يتجدد الموعد السنوي لافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان ومعها يتجدد طرح مجموعة من الأسئلة المرتبطة بمدى انضباط والتزام ممثلي الأمة داخل الأحزاب التي نالوا أصوات ناخبيهم باسمها، ونصبح بذلك أمام مشهد سوريالي بطله برلمانيون يحتمون بحرية انتمائهم داخل مجلسي البرلمان، وأن تلكم التزكيات الحزبية التي ترشحوا بواسطتها ذات يوم، لا تلزمهم في شيء، وللقضاء قول في النازلة.. وتضع هذه الظاهرة الأمناء العامين للأحزاب السياسية ورؤساء فرقهم في وضع لا يحسدون عليه، وتراهم في حملة شد وجر مع بعض برلمانييهم الذين يمارسون كل أنواع «الشانطاج» لأحزابهم وفرقهم، ولا يرون في صفتهم تلك غير مظهر من المظاهر الاجتماعية التي توجب عليهم الوجود وسط وجوه متنفدة يعتقدون أنها تتوفر على كل «مفاتيح الرزق» غير عابئين بالأمانة الملقاة على عاتقهم. إن الأمانة من الصفات الأساسية الواجب توفرها في البرلماني، والبرلماني الأمين هو الذي يمارس وظيفته البرلمانية المقيدة بالاتفاق المبرم أخلاقيا وسياسيا بينه وبين ناخبيه عبر القناة الحزبية التي ترشح باسمها والتي سعى ذات يوم جادا للحصول عليها، وإن أي تنصل من هذا الاتفاق، فيه إخلال بتلكم الأمانة. وقد استند البعض على قراءة مغلوطة لبعض مواد قانون الأحزاب السياسية للاستمرار في الإساءة لقدسية الأمانة الملقاة على عاتق ممثلي الأمة والشعب، وهي قراءة مردود عليها بالنظر للوضوح التام للمادة 5 من هذا القانون وللفلسفة التي تقوم عليها. إن السبب في هذا الوضع، حسب رأيي، هو ما تنص عليه مقتضيات النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان التي تفرض على رؤساء الفرق الدخول إجباريا في هذه المعركة البئيسة سنويا بالنسبة لمجلس النواب (المادة 25) ومرة كل ثلاث سنوات بالنسبة لمجلس المستشارين (المادة 43) مع الأفضلية النسبية للنظام المطبق في هذا الأخير. إضافة إلى ذلك، فإن الدور المنوط بالفرق البرلمانية كأدوات لتنظيم النقاش البرلماني والحضور الوازن في الجلسات العامة وكونهما ممرا إلى التمثيلية على مستوى مكتبي المجلسين واللجان بهما والمشاركة في تحركات الدبلوماسية البرلمانية، يجعلان الصراع محموما بين الفرق للحصول على مراتب متقدمة، لأن الترتيب بينها يبنى على عدد أعضائها ولو كان ذلك على حساب القيم السياسية النبيلة واستقرار المؤسسات. ونعتقد أن السبيل لتجاوز هذا الوضع هو الاحتكام إلى الترتيب السياسي الذي تفرزه الانتخابات والنتائج التي يحصل عليها كل حزب أو تحالف حزبي عند بداية الولاية التشريعية بالنسبة لمجلس النواب، وعند كل تجديد للثلث بالنسبة لمجلس المستشارين، ويتم الاكتفاء ببيان التوقيعات التي تمت على لوائح الفرق في المناسبتين وعدم الاجترار الروتيني لهذه العملية كل مرة، والاكتفاء بما تنص عليه المادة 27 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادة 44 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين، وهاتان المادتان تلزمان إبلاغ رئاستي المجلسين بكل تغيير قد يطرأ على بنية الفرق ما دام القضاء الدستوري ذاته يضمن للبرلمانيين حرية الانتساب داخل البرلمان. إن الظاهرة تنذر بالعبث بالمؤسسة البرلمانية كمؤسسة دستورية وباستقرارها، وبثقة المواطنين التي تبذل الأحزاب السياسية قصارى جهودها لنيلها والحفاظ عليها. ونعتقد أن الوقت حان لإقرار مجموعة القواعد التي تضمن للفرق البرلمانية استقرارها، ويختصر عليها الكثير من الجهود التي تبدل في تجميع توقيعات أعضائها، ويقطع الطريق على الذين يستغلون حرية الانتساب للفرق داخل البرلمان لغايات لا ترتبط دائما بالقناعات السياسية ولخدمة أهداف دنيئة، ومن شأن ذلك أن ينزه المؤسسة التشريعية عن العبث ويحفظها من الارتباك الذي تكرر في أكثر من مناسبة، ويمكنها من مباشرة أشغالها في جو من الانضباط والمسؤولية، سعيا لترشيد الزمن البرلماني وعقلنته، وترقية أداء المؤسسة والسمو بمردوديتها.. وفي هذا السياق، فإن الاستئناس بتجارب الدول العريقة ديمقراطيا في هذا الباب لن يكون إلا إيجابيا بالنسبة لبلادنا التي ما زالت تؤسس لبناء ديمقراطي نطمح أن يتم فيه تشديد الخناق على ظاهرة الترحال السياسي، ويقطع الطريق على العابثين على مختلف درجات التمثيلية بثقة الناخبين وباستقرار مؤسسات البلاد وما تشكله من خطر على ثقة المواطنين في العمل السياسي وجدواه. ونأمل أيضا أن يتم إعادة النظر في نمط الاقتراع المعتمد حاليا لانتخاب أعضاء مجلسي البرلمان لاسيما ونحن على مشارف فتح النقاش على مشاريع القوانين التي تهم الحقل السياسي باعتماد دوائر أكثر اتساعا مما هو عليه الحال اليوم، ويمكن من خلال قراءة بسيطة في تجربة اللائحة الوطنية المخصصة للنساء أن نقول إن نمط اقتراع على مستوى دوائر وطنية أعطى أكله، ولم نسجل إلا حالات ترحال محدودة في صفوف النساء البرلمانيات منذ اعتماد هذا النمط سنة 2002، الشيء الذي يعطي الإشارة على أن نمط اقتراع على مستوى دوائر انتخابية واسعة قد يكون أحد السبل لاستقرار بنيات الفرق البرلمانية. بهذا نعيد للمؤسسات التمثيلية (برلمان/جماعات) جزء من البريق الذي افتقدته، ونمكنها من أدوات سياسية لتكون في مستوى انتظارات الشعب، وهو ما يجب التداول فيه بالجدية الواجبة. عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية