للأماكن ذاكرة قوية كما للإنسان ذاكرة. بمجرد ما نمر بالقرب من مكان عشنا فيه أو أمضينا فيه وقتا رائعا أو حزينا، يعود أمامنا شريط طويل بتفاصيل المكان ومشاهده وشخوصه. مررت مؤخرا بإحدى المقاهي التي كنت مدمنا على الجلوس فيها كل صباح للإفطار والكتابة وقراءة الجرائد. هناك في تلك المقهى كان يأتي الذباب إلى غاية طاولتي دون تحرج، يحوم حول فنجان القهوة، يطن بلا مبرر مقنع، ثم يمضي عبر النافذة الزجاجية التي ينسى النادل تلميعها أحيانا، فتبدو مثل صفيحة معدنية. في هذا المكان، حيث الكراسي والطاولات تثرثر خفية في ما بينها، كنت أجلس كل صباح لأتناول إفطاري، وعلى عادة جثة، أغفر لكل الذباب الذي يأتي إكراما ليحفني بطنينه البهيج وأتنازل له عن نصيب، اعتبرته دائما هزيلا، من وجبة إفطاري. المقهى التي أتحدث عنها تقع في شارع طويل لم يجد المهندس الذي صممه حرجا في نفسه بسبب الطول ذاك، ونسي أن يرسم عرضا ملائما لطول مماثل، فأصبح الشارع شبيها برجل نحيف يمشي ولا يستطيع أن يمنع قهقهات المارة بسبب مشيته تلك. هناك بالضبط كنت أقضي الفترة الصباحية، ولأنه يتيح لي اختلاس النظر إلى زاويتين متقاطعتين في الخارج، فإنني كنت أجلس في الركن الذي يتيح هذه الإمكانية على الوجه الأكثر أريحية. بإمكانك وأنت جالس في هذا الركن أن تشاهد كل شيء تقريبا.. التلاميذ الذاهبون إلى حجرات الدرس، الأساتذة بسحناتهم المتعبة ونظراتهم الباعثة على الشفقة، الموظفات في الإدارات العمومية اللواتي يشتغلن تحت السلم الإداري بقليل، المعدمون الذين يذرعون الشارع بحثا عن فرصة ضائعة من تلك الفرص التي تمنحها جهة مجهولة مرة كل قرن، مواكب الأعراس والحفلات حيث النساء يرقصن فوق عربات تجرها حمير حانقة على كيسي شعير غير منظور، الجنائز التي تمر من حين إلى آخر لتذكر الأحياء بأن الحياة تشبه كثيرا كومة روث في مزرعة يقال لها الأرض. بمستطاعك أن تشاهد كل هذه الأشياء كما لو كنت تشاهد حلما سريعا بعد وجبة عشاء ثقيل. صاحب المقهى تعود على رؤيتي في هذه الزاوية، وهو لا يسلم علي أبدا. وبالمناسبة، يجب أن أعترف بأنني لم أسلم عليه أيضا أبدا. أما النادل والشخص الذي يغسل الأواني وصاحب آلة البن والطاحونة المزعجة فكلهم أصدقائي، وربما أكون قد قاسمت أحدهم طاولة عتيقة في فصل من جحيم الدراسة الابتدائية، فمعظم رفقاء الدراسة قد ألقى بهم حظهم العاثر إلى شغل مناصب مماثلة، حيث يسقطون رفقة الفقر ضحايا توزيع غير عادل للثروات والحظوظ. وهنا بالضبط تعودت أن أكتب كل شيء، من شكايات التظلم ورسائل الأصدقاء إلى القصائد والقصص. وقد تعودت طاحونة البن على رؤيتي دائما منكبا على شيء أطالعه أو أحرره على الورق، ولم تحاول يوما أن تتطلع إلى الأسباب الكامنة وراء ذلك، لأنها ربما تعتقد أن إفساد الخلوة على مفلس مثلي لا يجلب الحظ تماما. لقد شاهدت من هذا المكان أناسا كثيرين وحيوانات لا تحصى، وسجلت في مذكرتي الحمراء والصغيرة كل الملامح والسحنات التي مرت بي وأنا جالس أتناول إفطاري الأبدي. هناك الفتيات اللواتي يأتين للإفطار في المقهى وعلى وجوههن آثار سهرة صاخبة ومتعبة، يطلبن عصير فواكه لاسترجاع أنفاسهن، ثم يطلبن بعد ذلك قهوة ويشعلن سيجارتهن الأولى. أحاول تخيل حكاية كل واحدة منهن، بعضهن جميلات وتقول قسمات وجوههن إنهن بنات عائلات، لكن الزمن المغربي القاسي الذي لا يرحم حولهن إلى بائعات للمتعة في أسرة متنقلة يختصرن وجودهن في حقيبة يد صغيرة يجمعن داخلها أغراضهن القليلة، مشط وأدوات تجميل رخيصة والبطاقة الوطنية حيث لديهن مكان المهنة أسماء كثيرة ومختلفة... حلاقة، طالبة، عاملة، فنانة،... هناك العريقات في المهنة، اللواتي يحملن على وجوههن آثار ندوب قديمة تخلد لذكرى سهرات لم تنته على ما يرام. هؤلاء تراهن كل صباح مع رجل جديد، ومع مرور الوقت تلاحظ أنهن أصبحن يأتين رفقة رجل واحد، فأتخيل بداية القصة. لقد وقع الرجل في الحب، عفوا في الفخ. ثم يختفي الاثنان إلى الأبد، وأتصور أنهما تزوجا وأنجبا الأولاد وأصبحا يكوّنان أسرة سعيدة. هناك أيضا التلميذات اللواتي يهربن من حصص الإنشاء المملة ويتسللن مع أصدقائهن، الذين غالبا ما يكونون من سائقي التاكسي، لتدخين سيجارتهن الأولى في الحياة. بعضهن يتصورن أنهن ينتصرن على العالم من خلال هذه السيجارة، يكتشفن مذاقها وينفثن الدخان أمام وجوه أصدقائهن كما ليعطين الانطباع بأنهن عريقات في التدخين. ثم هناك المثقفون. هذه الفصيلة من الزبائن التي يكرهها أرباب المقاهي حتى الموت. فهم قادرون على السكن في المقهى طوال المساء والتناقش حول فنجان قهوة بلا تعب. ولذلك أفلست كل مقاهي المثقفين التي كانت معروفة في المغرب خلال السبعينيات، ولولا اجتياح العاهرات، اللواتي عوضن المثقفين، لهذه المقاهي لأقفلت هذه الأخيرة أبوابها منذ زمن طويل. ينبغي أن أشير، بهذا الصدد، إلى أنني احتفلت بأعياد ميلادي وحيدا في هذا المكان، ولم أشعل شموعا ولم أتبرع على سنواتي بقطعة كعك حتى. وحدها الموسيقى الخفيفة التي كانت تنبعث من جوف المذياع ظلت تذكرني بي، وهي بالمناسبة كانت تتناغم جيدا مع كل الطنين الذي يتكفل الذباب بإنجازه على نحو مثير للدهشة. مرت السنوات تباعا، وأنا ما زلت أكبر في المكان ذاته، غيّر صاحب المقهى الطلاء الكئيب الذي كان يتشبث بالحائط مثل غريق وأصبح المكان أكثر إضاءة. ودون أن أفهم كثيرا نوايا طاحونة البن، كنت مضطرا إلى تحمل كل الضوضاء التي تحدثها وهي تدوس بأقدامها الكهربائية حبوب القهوة بشكل متزايد الحدة. أما اللوحة المائية المرسومة على عجل، كما يبدو ذلك واضحا من طريقة وضع اللون الأزرق بكل تلك الركاكة، فهي الشيء الوحيد الذي ظل يشدني إلى هذا المكان، وقد نقلها صاحب المقهى من حائط إلى آخر دون ملل، كأنما يهربها من رطوبة ما. وقد استقرت أخيرا فوق رأسي تماما بحيث أصبحت معرضا لتنبيه فراستي في كل مرة إلى الطريقة الركيكة التي وضع بها اللون الأزرق، مع إبداء استحسان ملحوظة حول الشكل الذي وضع به توقيع صاحب اللوحة والذي يبدو بارزا أكثر من أي لون، كأنما التوقيع هو المهم أما اللوحة فمجرد ذريعة. ودون أن أبرح مكاني، تأتيني أخبار العالم بأسره حتى حدود طاولتي، في الجرائد متسع لا يستهان به مخصص للفضائح التي يقترفها الآدمي في غفلة من آدميته. من هنا أعرف الحروب التي قامت، الجمهوريات التي سقطت، الحرائق، الكوارث، الزعماء الذين قادتهم الحمية إلى بوابة السجن، والخونة الذين أضاعوا حواسهم في منحدرات ما. وسط رجال متعبين يحشرون الأرقام في خانات الحظ، أجلس. بعضهم يبدي استهجانا ملحوظا من محفظتي، وآخرون يودون لو أقرأ أمامهم مميزات بعض الخيول والكلاب التي ستركض في السباق الموالي، والتي تنشرها بعض الجرائد المختصة في هذا النوع من اللعب، فقد كانوا يقتنون هذه الجرائد دون أن يتمكنوا من حل حرف واحد منها. ربما كانوا يفعلون ذلك فقط تطييبا لخاطر الحظ. لا أحد من هؤلاء الجلساء يعرف كيف يبدأ حديثا ويتمه دون أن يقول من الشتائم ما يبلل قبيلة بكاملها، يدخنون بلا توقف ويتحدثون فقط حول خيول الحظ وكلاب سوء الحظ. ومع ذلك، أشعر وسطهم بدفء خاص يشبه كثيرا جلسة في عراء واسع تحت ضوء القمر رفقة بدو تضيء وجوههم لفافات تبغهم عندما يسحبون نفسا عميقا من دخانها الرديء. هؤلاء الناس البسطاء الراكضون وراء الحظ بعيدون كل البعد عن الأفكار الكبيرة والمزعجة ويتصرفون كما لو كانت القيامة ستأتي في الصباح الموالي، وعندما يتثاءبون يقولون «آآآخ خ خ» بلا تحرج. حتى الذباب يفهم مزاجهم فلا يحشر نفسه في أفواههم المشرعة مثل بوابات قلاع، بل يظل محلقا حول وجوههم المتعبة، كأنما يخفف عنهم بمراوح لا منظورة حزنا لا منظورا. ثم إن المكان ليس واسعا بالشكل الذي قد تتصورونه، بل على العكس تماما، المكان ضيق جدا ولا يتسع سوى لعشرة زبائن على الأكثر، وبإمكان المتلصصين الذين يجلسون فقط لانتظار مرور طابور بنات الثانويات أن يجلسوا فوق المقاعد المبثوثة على الرصيف، كي يشاهدوا عبور اللحم الآدمي عن كثب دون أن يضطروا أعناقهم إلى الالتفاف يمينا ويسارا، موفرين لزوجاتهم تعبا إضافيا عندما يجلسن لرتق أعناق قمصان رجالهن المأكولة بسبب تحريك أعناقهم طيلة اليوم وراء مواكب النساء والفتيات. زد على ذلك أن هذا المكان ضاج بالمخبرين والعيون والشحاذين الذين يثيرون الغثيان، وهذا ربما عين جماله. ثمة أمكنة، ثمة أناس وثمة أسئلة، مثلا: إلى أين يمضي دخان السجائر؟ هذا ما لا أعرفه تحديدا. أظن أنه يغادر المقهى، يأخذ لنفسه مشروبا ويتنفس الصعداء.