بعد انقطاع لأسابيع.. وزارة الصحة تعلن استئناف التوزيع العادي لدواء الميثادون وتعمل على تدبير المخزون    وقفات ومسيرات حاشدة بالمدن المغربية تستنكر الإبادة في غزة وتطالب بإسقاط التطبيع (صور)    تألق إبراهيم دياز يرفع قيمته التسويقية بشكل كبير    الائتلاف المدني يدين التحامل على الإعلام الوطني.. ويحذر: المس بوحدة المغرب وسيادته خط أحمر    الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال في إفريقيا: ملتقى علمي يجمع المغرب وموريتانيا    مربو الدواجن بالمغرب يطالبون بتدخل عاجل لوقف التلاعب بالأسعار وحماية حقوق المستهلكين    معالم شهيرة حول العالم تغرق في الظلام للتضامن مع كوكب الأرض    المديرية العامة للأمن الوطني تكشف عن تعيينات جديدة    القضاء التركي يأمر بسجن رئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو    نقابة "البيجيدي" تدعو الحكومة إلى حوار اجتماعي متعدد الأطراف لإيقاف "نزيف" القدرة الشرائية    الصين تبسط اجراء تسجيل الزواج    وزير الخارجية الصيني يشارك في الاجتماع الثلاثي مع نظيريه الياباني والكوري في طوكيو    التصفيات الإفريقية المؤهلة لكأس العالم 2026 (الجولة 5) : المنتخب الموريتاني يتعادل مع التوغو (2 – 2)    الجامعة تكشف عن مواعيد مباريات دور سدس عشر نهائي كأس العرش    مصدر أمني: توقيف سويدي مطلوب دوليًا بميناء طنجة    المسجد الحرام يستوعب أزيد من مليوني مصل بعد التوسعة السعودية الثالثة    هدم قصبة مولاي الحسن بفاس.. عدوان على هوية المغرب التراثية    إسماعيل الفتح يقدم مشروع الخبرة التقييمية لمجال التحكيم    أمطار رعدية وثلوج ورياح قوية مرتقبة يوم الأحد    المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب بطنجة ينظم أول إفطار رمضاني لتعزيز الروابط بين القضاة    طنجة: جمعية السعادة توزع "قفة الصائم" لفائدة 300 أسرة معوزة في دورتها ال15    مستثمرة مغربية بأميركا تواجه احتيالًا صادمًا في مشروع مطعم بطنجة    أدوار "نظرية اللعبة" في تحليل الصراعات الدولية وتصرفات صناع القرار    إسرائيل تغتال القيادي صلاح البردويل    من "الأبارتهايد" إلى الإبادة.. "أمنستي المغرب" تناقش حقوق الإنسان بفلسطين    البواري يتفقّد تقدم الموسم الفلاحي    أطفال يتنافسون بالقرآن في خريبكة    هدمٌ ليلي لبنايات قديمة بالمحمدية    البطيوي أمينًا عامًّا لمنتدى أصيلة    ماذا استفاد الوداد من اعتراف بلقشور … ؟    بعد احتجاجات بطنجة وتطوان.. وزارة الصحة تعلن استئناف توزيع دواء الميتادون بالمراكز الصحية    نتائج مثيرة في الدورة 18 من القسم الثاني هواة شطر الصحراء    فريق موظفو السجن المحلي آيت ملول 1 يواصل تألقه وطنياً بإنجازات رياضية    أكثر من 90 ألف متظاهر في فرنسا ضد العنصرية يرفعون شعارات داعمة لغزة    محاولات فرنسا لاحتكار سوق زيت الأركان: مغاربة يدافعون عن حقهم في ثرواتهم الطبيعية    دراجات نارية .. الرباط تحتضن الدورة الثانية من استعراض الأصدقاء    تصريحات تبون.. وعود وهمية في سوق الخبز والحليب والمزايدات الفلاحية    اليمين المتطرف في إسبانيا يعارض الاتفاق المغربي-الإسباني لتدريس اللغة العربية والثقافة المغربية في مدارس الأندلس    'دمليج زهيرو' وتمغربيت في أبهى حللها    نشرة إنذارية.. ثلوج ورياح قوية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفلا قرآنيا لتكريم الفائزين بالمسابقة القرآنية المحلية    انطلاقة إحداث مصلحة جديدة لحوادث السير بصفرو وإعلان عن تعيينات في مناصب المسؤولية بمدن تازة وأكادير والداخلة وسلا وتطوان    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الأسبوع بأداء إيجابي    غانا تدعم المغرب في مجال الفلاحة    شراكة تعزّز الوعي بصحة الفم بالمغرب    انطلاق فعاليات "زهرية مراكش"    المجلس العلمي الأعلى يحدد مقدار زكاة الفطر لهذه السنة    المجلس العلمي الأعلى يحدد قيمة زكاة الفطر لعام 1446 ه في المغرب    رحيل مخرج "وادي الذئاب" "دموع الورد".. نهاية أسطورة الدراما التركية    تنظيم منتدى الصحراء المغربية الدولي للصحافة والإعلام بسيدي إفني    أبحاث جديدة تفسر سبب صعوبة تذكر الذكريات الأولى للأطفال    المجلس العلمي الأعلى يرفع قيمة الزكاة في المغرب    الصيام بين الفوائد الصحية والمخاطر    منظمة الصحة العالمية تدعو لاتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة السل    صحة الصائم الجيدة رهينة بالتوازن في الأكل و النوم و شيء من الرياضة..    من أجل فلسفة جذرية    أمسية شعرية وفنية تحتفي باليوم العالمي للشعر في طنجة    2025 سنة التطوع: بواعث دينية ودوافع وطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة: المقهى
نشر في بيان اليوم يوم 01 - 11 - 2010

كان المقهى هادئا على غير العادة. بضع أناس فقط جلسوا حول الطاولات الصغيرة المستديرة التي ملأت المكان. دخلت وأنا ألقي السلام إلى صاحب المقهى بإشارة من رأسي واتّخذت مجلسي في مكاني المعتاد، في الزاوية اليسرى البعيدة المطلة على البحر.
تأمّلت حولي قليلا. بدا لي المكان حزينا. جلس في الركن الأيمن منه رجل وامرأة، يبدوان زوجين في العقد الرابع من العمر، وكانا غارقين في نقاش جاد ولم ينتبها إلى شيء من حولهما. وفي الزاوية البعيدة المقابلة لي جلس رجل مسنّ وحيدا، منشغلا في قراءة جرائد عدة. وفي الركن الأيسر، بمسافة ثلاث طاولات مني، جلس شاب متأنّق بقميص أبيض وبنطلون أسود، يطالع أوراقا كثيرة ويدخّن سيجارة.
ظهر النادل إلى جانبي حاملا لي قهوتي المعتادة، قدّمها لي وسألني عن حالي، فتبادلنا بعض كلمات الأدب واللطافة، ثم مضى إلى أشغاله.
حوّلت نظري نحو النافذة الزجاجية الكبيرة التي أطلّ منها منظر البحر في ساعة المغيب، حيث الشمس أرسلت خيوطها الصفراء الواهية، المشوبة بحمرة خفيفة، وكأنها تغازل البحر الساجي، الصامت، قبل أن تعانقه مودّعة وتنحدر إلى مغربها.
جلست مأخوذة بهذا المنظر البديع لبضع دقائق، حتى لفت نظري دخول شابة جميلة، مديدة القامة، بقميص أبيض وتنورة سوداء، تمسك بيدها حقيبة من الجلد الأسود، خطت بثقة وثبات نحو الشاب المتأنّق، جلست قبالته وأخرجت المزيد من الأوراق من حقيبتها السوداء.
جلست أتتبّعهما طويلا، أحاول أن لا أفضح اهتمامي الشديد بهما. ولم يقطع نظراتي واهتمامي بهما سوى دخول شاب إلى المقهى في بذلة رياضية، قوامه طويل ورشيق، شعره أشقر ومتموّج، عيناه رماديتان، وديعتان، تأتلقان ببريق ساحر، أنفه صغير ومدوّر، وشفتاه قانيتان، ممتلئتان.
خطا بين الطاولات، وهو يمرّ بعينيه بين الموجودين، وجلس على بعد طاولتين مني في طرف المقهى، واضعا حقيبته الرياضية بجواره على الأرض، نادى للنادل وطلب ما أراد، ثم أخرج جريدة من معطفه وأخذ يتصفحها.
خالجني شعور غريب وأنا أتتبّع حركاته بفضول، وكأنني رأيته في مكان ما، في زمان ما، قبل هذا اليوم. وكأنني كنت أعرفه. ملامحه ليست غريبة عني. لقد رأيتها من قبل. ولكن أين؟ ومتى؟ ومن يكون؟
صوّبت نظرة طويلة نحوه. ترى، كم عمره؟ إنه لا يبدو أكثر من عشرين عاما، رغم طوله الفارع وجسده القوي المتناسق، إلا أن قسمات وجهه و تموّجات شعره تضفي عليه الرقة والبراءة. أين رأيته؟؟
وبينما أنا منهمكة في أسئلتي وفضولي، وكأنه أحسّ بنظراتي المستطلعة نحوه، التفت إلي، فجأة، بنظرة سريعة، متنبّهة، ثم سرعان ما عاد إلى جريدته.
الآن كنت متأكّدة تماما أني رأيته من قبل، في مكان ما،في زمان ما. عيناه الرماديتان، الساحرتان، تؤكّدان ذلك دون أدنى شك. أين رأيت تلك العينين الرماديتين ذات البريق اللامع الخلاب؟؟ متى؟ وكيف؟
ولكن الشاب صغير وما زال في العشرين ربيعا، فكيف لي أن أراه في مكان ما، في زمان ما، وتسحرني عيناه الرماديتان، ويخلبني بريقهما اللامع، أنا المرأة الخمسينية العانس، الجبانة، التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام؟ لا بد أنني أهذي.
اقترب منه النادل وقدّم له كوبا من عصير البرتقال، فرفع إليه الشاب نظره للحظة، شكره بانحناءة من رأسه، وعاد ليقلب صفحة الجريدة. كم تمنيت لحظتها أن يمدّني بنظرة. ولكنه كان منشغلا بقراءة وتصفّح تلك الجريدة الحمقاء، ومعها يرتشف عصير البرتقال.
حاولت أن أنشغل عنه، فتأمّلت نحو النافذة وقد أخذت العتمة تغطى الأفق وتستدرك مسارها نحو الليل. ثم نقلت نظري بين الموجودين. ولكن الشاب المتأنّق والشابة الجميلة اللذين شغلا فكري واهتمامي في البدء لم يعودا موجودين في مكانهما، ولا حتى وُجدت ورقة واحدة من أوراقهما تذكّر بوجودهما السابق. لم يوجد شيء سوى أعقاب السجائر التي تركها الشاب وراءه.
التفتّ إلى الرجل والمرأة اللذين كانا مأخوذين بنقاش جاد قبل دقائق، والآن، عادت المياه إلى مجاري الأمان، ويتبادلان الضحك والمزاح في دفء وانتعاش. أما الرجل المسنّ الذي كان منكبّا في قراءة الجرائد، فلم يعُد وحيدا، بعد أن انضمّ إليه مسنّ آخر، وقد ترك جرائده وراح مستمتعا في حديث مع رفيقه.
بعد ذلك وجدت النادل يقترب مني بوجهه البشوش ويسألني إن كنت أريد شيئا آخر. فطلبت منه المزيد من القهوة مع سكر زيادة.
حين عدت بنظري إلى الشاب العشريني الذي أمامي بطاولتين، فوجئت برجل قد جلس الى جانبه في الطاولة، لابسا هو الآخر بذلة رياضية. في البدء، وجدت نفسي أحدّق فيه دون سبب واضح، ودون أن أعي من هو. ولكن خطر لي أنه والد ذلك الشاب بسبب التشابه الكبير بينهما. ثم أطبق الذهول على كل حواسي حين أدركت فجأة من هو! وعادت بي ذاكرتي أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء، وارتمت أمام عينيّ صور كثيرة من الماضي البعيد... من حارتي القديمة،من حبي الأول،حبي الوحيد.
ياه! كيف يركض بنا الزمان دون أن نحسّ! وكأنه كان بالأمس فقط!
كنت مراهقة في السابعة عشر من العمر، وهو شاب من شباب الحارة، وأي شاب! جسمه طويل وقوي، ينبض بحيوية دافقة، وجهه يزخر بالرقة والجمال، وشعره الأسود المتموّج يزيّن جبهته. وكان يلعب كرة المضرب ويحرز الألقاب والكؤوس. هكذا كنا نسمع في الحارة، رغم أن معظم من في الحارة لم يشاهدوا مباراة واحدة من مبارياته، لأنها كانت تجري في مدن وبلدان بعيدة. ثم ترك الحارة مع أهله وأخذ يطوف العالم. ولم أرَه منذ ذلك الوقت ولم أسمع عنه شيئا.
اختلست النظر إليه. أكاد لا أصدّق أنه هو! عيناه الرماديتان الجميلتان ما تزالان تحتفظان ببريقهما الخلاب، رغم مرور السنين، شعره الأسود المتموّج بات مشوبا بالرمادي، جسمه الطويل والقوي أصبح مائلا إلى الامتلاء، ووجهه فقد من نضارته ورقته القديمة.
كيف جمعنا الزمان من جديد في هذا المكان بعد طول السنين!
وفجأة، التفت إليّ، لمحني، توقّفت نظرته لدي، نظرة فضولية، مندهشة.
أتراه يذكر؟
ابتسمت لنفسي، وماذا تريدين أن يذكر؟ نظرة؟ أم ابتسامة؟ أم سلام؟
أيتها الجبانة الحمقاء! لم تتغيّري. ما زلت تعيشين في أوهامك. أو تظنين أنه شعر يوما بالملل حتى يتذكّرك؟! لا بد أنه كان مشغولا بنفسه طوال هذه السنوات. وها هو الآن مشغول بولده. ترى، من تكون زوجته؟؟ أهي من هنا؟ أم من بعيد؟ وما شكلها؟
في لحظة ما، بدا وكأنه على وشك أن يبادرني بالكلام. فقد انفرجت شفتاه الممتلئتان، وراح ينظر إليّ وكأنه عرفني. ولكنه لم يقُل شيئا.
سخرت لحماقتي! وماذا تتوقّعين أن يقول الآن، وهو الذي لم يقُل لك شيئا حين جمعتكما حارة واحدة؟!
عاد النادل بفنجان القهوة ليقطع عليّ سلسلة أفكاري، وضعه أمامي على الطاولة، فشكرته بتأديب، وذهب. انتبهت حينها لعدم وجود السكر الذي طلبت، فأردت أن أناديه، ثم عدلت، فقد كان بعيدا، وأنا لم أشأ أن ألفت النظر إليّ بسبب سكر.
ثم رأيت الشاب وقد قام من مكانه، ووراءه والده، رفع حقيبته من مكانها وذهبا.
وأنا بقيت وحدي جالسة في مكاني المعتاد في المقهى، أعيش في تأمّلاتي وأفكاري. وما زلت أتساءل في نفسي: أ تراه تذكّر؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.