أزمة فكر أم أزمة ذاكرة ؟ - الجزء I - إن قراءة التراث العربي في مطلع القرن الحالي المتسم بعديد من المتغيرات و المستجدات التي أمسى أثارها باديا بجلاء وغير ملامح الوجه السياسي للعالم بالدرجة الأولى و الوجه الاقتصادي بالدرجة الثانية، يضعنا أمام إشكالية جد معقدة تتطلب تركيز الجهود و الاستعانة بمجموعة من المناهج و المقاربات الحديثة ، هذا التغيير الذي لم تسلم منه حتى العقلية العربية التي ظلت جامدة لعقود طويلة و استطاع أن يخلخل بنياتها و يجعل قيما دون غيرها موضع مساءلة و إحراج ، عسى أن يتم تصريفها إلى مزبلة التاريخ. و مما لا شك فيه ، أن هذه التشكلات و التمظهرات الجديدة تقتضي وقفة تأملية متأنية لتكسير نمطية التراث و إعادة قراءته بأدوات إجرائية أكثر نجاعة و فعالية و استنباط القيم التي ما زالت لها مناعة تبقيها صامدة في وجه رياح التغيير العاتية ، لا لشيء إلا لكونها ذات حمولة فكرية متأصلة تنسجم و تتماشى مع روح العصر من جهة، و العمل على سل قيم أخرى استوفت صلاحيتها و أصبحت غير ذات جدوى و يتعين التخلص منها ، من أجل وضع قطيعة مع الأفكار المبتذلة و المهلهلة التي لا تستجيب لطموحات الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. يجب أن نسلم بأن السمة الرئيسية للفكر العربي ، هي الغنى و التنوع بتعدد المشارب و المناهل التي غرفت و ارتوت منها الشعوب العربية بفعل احتكاكها بحضارات مختلفة على مر العصور ، حيث انعكست على حياتهم و أحوالهم. و بالرغم من إدراكنا التام بتعقيد بنية معمارية الذاكرة العربية ، إلا أن هذا لا يمنعنا من ركوب عباب هذه المغامرة ، أملين في إجراء عملية نقدية للتراث العربي و العقلية التي أنتجته و بالتالي إبراز الجوانب التي عطلت عجلة المجتمعات العربية بنسبة متفاوتة عن اللحاق بركب التنمية ، و كذا رصد نقط الاختلاف و الائتلاف لهذا التراث ، لإماطة اللثام و كشف عورات النمطية الفكرية التي طبعت تاريخ هذه المجتمعات و اقتصرت على خدمة إيديولوجية محددة أملتها ظروف حقبة معينة ،مما فسح المجال لتنامي أفكار على الهامش يتجاذب فيها بشكل دائم منطق العقلانية و اللاعقلانية في أبعاد من التخفي و التجلي، حيث تتمخض عن هذا الصراع ظواهر شاذة لا تحمد عقباها، و بالتالي يفقد النسيج الاجتماعي لحمته و مقوماته الأساسية و تاريخ المجتمعات حافل بمثل هذه التجارب. إن المعرفة ليست مجرد مواجهة الذات للتشكلات الخارجية ، بل أعمق من ذلك إعادة تشكيل هذه الأجزاء لخدمة خطاب ثقافي و فكري قادر على بناء مشروع مجتمعي يتجاوز كل الإكراهات و العراقيل الناجمة عن النمطية و القطبية الوحيدة المكتسحة للساحة الفكرية و الحاملة لمشروع ضيق لا يرقى إلى طموحات السواد الأعظم للمجتمع بكل أطيافه و ألوانه، و لكنها تصور شمولي استشرافي من شأنه وضع قطيعة ابستمولوجية نهائية مع كل صنوف الإنتاج الذهني السائد و المبتذل غير المرغوب فيه في الوقت الراهن. و من هذا المنطلق، تتبادر إلى الأذهان عدة تساؤلات جوهرية ، أبرزها هل بمقدور الفكر العربي التحرر و التخلص من قيود و أغلال تلك المرتكزات الواهية المتسلطة الجاثمة على أنفاس الإبداع و الابتكار ، و إنتاج قيم حداثية بديلة تتماشى و تستجيب لروح" الربيع العربي " و النهوض بالثقافات المحلية إلى العالمية و تطويعها لخدمة الثوابت المشتركة، بالشكل الذي تتلاقح فيه إيجابيا مع التحولات الخارجية الكبرى التي تفرض نفسها على الساحة السياسية و محاولة غربلة حمولتها بالشكل الذي لا يمس بثوابت الأمة العربية المتعارف عليها منذ قرون خلت، مع الأخذ بالحسبان أن الصراع في بداية القرن الواحد و العشرين ، قد انتقل من الجيوسياسي إلى الجيوثقافي في ظل انتشار القنوات الوسائطية الإعلامية ، إذ أصبحت الكلمة أشد قوة و بأسا من الرصاصة ، مما يستدعي أكثر من أي وقت مضى التكتل من أجل التأسيس لثقافة المواطنة الرامية إلى تقوية القدرات ووضع إستراتيجية واضحة المعالم ترتكز إلى البناء ، التقويم ، المحاسبة و الحكامة الجيدة مع توسيع هامش الحريات و الممارسة السياسية و تكثيف الجهود لمحاربة الأمراض الجسدية و الاجتماعية التي تنخر كيان الأمة، و كذا التحصن وراء الأبنية المتينة للثقافة العربية الصرفة المزعجة للقوى الخارجية ، و التي ما تفتأ هذه الأخيرة تستهدفها في كل شبر من الكرة الأرضية. و استنادا إلى هذه المرتكزات ، استطعنا أن نستدرج الذاكرة العربية للبوح و الإقرار بوجود منضرين يفرضون فكرا معينا و كلمتهم باسم سلطة سياسية ، بدلا من وجود نقاد ينشرون اجتهاداتهم و قراءتهم باسم سلطتهم الفكرية ، مما يجعل العملية النقدية عبارة عن مزايدات تتسم بالتراشق السياسي و تبادل اتهامات تنزع عن الثقافة بعدها الأسمى ، عوض طرح اقتراحات و بدائل تؤسس لإقلاع تنموي شامل ، يستمد أسسه من المنابع النقية للتراث العربي الأصيل. و في هذا الصدد ، استحضر قول أرسطو في حواره مع أفلاطون ، حين صرح الأول بأن الأدب يشتغل على السياسة ، و أجابه أفلاطون بأن السياسة هي التي تشتغل على الأدب ، هذا التداخل هو الذي يجعل الممارسة النقدية تتطلب دائما تجديد و صقل الآليات لمواكبة الإنتاج الفكري السائد في الساحة العربية و فك شفرته ، من خلال تخليصه من الشوائب و تنقيحه مما يضر من جراء سموم الرياح التي تهب من كل صوب و حدب ، و جعله مهما تعددت مصادره و مشاربه يستجيب للمتطلبات الملحة للإنسان العربي في الفترة الراهنة و إعطائه مناعة ضد أقوى التيارات الفكرية. و خير ما أختتم به الجزء الأول من هذا المبحث المتواضع، هو ما خلص إليه إلياس خوري في بحثه المنشور بمجلة "مواقف " العدد 3 ، و الذي يفيد : " بأن المشروع الثقافي الذي بدأه العرب في عصر النهضة ، قد سقط ، لأنه يقوم على الجمع بين ماضيين الماضي العربي الإسلامي ، و الماضي الغربي ، فيبقى الحاضر غائبا لأنه خارج الذاكرتين "، و النتيجة تمرد الحاضر و الإعلان عن نفسه.