثلث الآخر من الليل، وفعلها لما أعلن عن نتائج الحركات الانتقالية في آجال قياسية، كذلك فعلها لما بدأت الدروس فعليا في الآجال القانونية لأول مرة في تاريخ التعليم الحديث ، ولما التحق كل العاملين بمقرات عملهم في الوقت المحدد.. ورغم بعض العثرات التي لا يقع بها إلا من لزم السكون – والسيد الوفا لم يؤمن أبدا بالسكون – ورغم إنكار ذوي المصالح الضيقة التي بدأت تضيع في عهد الوفا، فقد لامسنا لأول مرة رضا حقيقيا من داخل الجسم التعليمي على عمل الوزارة. فلما يكون الرضا من الداخل وليس من استوديوهات أخبار التلفزة، ولما تبدأ الوزارة فعلا في خدمة مواردها البشرية، يحس الأستاذ بالرضا وبحب مهنته ومهمته، ويؤنبه ضميره إن هو قصر في حق المتعلم.. تبدأ المراقبة الذاتية وينطلق العمل الجاد وتتحرك العجلات الحديدية الصدئة محدثة صوتا مزعجا ومعلنة عن الانطلاقة الحقيقية... فنخال أنفسنا في شريط وثائقي أو رواية من الأوتوبيا.. ويبدأ جشعنا وطمعنا في مزيد إصلاحات... لكن هيهات.... لقد ظهر السيد الوفا فجأة وهو يضحك بمرارة ويقول: " الآن سآخذ عطلتي".. ثم أخذها فعلا.. غاب الوفا، فغابت خرجاته المحرجة، وبطلت قراراته الموجعة، وبدأت القاطرة تتوقف رويدا رويدا، وتبدأ الخطوات العشوائية واللا تربوية... فها هو الأستاذ يُكلف بمهمة، وها هو التكليف يلغى.. ها هي القرارات تُتخذ، وها هي القرارات يتم التراجع عنها.. ها هي النقابات تعلن وقوفها إلى جانب الأستاذ الفلاني، ثم يتضح أنها تؤازر العلاني.. هاهي الأستاذة تعمل بالمؤسسة الفلانية إلى أواخر شهر نونبر، وتنجز من الدروس ما تنجز، ومن فروض المراقبة المستمرة ما تيسر.. ثم فجأة يتوقف كل شيء ليتم الإعلان عن الفاصل الإشهاري؛ لقد تم تكليف الأستاذة بمهمة خارج الجماعة، في مؤسسة أخرى... تذهب الأستاذة وتترك مكانها فارغا، يغضب الأستاذ الوحيد الذي ستوكل إليه مهمة تلقين المادة لكل الأقسام بدءا من اليوم، ترتبك المؤسسة بأكملها، يضطر المدير لإعادة إنتاج وتوزيع جداول الحصص، يتيه التلاميذ في الساحة، يغضبون ويصيحون في وجه الحارس العام: ما هذا العبث؟ لو كانت غلطتنا نحن لعقدتم مجلسا انضباطيا ولتم توقيف أحدنا شهرا.." يصمت الحارس العام هنيهة، لأن ما قيل هو عين الحق، فجأة يتذكر أن زمن الوفا قد ولى وأن عليه فرض هيبة الإدارة ولو على حساب الحق وأهله، فينهر التلاميذ المشتكين، يحس هؤلاء بالغبن والظلم، فيغادرون المكان وهم ينطقون ببارات غير مفهومة... ثم يتم الإعلان عن استعمالات الزمن الجديدة، وتبدأ الحصص من جديد، بأسلوب جديد غير مألوف... يغضب التلاميذ، فيأتون ردود أفعال متباينة وتتكهرب الأجواء، يُكتب تقرير، يُسجن تلميذ (خارج أسوار المؤسسة) لمدة أسبوعين، ثم يعود، غير مقتنع لا بالحكم ولا بأهله، ينفجر في وجه الأستاذ والحارس العام، ثم المدير، يغضب أحدهم ولا يسيطر على نفسه، يضرب التلميذ، يشكو التلميذ، يأتي الأب متوعدا، ثم تظهر جمعية "ما تقيش عبد المالك".. تتدخل القوة العمومية ويتم توقيف الأستاذ، تكتب الصحافة بالخط العريض "أستاذ يستعرض عضلاته على التلاميذ"، يمثل الأستاذ أمام القاضي فيقول له الأخير ساخرا شامتا: "زعما راك مربي آحسرة".. يُسجن الأستاذ، يتفق زملاؤه على "اللي بغا يقرا يقرا، اللي ما بغاش لهلا يقري شي ز......." ومن لغا فلا جمعة له. ثم يظهر أحد منتفخي الأوداج على الشاشة ليقول: "لقد أنجزنا، وقمنا، وفعلنا، وتركنا..." بعده يأتي تقرير دولي يضع التعليم ببلادنا في مؤخرة الركب، ولأننا نحب الوطن كثيرا، نكذب التقرير الدولي ونصدق التقرير الإخباري اللا وطني... ثم نقول بنبرة المتيقن: "نحن نمثل الاستثناء"..