رن منبه الهاتف النقال حوالي الساعة الخامسة صباحا، فأفقت من نومي. كنت في غرفة بالطابق الثالث من فندق باليما. السرير محاذ لنافذة البلكون الطولية. أزحت جنب الستارة قليلا، وأطللت من خلف تثاؤب ثقيل على الخارج. ألفيت صباحا جميلا في الشارعين الكبيرين والحديقة الوسطى بينهما بجانب بناية البرلمان الرابضة في نوم صباحي هادئ. كان من الضروري أن أتجه إلى محطة القطار القريبة كي أسافر لغرض شخصي، وأعود عند نهاية الظهيرة. هذا ما كان مقررا في البداية، بشكل عاد وروتيني كما يحدث آلاف المرات لكل شخص. سواء كان سويا أم لا، فذلك ليس مما قد يثير أدنى شك أو نضطر لافتعال ريب خاص حوله. لكن الحقيقة هي أنني لا أدري، لحد الساعة، هل سافرت حقا أم لا؟ وهل قضيت غرضي فعلا؟ المهم، وهذا ما راعني، هو أنني رأيت رجلا، في ذلك الصباح الذي راعني جماله، يحمل حقيبة صغيرة بنية في ملكيتي، ويلبس سترة شبيهة بتلك التي أرتدي عادة وهو يخطو بسرعة حثيثة نحو الباب المحطة. شاهدته يذرع الشارع لكنني لا أدعي الآن أنني كنت الشخص عينه لحظتها، لأنني كنت في الغرفة أطل من خلف زجاج وطرف الستارة ما يزال بين يدي اليسرى، كما لو كنت أرى من شق في حائط ذات يوم غائم. تصورت الحادث، بعد ذلك، وأنا مستلق داخل دفء الأغطية وعيناي تراقباني وأنا أخطو. وقد دام الأمر وقتا ليس بالقليل. إلا أن الأكيد أنني سافرت حقا. وأن غرضي قُضي. وأنني عدت. لكني لا أجزم أني غادرت الغرفة. وحينما أُضطر للتذكر على سبيل التحقق، تعود إلى مشاهد لمقطورة ووشوشات مسافرين ونزول في محطات وصعود، وباعة الماء والسندويتش، ومشاهد حقول ومراعي ودواب، وأطفال يشيرون نحو القطار بالأيدي أو بالأحجار، وأحاسيس ترقب وتوتر كي لا أنسى أنني على سفر، وأن علي أن أصل في المواعيد المقررة للغرض وللذهاب والإياب، وأتذكر خاصة مشاهد وجوه نساء وفتيات كن يقابلنني في المقاعد المواجهة لي أو في الممرات الجانبية. وأيضا تمرق في ذاكرتي قطرات مطر خفيفة كانت تنزلق من على زجاج النوافذ في لحظات ما. أتذكر كل هذا، وأشعر أنها مشاهد حية، تظهر وتبدو ثم تختفي، مثل تسجيل سابق ينتهي ليبدأ من جديد، ليس تماما بنفس الوتيرة والترتيب، لكنها ذات الملمح الموحد في زمنه وحاله. تذكر كأي تذكر. لكن تذكر حوادث ما بعد معايشتها لا يضمن التطابق التام بين الأمرين، ولو مرت عليها ساعات قليلة لا غير. هذا ما خلق تساؤلات صغيرة مزعجة في ذهني، يجملها أخيرا السؤال الكبير: أين كنت إذن؟ لم أجد جوابا مقنعا، ولا حتى ما قد أستطيع أن أنسى به ما بصدده. لما أعياني التفكير والتذكر المضني المريب، نهضت من سريري متثاقلا ومتهاديا تحت وطأة عدم الفهم مثل ملاكم تلقى ضربة غير منتظرة أسفل الفك. فتحت باب الغرفة، واستقبلني الممر الوسطي الهادئ البارد. استرعى انتباهي خلوه من الصحون والأحذية أمام الغرف مما كثف من اندهاشي، فقد انضافت إلى مشاهد القطار والسفر. كان الممر منظفا، وإذن فقد مرت عاملة التنظيف، وأنا لا بد كنتُ خرجتُ وعدتُ. لكن غرفتي ما تزال على حالها كما بالأمس، غير مرتبة ولم تُمَس، وكل آثار حياة ليل سابق ما تزال منتشرة وحاضرة. أوراق مكرمشة، صفحات جرائد ملقاة كيفما اتفق، قناني منتحرة في الزوايا وأسفل الطاولة، وتبان وقميص ملطخ الياقة.. كل أشياء ساكن فندق. غريب ! ولما شعرت ببداية الأسئلة، حركت ذراعيّ معا كمن ينفض عبئا، ويتخلص من شيء وهمي يحول دونه والهدوء أو المرور. وأسرعت جهة الدرج الخلفي، وناديت على عاملة التنظيف بالطابق في شيء من الصراخ. من قبل كنت قد تعودت ملاطفتها قليلا بالكلام الخفيف وبعض النكت العابرة. أطلت من غرفة المخزن برأسها الملفوف في منديل سماوي وقد بدت لي غير مندهشة لرؤيتي. صباح الخير أستاذ ف. لم تتعود مناداتي صارخا يا أستاذ ! تلقفت كلامها في العمق، وصمت لحظة مداريا إحراجي. ثم سألتها: لماذا لم تقومي بترتيب سريري وحمامي؟ اندهشت بدورها، وسكتت لحظة وهي لا تفتأ تحدق في بعينين دائريتين كأنها فوجئت وأخذت على حين غرة. بعد هنيهة صغيرة أجابتني. لقد فتحت الباب حوالي العاشرة صباحا كالعادة، ثم ماذا؟ رأيتك نائما فلم أرد أن أوقظك. ..... لم أشك لحظة أنك كنت تود أن تستمر في النوم، فخرجت بصمت. ألم أضع بطاقة عدم الإزعاج في مقبض الباب؟ لا أبدا. وهذا ما جعلني أدخل غرفتك في الحقيقة، كالعادة. تفكرت قليلا، وعادت الأسئلة تقض ذاكرتي من جديد. إذن كنت في الغرفة نائما، وهذه المرأة البسيطة ليس لها أي داع للكذب أو المداراة. حل الصمت بيننا. نظرت إلي، وأنا كنت مطرقا، معقود الجبهة، وقد انتصب أمام ناظري الرجل بالحقيبة وأصوات القطار.. الرجل الذي «يرتديني» على ما يلوح أمرا أكيدا. مرت لحظة قبل أن أسمع المرأة تقول لي: هل حدث شيء ما في الغرفة يا أستاذ؟ لم أعهدك هكذا ! لم أجب، ثم والمشاهد السالفة تتراءى لي وأنا أراني، طفرت فكرة تبدت أنها لا محالة هي حل معضلتي. التفت وسألتها مؤكدا على كل حرف وكلمة حتى تترسخ في ذهنها كي لا تحيد عن أي تركيز، وتشعر بأنني جاد في سؤالي. وهل رأيت وجهي؟ قفزت من مكانها كمن لُسع، أو تم اكتشافه وهو يقوم بشيء محرم، أو من مُس في كرامته. كيف تقول هذا يا أستاذ ! لم أقصد .. لكني أريد أن أعرف فقط.. لا طبعا، فأنا لست متلصصة يا سيدي. كنت على السرير نائما.. أمتأكدة أنه أنا؟ اضطربت قليلا ولم ترد في الحال، لكنها استدركت قائلة: كان هناك على السرير شكل أدمي حقيقي ملفوف في الأغطية، لا يمكن أن يكون سوى أنت لا غيرك.... أفحمني الجواب، واعتذرت لها وعدت على أعقابي نحو الغرفة. نعم بالفعل، أنا الوحيد الذي يقطن بالغرفة منذ سنوات طويلة. أجبت نفسي. لكن أين كنت إذن هذا الصباح؟