[email protected] مدينة الناظور, مدينة أصبحت تشبه الغول ، بكثافتها التي اصبحت تلتهم كل شيء بدءاً بساكنيها، وشساعة معمارها الذي يجعل سكانها أكثرغربة من زائريها. مع هذا، تبقى مدينة الناظور مدينة أليفة تجعلك تحبها حبا أبديا، وتسحرك حتى تهيم في عشقها حد الجنون، فيصبح البعد عنها جارحا مؤلما، ومغادرتها مستبعدة وغير مرغوب فيها. بها مغناطيس روحي يشدك اليها ويجذبك نحوها كلما حاولت الهروب والإفلات. مقاهي المدينة مقاهي المدينة ، تبقى الفضاء المستحب الذي يرتاده الناس لممارسة حرية ربما تحرجوا من ممارستها في الشارع ، ومناقشة مواضيع بالجلوس مع الأصدقاء. وعلاقتي و أهل مدينتي بالمقهى علاقة قديمة !! أولها ( ربما ) كانت مرتبطة بالفرجة التي كان يوفرها التلفاز، أيام الطفولة والذهاب إلى بعض المقاهي لمشاهدة بعض الافلام أولمتابعة بعض مباريات كرة القدم ,كانت (ربما ) أول علاقة مع المقهى. في المرحلة الثانوية , كان لقاء الأصدقاء في المقاهي ، مناسبة للقاء وتبادل الآراء والأفكار، وربما أيضا لممارسة بعض ما كان يتبقى من شغب المراهقة, دون إغفال أشياء أخرى كانت بالامس القريب أجدى بالسرية ...ملاقاة الصديقات،حيث كانت دوريات القوات المساعدة والشرطة تتصيد كل من يمشي مع إحدى الفتيات في الشارع ولو كانا عائدين من المدرسة ، أو حتى كانا أخ وأخت.. فكان ضرب المواعيد في بعض المقاهي .. وبحجة " المطالعة" ..نوع من أنواع "الحلول" تفاديا لعيون " أصْطَافِيتْ" ثم أصبحت المقهى بعد ذلك عبارة عن مكتبة للإستعداد لامتحانات الباكالوريا... الإنزواء بزوايا المقاهي للمطالعة والاستعداد للامتحانات ...ثم بعد ذلك مرحلة الاحساس بنوع من الإستقرار المادي , بما كانت توفره المنحة الجامعية إضافة الى ما كانت توفره العائلة من مصروف فاعتدنا الجلوس في المقاهي ... مقهى الربيع عندما انتهيت من ترتيب كل الاشياء بعد سفر لم يكن هذه المرة طويلا ، كان هناك شيء يناديني: مقهى الربيع ؟ كنت متردداً في الذهاب ، قلت لأنتظر قليلا , ربما تغيرت الاشياء هناك أو ربما أصبحت المقهى الان شيئا آخر, محل تجاري أو سكن ولِما لا... تيلي بوتيك او قاعة للانترنيت (موضة العصر في مدينتي ) على أقل تقدير !! بعد يوم واحد من وصولي المدينة, ركبت سيارتي ( عفوا سيارة أبي ,نسيت أن السفر هذه المرة كان بالطائرة), الشوارع مزدحمة ومدينتي متعبة بصوت نعال الوافدين عليها ,هي التي لم تعد تستوعب ذلك الكم الهائل الذي يتوافد عليها كل سنة... توجهت إلى الحي الاداري وإلى الربيع بالخصوص ,سلكت شارع الحي ثم شارع الجيش الملكي ، أوقفت السيارة على جانب الطريق وأخذت هاتفي وسجائري ، دخلت ساحة المقهى, مررت عبر كراسيها سألت النادل هناك عن بعض الاسماء لم يسعفني بإجابة, بدا لي أنه جديد العهد هناك .تذكرت (بو..) فقلت في نفسي وجدت ضالتي وفعلاً تقدمت إلى النادل وسألته من جديد : أين (بو..) , قال: سمعت أنه يشتغل لنفسه بعد أن اكترى مقهى بالحي الاداري .. تفاجأت عندما دخلت إلى المقهى , لقد دخلت بوابة الماضي فعلاً ، كل شيئ كما كان, وجدت محمد ووجدت عبدالله... لا يوجد رواد جدد... رواد المقهى هم هم, من قبل أربع أو خمس سنوات .. لم تكد تمضي ثوان وجيزة على دخولي للمقهى حتى رنّ هاتفي. كان على الخط الآخر توفيق. أخبرني أن من أنتظر, ذهبوا إلى ( ربحار أنوازرو /شاطئ الصخور ) ولن يعودو إلا في المساء ... لمحت سيارة صديقي نورالدين تعبر الشارع المحادي للمقهى , ناديته ,تصافحنا وككل مرة دلّت وتدل حرارة السلام على صداقة واضحة , في زمن تندر فيه الصداقة الحقيقية . كان المقهى مزدحما عندما دخلته , بدأنا البحث عن طاولة لأخذ قسط من الراحة , لكن العثور على طاولة في ظل ذلك الزحام كان صعبا، استأذنت مجموعةً من الاصدقاء مجتمعين حول طاولة وجدت عليها كرسيا شاغرا, فأذن لي إحدهم قبل أن يعلق ساخرا: تفضل ، فالعثور على كرسي في هذا المقهى يبدو هو الآخر مهمة صعبة، كما هو الحال مع العثور على وظيفة في هذه المدينة التي تفتح أبوابها أمام الجميع وتعجز عن توفير وظائف لأبنائها! لمحنا أصدقاء أخرين,عمر ,عبدالسلام,خالي اسماعيل,خالي كريم, ووجوه أخرى ... أفسح لنا أحد الاصدقاء مكانا على الطاولة التي اجتمعوا حولها ، يبدو أن التعب قد أخذ منهم كثيرا بعد يوم كامل من العمل , فبدا الوجوم على وجوه أغلبهم، بينما انهمك البعض الآخر في حديث لم يخرج عن دائرة أخبار وحكايات شهدها نفس اليوم,. التف أحد الاصدقاء حولي وقال:ها نحن نعود مرة أخرى للحديث نفسه الذي نتجاذب أطرافه كل عام في هذا المكان. وأنا أسرح بناظري بحثا عن النادل لمحت حافظ , وياسين يخطوان نحو طاولة كان يجلس عليها الدكتور فيصل وكان يجلس بجانبه رجل لم أكشف ملامحه في الحين بسبب نظارة شمسية كان يلبسها .. إنه زكرياء, كان يلبس نظارة شمسية ليسرق من ورائها لحظات من النوم بعد أن قضى ليلة بيضاء في حفلة زفاف, وكذلك الامر لحافظ وياسين... سمعتهم يتحدثون عن ( الكعموصي ) الرجل الذي ذهب لاصطياد الارانب وبعض الوحوش البرية فاصطاد بدل ذلك حارس الغابة بطلقة من بندقية الصيد التي كانت بحوزته..ويصيبه في رجله ليفر هو هاربا ويلقى عليه القبض أخيرا وهو يحاول دخول مليلية في محاولة يائسة لمغادرة المغرب . و جلست أضحك لمدة ,عن حكايات حافظ حول ياسين و كيف انه أحيانا يزور دورة المياه أكثر من العادي ,,عن حكاياته الجميلة المضحكة ,,,كبرهذا الفتى بسرعة ..كبر في كل شيء ولم يكبر على الاشياء , الجميل في مقهى الربيع أني أعيش فيها عالمين , عالم الاصدقاء الذي لا ينتهي وعالم العائلة الذي يكبر كل سنة.. حقا ياسين , صدقت حافظ , إنها حكايات وخواطر لا تنتهي ,ولازلت أذكر العديد منها...هي ذكريات جميلة تفتحها جلسات المقهى هناك كما في كل مكان , اقول, جميلة رغم بعض الاحداث التي قد تكون مأسفة ولكن لا يمنع هذا من أنها تدخل في اطار " ذكريات الماضي الجميل ". وبالطبع يحتل الشغب أحيانا حيزا هاما في هذه الذاكرة لان احداثه لا تنسى ابدا رغم قسوتها احيانا. و أنا أنتقل من عيوني من طاولة إلى أخرى كنت أيضا بين الحين والاخر أبحث عن النادل .. عبداله النادل المشاكس عبداله النادل المشاكس يقفز من ركن إلى آخر، يعدو من الأعلى إلى الأسفل،بسرعته و خفته المعهودة يتفحص أحوال الطاولات ليس من باب التأكد من هل الوسخ اجتاحها أم لا ,بل ليتأكد من أن عدد الاشخاص الدائرين بالطاولة يساوي أو يعادل ما يوجد فوق الطاولة .. هذا هو عبدالله بابتسامته العريضة يحمل الطلبات بخفة ورشاقة، وخفة تصل أحيانا إلى إبداء حركات تميل إلى البهلوانية.! صوته الذي يزعج الزبناء أحيانا أصبح مألوفا لديهم ... ولم يعد يبالي به أحد .. أراه أمامي يضحك..بصوت عال.. ماالذي يضحكه ؟ ماالذي قرء في الوجوه ؟ . يجمع الكؤوس وبعض الزجاجات الفارغة من على الطاولات يقدم التحية كعادته وتبتلعه صفوف الكراسي الطويلة . قال لي مرة بعد تقديم طلب لزبون ودون كلمة شكر : تبا لمن يقهرالإنسان ( تْفُو خْ وَانْ يَسَّعْقَارَانْ أَبْنَاذَامْ ) وتبا لمن يتحمل القهر! وصمت وأضاف :( ما معناه ) من رضي بأن يكون حماراً فلا يغضب إذا ركبهُ النّاس. المهرجان والناس في الركن المحادي للنافذة ينتصب تلفاز من نوع البلازما تتدفق من قنواته المختلفة مختلف الصور وكتابات لكتلة من الأخبار المستعجلة , ولكن القليل من ينظر إليه أو يقرأ الاخبار ,,لا لشيء فقط لأن الاخبار والمستجدات يحملها كل زائر للمقهى.. الاخبار تكون هنا فوق الطاولة .. وصلة إشهارية بعنوان عريض توسط شاشة التلفاز : (المهرجان المتوسطي للناظور) سمعت أحد الاصدقاء يقول : إن شوارع المدينة شهدت أمس أول أيام المهرجان المتوسطي هل من يرافقني إلى الكورنيش ؟ كانت اللامبالات مرسومة على الوجوه. وكان الصمت من حول الجميع يوحي أمراً واحداً، هو أن الإنسان متى عُزل عن عالمه ومحيطه وثقافته يعود إلى لحظة ولادته الحقيقية، تلك التي توصله حيث لا يقدر الآخرون أن يصلوه. والمدينة التي حلم بها هؤلاء، والتي عشقوها حد الإدمان، والتي أدت ولسنوات طويلة ضريبة قاسية بتهميشها... هي الان تؤدي ضرائب أخرى و من نوع خاص بتحويلها قسرا لمدينة الفوضى المطلقة. المدينة تفتقرالى مهرجان جاد يلملم جراحات سنوات مضت ويواكب الحياه ليكون معبرا عن تطلعات أهل المدينة وبالتالي يكون اكثر فاعليه.... المدينة بمهرجانها " الجديد " لم تعد هادئة ولا نظيفة ., لذلك لا أحملها في ذاكرتي وفي أحاسيسي وفي داخلي ,هذه المدينة " الجديدة الغير الهادئة"، بل أحمل معي مدينة أخرى تلك التي ترعرعت فيها , المدينة الهادئة, أحملها أينما حللتُ وارتحلتُ أحملها معي لأنها لم تعد غير ذكرى، أما الجانب الاخر من المدينة ، والوجه الآخر للناظور, فهو ليس سوى مختبر تتعلم فيه الدولة كيف تُميِّع الحياة، وكيف تصنع المواطن الخانع، وكيف تنجح في سياسة التهميش وما إليها من أدران عادت بالمدينة إلى ما وراء التخلف قرونا. اننا لا زلنا نفتقر الى مهرجان جاد يلملم جروحنا ويواكب الحياه ,ليكون اكثر فاعليه وعطاء . الناظور كانت مدينة هادئة فأصبحتْ غولا يلتهم الداخل إليها قبل الساكن فيها . المقهى جامعة شعبية المقهى لم تعد فقط تسلية للمهمومين و واحة للعابرين . بل أصبحت تشكل نوعاً من العلاقة والتواصل بين أفراد المجتمع ، فنادراً ما تجد شخصاً يجلس في مقهى لوحده منفرداً , فالمقاهي أصبحت أكثر من مجرد مقاهٍ لتناول الفطور... هي اليوم أخبار المدينة ومستجداتها ,هي أوراق تاريخ ودفاتر محاكم و مناهج اجتماع ومراجع سياسة وكتب آداب ومؤشرات اقتصاد ، ونتائج مباريات كرة القدم و..و..و المقهى هناك اصبح يشبه جامعة شعبية ! مكان صار في زمننا الراهن أكثر ألفة وأكثر عددا أصبح لها وظائف أخرى غير التي اعتدناها فيها . هناك يدبرالانسان حياته اليومية ويضع مشروعاته المستقبلية ,يشتري وببيع , يتزوج يطلق ,و يؤسس صداقات ويخطط لطموحات. هناك تنشأ جمعيات وتنظيمات وتيارات ,توضع أحلام وتولد أفكار و أقلام وتتخذ مبادرات وقرارات .. أصبحت المقهى مكتبا ومنزلا مضاعفا للفرد منا .. وبين المقهى هنا والمقهى هناك تختفي الأوجه والحكايات والاشياء الجميلة.. في المقاهي هنا, كثيرة هي المشاهد وقليلة هي الكلمات, فلا يجد المرء منا الا أن يشرب قهوته صامتا ويمضي في صمت, لان لطعم القهوة هناك نكهة خاصة ورائحتها تفوق كل الروائح , خواطر تعصف عبق الماضي في ذاكرتي عصفاً جميلا... ذقت غير طعمها الكثير ولكن...كيف أهرب منها وأنا أرفض غيرها ... عبق الماضي أقول هذا, لأننا في بعض الأحيان نحتاج لبعض عبق الماضي للذكرى وربما للتوثيق... كما للعشق والاستمرار . !!!