وفتحت عيني. تأكدت أني كنت أحلم. وسمعت أقدام زوجتي تدب في الحمام.. و رشيش الماء يدل على أن المؤذن كرر أكثر من مرة "حي على الفلاح " و زوجتي تريد الفلاح وأن أقاسمها هذا الفلاح. ولكني أفضل تحتفظ به لنفسها. ومع ذلك نهضت، تحركت...ضغطت على زر الساعة التي سترن بعد ساعة...اتجهت إلى النافدة وأزحت الستارة لأرى السماء...السماء التي تغشاها غلالة من حرير قرمزي و ما تزال تراقب الأشباح وترى الأرواح تتوادع. في لحظة هي الفجر، بين الليل و الصبح: لحظة تلتقي فيها كل الأزمان والأرواح، قبل أن ترتفع الشمس و تعيد عربة الوقت إلى مسلكها... مسلك الأجساد... رأتني زوجتي أرنو إلى السماء.قالت وهي ترفع سبابتها بالتشهد : -أراك نهضت باكرا...هل ستذهب للعمل هذا اليوم.؟ التفت إليها ولم أرإلا شبحا: - العمل يبدأ بعد غد... و تحركت إلى غرفتي وعدت إلى الفراش...أراجع أحلامي وكوابيسي. ووجدت من غير المجدي أن أفسر ما رأيت أو أن أؤوله مادام التفسير يرجعني إلى أحوال الناس الذي أعرفهم و التأويل يحيلني إلى ما اختزنته من ميراث الروح و الأجداد...وأبيت إلا أن أشغل مخيلتي... استعدت صور الوجوه الزرقاء التي ادعيت أني أعرفها فوجدتها مخلوقات تغير أشكالها تستبدل أطرافا بأطراف وجوها بوجوه وإسما بإسم ونسبا بنسب وقامة بقامة. حتى صار كل فرد أشخاصا و الأشخاص فردا. قلت: هكذا الناس في هذا الزمن، وربما كنت واحدا منهم! انزعجت من نفسي وأسرعت إلى الحمام.أضأت المكان و حدقت في المرآة: هذا أنا حماد الصالح ما زال رأسي كما عهدته، وإسمي الذي أحفظه ليس لي اسم غيره. على الأقل في هذا الوقت وهذا المكان... ورجعت إلى غرفة نومي، لبست ثيابي تأملت هندامي بالمرآة، دخلت غرفة المكتب وتناولت دفترا و كتابا وقررت مغادرة البيت والتجوال بشوارع المدينة الخالية في مثل هذا الوقت. استقبلني الشارع البارد وعشرات قطط وكلاب تتنازع وتتحارش حول براميل القمامة... هذا وقتها التي تكون فيه سيدة الشارع قبل أن يبدأ الناس في المرور.. فتشرع في لعبة الهروب والظهور والاختفاء... انتقلت إلى شارع آخر، صادفت رجلا يتبول على جذع أول شجرة في الشارع... يحمل كيسا بلاستيكيا أسود جمع فيه ما وجده في براميل الزبالة ولا شك، لم يعبأ بي ... لا يخجل أن ينظر إليه من يمر حتى يتأكد أنه رجل، لم يحظ مني بأي نظرة فضول ولم أجد له إلا صفة رجل عجوز متهدم طحنه الزمن وعانده الوقت. عذرته ما دامت المدينة التي سميت بالرباط لا توجد بها مراحيض... وتفوح كل صباح بروائح العطانة... إنها مدينتي الآن بعد مدن أخرى تعرفني أكثر مما أعرفها؛ أسواقها، مقاهيها، مقرات وبنايات الإدارات والكلية والنقابة والحزب والوزارات انطبعت عليها أشباحي وتذكرني بأني حقا" حماد الصالح"... وحين تبحث عني تجدني أكثر الأحيان بمقهى من مقاهي شارع محمد الخامس أو شارع علال بن عبد الله أنتظر شيء ما وأحلم بمدن أخرى. التفت إلى الخلف.. رميت نظرة إلى آخر الشارع. لمحت الرجل العجوز ما زال يتبول... أشفقت عليه واستدرت خطوة خطوة فتعثرت، كدت أسقط عند أول مفترق طرق. خيل إلي أن العجوز ربما يضحك، ربما أيضا جمهور مسرح محمد الخامس القريب، الذي تنصب بنايته في عزلته وصمته خلف السياج الحديدي، ولسان الحالة يخبر بأن الحياة مسرحية خارج المسرح وبعيدة عن خشبته وكواليسه، وأن مايتم داخل المسرح كذب وبهتان وخطب فارغة بطعم الدخان ورائحته. قطعت أكثر من ملتقى طريق، اقتربت إلى محطة القطار، بشر كثيرون يخرجون، يأتون من مدن أخرى إلى العاصمة. نزلت شارع محمد الخامس، لم يعد الشارع خاليا.المتاجر ما تزال مغلوقة والمقاهي فتحت أبوابها وكل نادل يرنو إلى الباب... وكل له بابه، وباب مقهاي في الشارع الآخر... دخلت المقهى.استقبلني النادل بابتسامة ترحيب تعودت أن أراها على وجهه: -أهلا جئت يا أستاذ باكرا هذا اليوم!! لم يكن بالمقهى إلا رجل وإمرأة و بينهما حقيبة سفر، أجبت: كما ترى ليس هناك أماكن مفتوحة بالرباط غير المقاهي ثم كمن يتذكر شيئا، وهو يضع كفه علي جبهته: -أمس سأل عنك الأستاذ سعيد... -الم يقل لك لماذا سأل؟؟ -سأل فقط عنك. و انزويت في الركن المعتاد، منتظرا أن يأتي بما أطلبه عادة. نشرت صفحات الدفتر. وصرت أفكر في كتابة بعض فقرات الرواية، حكاياتها التي لم تكتمل، شرعت أكتب...فقرات بشكل شذرات، وبشكل حوار وبشكل مناجاة، وبشكل وصف... كلت يدي وبدا القلم يتعثر، فطنت بأني قد أتيت على ما آتاني به النادل بلا وعي وأن فنجان القهوة الفارغ لم يكن له طعم. أخذت نفسا...طلبت كأس قهوة أخرى وملت بظهري إلى الخلف، أشعرني الكرسي بأنه حضن امرأة عجفاء وقالت نفسي: "لقد قضيت ساعتين و أنت تكتب...ألا يكفي " قلت: يكفي، لكني لا أعرف ماذا أصنع...فالوقت لم يتجاوز العاشرة صباحا.نعم ...يمكنني أن أستريح ثم اقرأ فعلا من الكتاب الذي حملته معي جاء النادل ووضع فنجان القهوة، رفع ما جاء به أول الصباح واتجه إلى زبون أخر بين زبناء انتشروا و توزعوا على الطاولات و انغمروا في ثرثرات وقراءة صحف...وفتحت الكتاب " تاريخ فلسفة الروح... " xxxxxxxxxx كل تفكير في الروح سيظل فلسفة ميتافيزيقية. لن تصل إلى يقين، وسيظل الفكر باسم العقل يفترض ويفترض ثم يلجأ إلى الاعتراف بقصوره ويسلم بأن المعقول، كل المعقول، هو هذا العالم الممتد إلى ما نهاية. أوله مجهول وآخره مجهول وبين الجهل والجهل حركة الأشياء وتغير الطبيعة وتبدل الأحياء بين الولادة والموت. ولاحقيقة إلا أن الموت يمحو كل ما هو حي... لكن الحي الذي يفكر ويحلم ويتخيل يريد أن يتغلب على الموت بأن يفسر ما يقع في العالم ويستنتج أن منطق الحياة يتنافى مع الموت... وأن الذي يجعل الكائن الحي حيا يستحيل أن يسلط الموت على ما في الحي من روح. لأن الروح هي أساس الحياة التي تكون قبل وبعد أي كائن حي، كل ما في الأمر أن الروح تتجدد من خلال تجدد وتكاثر الأحياء.... فالروح لكونها روحا لا تتنافى مع الموت، ولكن تتنافى مع العدم. والموت ليس عدما، إنه إلغاء للعدم....... كل الديانات ليست إلا تحديا للموت وانتصارا للحياة والأبدية وتدعو الإنسان لكي يؤمن بأن الموت ليس نهاية للحياة، الحياة التي تبعث الروح في الوجود وتتوزع على الكائنات والطبيعة من أنهار وجبال ونبات وحيوانات وبشر... كل يصنع له إلاها... ويقترح طقوسا لكي يقهر فكرة الموت ويطمئن نفسه بأن لحياته معنى ولوجوده وجودا آخر... ويزيد أحيانا بأن يراقب الذين لا يقدسون الحياة بأبدية الجحيم ضد العدم... ودائما في حظيرة الروح الأصل.... xxxxxxxxxx توقفت عن القراءة ... وقد شعرت بشخص ما يقف على رأسي، رفعت إليه نظري، اندهشت، رأيت الزميل هزام بشباش ... قال متلطفا وبثقة نفس: -هل أنت مشغول؟ وجلس قبالتي، عاجلته بسؤال: - هذه أول مرة أراك بالمقهى... وهذه أول مرة تفاجئني بزيارتي هنا مع أنك لا ترد حتى السلام حين نلتقي؟! وبدا أنه يستوي على كرسي قبل أن يشرع في تقديم درس ديني.قال: قال:عفا الله على ما سلف. أنت تعرف...نحن نشتغل في كلية واحدة ولكن كل واحد منا سيعمل في شعبة واختصاص...وكل له اهتمامات ومشاغل... قلت معاتبا بعد أن تمعنت في وجهه وهندامه، وتيقنت انه حريص دائما أن يكون أصغر من سن كهولته: -لكن نحن نسكن في شارع واحد؛ عمارتك أراها من نافذة شقتي. ومرارا نلتقي في بهو الكلية و ممراتها!! ولزم الصمت...وحرك يده في اتجاه النادل الذي تلقى منه أمرا:"جب واحد كاس ماء".ارتد النادل على عقبيه متباطئا و كأنه يود آن يحتج... واجهت هزام وسألته متعمدا إحراجه حتى لا تطول الجلسة: - لعل أمرا خطيرا جعلك تقتحم علي جلستي؟ ماذا هناك؟ ابتسم ابتسامة ذئب يريد أن يخفي أنيابه. ورفع أنفه ليبدو بمظهر الرجل الرزين، الحكيم، المؤدب...الذي يتحكم في الكلمات وينطقها نطقا يساوي قدر قيمته: - تعرف أخي أن واجب المسلم على المسلم هو النصيحة.أليس كذلك؟و أنت تعرف قاطعته: - من قال لك بأني أرى ذلك واجبا!! نظر إلي نظرة من تلقى صفعة وقال بنبرة متحدية: -من واجب المسلم أن يقوي جماعة المسلمين والنصيحة والمشاورة و... مرة أخرى قاطعته: - و من خول لك أن تتحدث باسم جماعة المسلمين.ومن قال لك أني من الجماعة هذه؟؟ -ألست مسلما.... سأل باستغراب: وهززت رأسي كأني أجد نفسي متورطا في حوار مع أحمق.قلت: - وهل تشك؟؟ أنا مسلم بيني وبين نفسي لا برغبتك و لا رغبة غيرك... -الحمد لله. قاطعته لأزيده حرجا: -لكني أيضا مسيحي ويهودي وبوذي وسني وشيعي. اندهش وكاد أن يسأل فسبقته: هل جئت لتعطيني دروسا؟ ماذا تريد؟ قل ما عندك! وهم بأن يتحول إلي مهاجم يدافع عن ملة من الملل. ارتبك ثم قرر استئناف مراوغتي ثانية: -أخي حماد..والله إني أحترمك و أشكرك أمام الملأ، لكنك تجافيني و كلامك معي فيه قسوة. وللأسف اعتقدت أني من الممكن أن أحاورك وأن أدعوك إلي الانضمام إلى جماعتنا الصوفية المحمدية...كثيرون اقترحوا علي أن أتصل بك لهذا الغرض. انفجرت ضاحكا: -أي جماعة.. جماعة الذين يمارسون الجنس بطريقة رمزية، بل عملية خبيثة، دوافعهم إشباع اللذة ولو بمناكحة الهواء واشطح و يكذبون على الله والعباذ.. قال غاضبا: -أستغفر الله أنا لا أقبل مثل هذا التجريح! -ألست أنت مثالا؟ ألا يضرب بك أصحابك المثال؟ قل لي لماذا تكره الطالبات على ممارسة الجنس؟؟ لم تجعلهن يزرنك في شقتك؟ لم تتحرش بالنساء في شوارع الرباط من داخل سيارتك؟؟؟ هل أكذب عيني!!.. قام قبل أن تأتي إليه كأس الماء، دفع الكرسي بقوة، عاجلته، - إذا كنت ترغب أن أشاركك النشاط إياه...نعم لا مانع لدي!!! وغادر المقهى هاربا بنفسه تاركا كأس الماء في يد النادل، الذي رآني أبتسم ساخرا وأكاد أنفجر ضحكا، جاء ووضع الكأس أمامي، سألته: -هل يستحق هذا الماء أن أشربه ورفعه وغمز: -آتيك بكأس نظيفة وبماء بارد .. كما تحب !!! - أغلقت الكتاب ووضعته على الدفتر. قلت: حقا "وجعلنا من الماء كل شيء حي وجعلنا كل حي حيا وكلمة من كلمات الروح ". ودلقت الماء في حلقي. وقمت مغادرا المقهى إلى سوق باب السويقة لأشتري ما يحتاج إليه البيت ... يتبع