تجاوزت التعديلات المقترح إدخالها في مدوّنة الأسرة في المغرب الأفق المنتظر من حيث الكمّ الذي بلغ 139 تعديلاً، ورأت اللجنة التي شكلها الملك محمد السادس لهذا ضرورة إدراجها قوانينَ منظّمةً تغني المدوّنة، بعد 20 سنة من التعديل الجذري المتوافق عليه في 2004. في خضمّ النقاش المتعدّد الأطراف (والساخن) الذي يستقطب اهتمام المغاربة حالياً، يمكن أن نحدّد خمس زوايا يتفاعل فيه الشكل والجوهر، للنظر في نصّ قانون بلبوس فقهية، من المتوقّع أن يثير نقاشاً طويلاً في المقبل من الأيّام. كان محمد السادس قد عقد في 23 من ديسمبر 2024 جلسة عملٍ خُصِّصَت لموضوع مُراجعة مدوّنة الأسرة. وجاء ذلك في أعقاب انتهاء مهامّ اللجنة داخل الأجل المُحدّد لها، ورفْعها تقريراً يتضمّن المقترحات (المشار إليها أعلاه) إلى العاهل المغربي. وإذا كان نصّ المدونة (في نهاية المطاف) قانونياً، فإنها المرّة الأولى التي يعقد فيها ملك المغرب جلسة عمل حول قانون، إذ كانت جلسات العمل في التقدير الملكي المغربي تُخصّص للقضايا الموضوعاتية مثل قضايا الماء أو الطاقة أو الدولة الاجتماعية أو الكوارث، مثل زلزال الحوز. وهو ما يؤشّر إلى الأهمية التي تكتسيها التعديلات الجارية. ومن أمورٍ استرعت الانتباه العام أن اللجنة عملت تحت إشراف رئيس الحكومة، وهو مُستجِدّ في قضية تتقاطع فيها النصوص الدينية بمتغيّرات الواقع، والخلفية الثقافية بالانتماء الطبقي، والسوسيولوجيا بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً. وقد جرت العادة (منذ أيام الملك الراحل الحسن الثاني) أن تسند رئاسة اللجنة المتخصّصة في هذا النوع إلى شخصياتٍ من خارج حقل المسؤوليات الدستورية. وقد رأى كثيرون في هذا الاختيار ما هو أكبر من تفصيل سياسي تدبيري، بما يعني ذلك من إحالة على الفهم الجديد لعلاقة المسؤولية الدستورية، كما جرى التوافق عليه في دستور 2011 مع حقل المدوّنة، الذي ينتمي عادة إلى التمحيص الديني، وهو فهم ينبني على دسترة المسار التشريعي في الموضوع، مثله مثل أيّ قانون آخر، تكون الحكومة وراء إطلاقه. وفي الشكل دوماً، أعطى الملك محمد السادس تحكيمه في القضايا التي اقترحت فيها الهيئة أكثر من رأي، بعد أن تحقّق نظر المجلس العلمي الأعلى، المؤسّسة الدينية العُليا في المغرب. وفي الشكل، ما زال الجهد التشريعي والقانوني في الفهم والصياغة، وتحقيق القصد من هاته الإصلاحات، متوقّفاً على النخبة الحكومية والبرلمانية، وهي المطلوب منها اليوم أن تجوّد هاته النصوص، وتوجد الصياغة القانونية التي لا تقبل التأويل لفائدة النكوص، والامتثال للعراقيل الذهنية والاجتماعية المؤثّرة، كما وقع في تعديلات 2004، التي كانت محطّ انتقاد الملك، وأحد أسباب العودة من جديد إلى تدقيق الإصلاح. يبدو كما لو أن المغرب قد اختار المبدأ الفقهي الذي يفيد بما معناه «القسمة بالتراضي وإن لم تُرضِ الطرفَين»، إذ يبدو أن بعض التيّارات المحافظة، وبعض التيّارات الحداثية، لم تجد في الإصلاح ما يرضيها، ولكن ليس فيه ما يدفع إلى الرفض والتعبئة المطلقَين، ويفتح الباب لمزيد من التدافع والحراك الإصلاحي مستقبلاً. أمّا ما يخص التطلعات النسوانية، التي يدافع عنها الذكور والإناث على حدّ سواء، فقد حالت التعديلات دون البلوغ إلى العدالة المطلوبة، فرفض بعض المقترحات التي تحصّلت حولها تعبئة «حداثية»، عُدّ عجزاً في الإصلاح، بل هناك من عدّ أنه لم يحصل شيء، بعد رفض المجلس العلمي الأعلى ثلاثة تعديلات على مدونة الأسرة رُفِعت للنظر الشرعي ضمن 17 مسألة أحالها عليه الملك، وفق ما أعلن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق. ويتعلّق الأمر ب»استعمال الخبرة الجينية للحوق النسب»، و»إلغاء العمل بقاعدة التعصيب»، و»التوارث بين المسلم وغير المسلم». في حين اعتبرت التيّارات الدينية أو المحافظة أن إخراج السكن من تركة الميت لفائدة الأحياء من الأسرة أو ضمان الحضانة للزوجة المطلّقة، ولو تزوّجت من جديد، بمثابة تجاوز للقطعيات الشرعية. وبالرغم من أن النصوص الدقيقة، والمصوغة بوضوح لا عتمة فيه، لم توجد بعد، فإن النقاشات اشتعلت بشأن هاته المواضيع، حتى إن التفاعل الذي حصل معها، من بعض أطراف المجتمع، يجعلنا ندرك أنها كانت ما دون أفق انتظار أصحابها، أو أنها تجاوزت «المحرّم» بتبنّي أكثر ممّا هو منتظر. ولحدّ الساعة، لم تعبّر التنظيمات المنتسبة إلى الإسلام السياسي، العاملة في الحقل الدعوي، ولا التيّارات الحداثية، عن رفض بيِّنٍ. ولعلّ الدعوات التهويلية جاءت من بعض الأفراد أمثال رئيس حركة التوحيد والاصلاح المغربية (الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية) سابقاً، أحمد الريسوني، في حين تبنّت الحركة نفسها موقفاً توافقياً لا يخلو من انتظارية لما سيأتي من بعد، والشيء نفسه في ما يخص الحزب الذي تحمل دعواه. المواقف الأخرى كانت فرديةً في طبيعتها وتعبيراتها. والمثير للنظر أن الرفض (في هاته الحالات كلّها) لم يكن على قاعدة دينية أو فقهية، بقدر ما أنه كان بشحنات اجتماعية وحياتية، أو ذات علاقة بالذكورية المغربية، من نوع إثقال كاهل الرجل خاطباً أو زوجاً أو ميتاً، أو من قبيل اقتسام الثروة (من دون إثبات وجودها!) وحصول المرأة عليها… وخلاف ذلك. (يتبع) نشر بالعربي الجديد الثلاثاء 31 دجنبر 2024