تشكل طرق التعامل مع الطعام نسقا منظما في كل ثقافة من الثقافات، ولغة تنقل المعاني من خلال بنيتها ومكوناتها، وتسهم في تنظيم العالم الطبيعي والاجتماعي. ذلك أن الطعام ليس مجرد مجموعة من المنتجات يمكن استخدامها في الدراسات الإحصائية أو الغذائية بل تعد مجال أولي لنقل المعنى، لأن تناول الطعام نشاط سياسي يتكرر باستمرار. كما يؤدي وظيفته بشكل فعال بوصفه نسقا من أنساق التواصل، لأن الناس من جميع أنحاء العالم ينظمون طرق تعاملهم مع الطعام في نسق يخضع لنظام مواز للأنساق الثقافية الأخرى ويبث فيها المعنى. في هذا السياق، كان الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس قد أكد على أن الطعام والمطبخ يقفان بين الطبيعة والثقافة ويتوسطان بينهما، وأنهما يعدان وسيلة من وسائل التعبير عن الغنى الثقافي والاجتماعي، ومؤشرا على التحولات السوسيوتاريخية، الأمر الذي دعا المؤرخة الفرنسية بريجيت مارينو في كتابها المهم «حي الميدان» إلى أن تولي اهتماما كبيرا بهذه النقطة، أثناء تتبعها لتاريخ الديناميات الاجتماعية التي أخذ يشهدها المجال العام الدمشقي في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، عبر دراسة مستفيضة لسجلات المحاكم الشرعية الخاصة بتلك الفترة. حيث تبين لها من خلال الحفر في هذه السجلات أن نسبة ضئيلة من بيوتات حي الميدان كانت تضم حجرا للطبخ في بدايات القرن الثامن عشر، الأمر الذي فسرته- بدورها- باعتباره يشير للخلفية الريفية لقسم كبير من سكان ذلك الحي في تلك الفترة، بحكم الهجرات التي حدثت من سهل حوران تجاه أطراف مدينة دمشق، بينما لاحظت ارتفاع نسبة هذه الحجر في بدايات القرن التاسع عشر، الأمر الذي كان يؤشر الى بروز تمظهرات ثقافية جديدة ذات طابع مديني داخل الحي، والى تبدلات عميقة على صعيد الاقتصاد السياسي للمدينة، نتيجة لولادة نخب تجارية ودينية جديدة من أبناء حي الميدان، أخذت تزاحم النخب الدمشقية السابقة على مواقعها الإدارية والدينية، و التي كان يتمركز ثقلها داخل فضاءات المدينة القديمة (داخل الأسوار). ولذلك بات الطعام يمثل بحسب الدراسات الأنثروبولوجية مرونة رمزية ثرية غير معتادة، فهو وسيط يمكن من خلاله عرض أيديولوجيات ثقافية شديدة التنوع وتتكون قواعد التعامل معه وفق تعبير غرامشي من «لغة» تحتوي على مفهوم محدد للعالم. ومن هنا سنسعى في هذه المقالة الى الإحاطة ببعض الجهود المهمة والنادرة التي أنجزت في السنوات القليلة الماضية حيال التاريخ الثقافي للطعام داخل الفضاءات الاجتماعية العربية، والتي لم تعد مخبرا ثقافيا للدارسين الغربيين فقط، وإنما أخذت تشمل جهود باحثين أنثروبولوجيين محليين أو «أصليين» حسب تعبير الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق، الأمر الذي قد يحفز القراء على مزيد من التفكير في أن الطهي، وتناول الطعام (وهي أنشطة كثيرا ما نأخذها أمرا مسلما به) باتت تحدد هوياتنا وعلاقتنا في هذا العالم. ويرى سامي زبيدة في الكتاب الذي حرره قبل سنوات مع الباحث الأنثروبولوجي ريتشارد تابر وتمت ترجمته للعربية تحت عنوان «مذاق الزعتر: ثقافة الطهي في الشرق الأوسط»، أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة حيال الحدود الاجتماعية، فقبل ظهور القوميات السياسية بمعناها الحديث، كانت هذه الحدود هي التي تميز بين الجماعات العرقية أو الدينية أو الجهوية. المهم أن ما يلفت النظر في رؤية زبيدة، أن هذا التمييز عاد في العقود الماضية ليغدو معبرا عن أزمة الهوية داخل الدول الشرق الأوسطية الحديثة بشكل عام. وهو الأمر الذي تنبهت له الباحثة الأنتربولوجية السعودية مي يماني في كتابها «مهد الإسلام: البحث عن الهوية الحجازية» الذي سعت من خلاله إلى تتبع تزايد شعور الحجازيين بالانتماء المحلي الذي أخذ يتعزز أكثر فأكثر في التسعينات نتيجة للعولمة من ناحية، وتقهقر الهوية السعودية من ناحية أخرى. فعلى مر القرون، جذب الحج إلى مكة مسلمين من مختلف الثقافات، مما أخضع نمط عيشهم وعاداتهم الغذائية لتأثير الثقافات الأخرى، بحكم أنها نقطة التقاء لحركات الشعوب عبر العالم الإسلامي، وموقعا للتبادل الثقافي الغني، خاصة في مجال الطعام، الأمر الذي أدى إلى تميز المطبخ الحجازي عن المطبخ النجدي البدوي. بيد أن غياب وهج الحجاز مع تزايد سلطة ونفوذ جيل جديد من الخبراء النجديين الذين يهيمنون اليوم على أعلى المراكز في الحياة العملية والإدارية والدينية والعسكرية في المملكة، أدى إلى جانب الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية في إخفاق الحوار والمناظرات الاجتماعية، إلى خلق شعور بالخوف واليأس لدى الحجازيين. وفي ظل هذا الجو تحديدا، برزت ظاهرة العودة إلى الطقوس والرموز التي تؤكد تميز الهوية الحجازية وخصوصيتها، وهو ما برز على مستوى عادات الطعام، عبر التأكيد على أهمية المطبخ الحجازي كمؤشر حضاري ومدني لمكانة العائلة الحجازية وللخصوصية الثقافية الحجازية المشتركة التي أخذت تتعزز بشكل كبير أثناء مرحلة القبلنة التنافسية، خاصة بالنسبة إلى الحجازيين الذين يدعون التحدر من أصول مكية أو مدنية. ولذلك أخذت طريقة طهو الطعام- برأي يماني- وتقديمه وتناوله تساهم في تعزيز حس بعض الجماعات بالهوية الحجازية الواحدة، وسط قوم يزدادون وعيا لتلك العوامل الثقافية التي تفرق بين إفراده، كما باتت كمؤشر للمكانة الاجتماعية الحضرية على مستوى تاريخ السعودية، وخاصة أن الفورة النفطية كانت بمثابة أداة للتساوي الاجتماعي، ما دفع الحجازيين إلى التقاليد من أجل تمييز أنفسهم على المستوى الثقافي بسبب الهامشية التي باتوا يشعرون بها تجاه الثقافة النجدية السائدة في أروقة السلطة، الأمر الذي بدا بشكل واضح في تغير الهندسة الذوقية للمأدبة، من خلال التشديد على النوعية (ثقافية، حجازية) أكثر منها على الكمية (نجدية، فقيرة على مستوى التنوع)، فإذا كان طبق ما يعتبر «مكيا» أصيلا، يتم إبرازه في المأدبة الزاخرة بأشكال متعددة حتى ولو كان شعبيا ورخيصا، بحيث يدل على تنوع ثقافة الحجازيين . من جانب آخر، حاولت الباحثة الهولندية انوك دي كونينغ في كتابها «أحلام عولمية: الطبقة والجندر والفضاء العام في القاهرة الكوزموبوليتانية» البحث في جغرافية الترفيه الراقي في القاهرة حيثما يتواجد المهنيون من الطبقة الوسطى العليا، والتي أخذت تروج لنمط جديد من الأطعمة مع نهاية التسعينات في القاهرة، عبر تقديم لوائح طعام غربي مثل سلطة سيزر وشطائر كلوب ساندويتش. فقد أخذت محال ال «كوفي شوب» والمطاعم الجديدة تنطوي على ادعاء بالانتماء إلى العالم الأول. فتصميمها وقوائم الطعام فيها اتخذت من نظائرها في أمريكا نموذجا لها، وبذلك أصبح الذهاب إلى مطعم مثل تشيللر خبرة جسدية حميمة تشير إلى انتماء للطبقة الوسطى العليا، كما أخذت هذه المطاعم والكافيات تعيد رسم خرائط المتعة والاسترخاء وخطوط السير الحضرية التي تتأسس على هذه الخرائط. ومن هنا أصبح الفول والطعمية، وهما طعام الإفطار للأغلبية الساحقة من المصريين يوميا، مجرد «إفطار شرقي»، بعكس المطاعم الجديدة التي باتت تقدم عبر قائمة الطعام الجديدة نوعا جديدا من رأس المال الثقافي الذي يسهل الوصول إليه. وضمن نفس السياق، تقدم الباحثة مقارنة غنية للغاية بين هذه الجماعات الذوقية الجديدة عابرة الحدود، وبين رؤية الأنثروبولوجي البريطاني بندكت أندرسن للجماعات المتخيلة. حيث يرى الأخير أن المجتمعات المتخيلة تتخلق عبر اختلاط الخرافة بالحقيقة، فيما تؤمن الحياة اليومية الدليل على التحقق الفعلي للمجتمع. ولذلك تؤمن الكوفي شوب والمطاعم الجديدة مادة غزيرة لمثل هذا التحقق من حيث أنها ترحب بجمهور حصري نسبيا لديه رأس مال كوزموبوليتاني في أجواء غالبا ما تكون كوزموبوليتانية على نحو صارخ. وقد ساعدت الحياة اليومية المنعزلة اجتماعيا التي يعيشها كثير من أفراد الطبقة المتوسطة العليا، على نحو مماثل، في تأكيد القبول بأساليب الحياة والرغائب والتوقعات الخاصة بالطبقة المتوسطة العليا كشيء طبيعي يجري تأمينه بالانغلاق الاجتماعي، عبر خلق حواجز مادية وثقافية تضمن الأداء الذي يتواصل دون مقاطعة لحياتها. وبذلك غدت محلات الوجبات السريعة والكوفي شوب التي تقدم أنواع مختلفة من الأطعمة والأشربة، مع نهاية التسعينيات في القاهرة، كفضاءات مؤسسة لجماعات متخيلة جديدة داخل المجتمع المحلي المصري، بشكل أخذ يرسم خرائط جديدة على مستوى التآلف والانتماء، ذلك ان الانتماء الكوزموبوليتانية ذا الأساس الطبقي في هذه الأماكن نشأت عنه تشكيلات جديدة للقرب والبعد أدت إلى تشريح وتشظي المشهد الاجتماعي القاهري. من جانب آخر، تفيدنا العديد من الدراسات الأنثروبولوجية، أنه داخل المجتمعات التي لا تعرف الكتابة، أو حيث الكتابة ممارسة هامشية يمر جزء من معرفة الناس التنظيمية حيال بيئتهم الاجتماعية عبر توزيع الذبيحة (الطعام القدسي) المصاحب للطقوس الدينية، وذلك لأن العلاقة بين المقدس والسياسي تبرز بشكل أكبر داخل الجماعات المحلية الصغيرة، ولأن الطقوسي لا يختزل دائما في وجود فعل قدسي، بل أنه يمتزج في غالب الأحيان، برهانات سياسية واقتصادية. ولذلك سعى الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق في كتابه «سيدي شمهروش: الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير»، إلى معاينة طريقة توزيع الأضاحي المقدمة لسلطان الجن سيدي شمهروش لدى سكان قبيلة ايت ميزان، وذلك باعتبارها أفعالا تحددها بشكل أساسي الدينامية السوسياسية للقبيلة، ولا تحددها الاعتبارات الطقسية إلا بشكل خافت. حيث تبين لرشيق، أن الشخص العازب داخل القبيلة والذي يطلق عليه محليا اسم «أفروخ» وهي كلمة مشتقة من كلمة «فرخ» لا يحصل على نفس حصة رب الأسرة. وهكذا تعتبر منزلته، في هذا السياق الطقوسي على الأقل، دون منزلة الرجل الكامل. ولذلك فان التمييز بين «أركاز» (الرجل الكامل) و»افروخ» لا يقف عند المستوى الطقوسي، بل نلاحظه حتى في المستوى السياسي، أي على صعيد تيسير الدوار. فالذي يعتبر «افروخا» لا يمكنه حضور تجمعات الدوار، ولا يقوم بأداء الواجبات الجماعية، ولا يساهم في إيواء ضيوف الدوار في الاحتفالات. ف»افروخ» لا ينتمي الى الجماعة لأنه قاصر على الصعيد السياسي وليست له شخصية قانونية لأنه خاضع للقانون الجماعي، وحتى لو تزوج الشخص العازب فان هذا الشرط لا يعد كافيا للمشاركة في الحياة السياسية للقبيلة، لأن للأمر مسائل أخرى تتعلق بتواجد الأب الأكبر للعائلة. فالحصول على حصة من الذبيحة واكتساب صفة مشارك في تدبير الشأن العام، يرتبطان بوفاة الأب، أو في الحالات التي تتشكل فيها وضعية تنافسية ومزاحمة داخل العائلة، بسبب ولادة بيت جديد داخل العائلة، الأمر الذي يدفع القبيلة إلى تقبل هذه الوضعية أما على حساب الأب وتعليق نشاطه السياسي داخل القبيلة، أو بالتواطؤ معه لأسباب عديدة، الأمر الذي نعثر عليه بشكل واضح مثلا في دوار البجارية داخل مدينة القامشلي السورية، حيث فرضت الظروف الاقتصادية الصعبة مشاركة سياسية لأي ابن من أبناء العائلة حالما يمر بطقس العبور المتمثل بالزواج (بالعامية يقال استلم دفتر العائلة)، الأمر الذي يترتب عنه واجبات جديدة تجاه الجماعة وتجاه المشاركة في طعام العزاء. كما أن ما يؤكد بحسب رشيق- من أن المنطق السياسي هو من يتحكم في التوزيع بدلا عن المنطق القدسي للذبيحة، أن هناك صنف آخر من أرباب الأسر الذين توفي اباؤهم، لا يحصلون على حصة من الذبيحة، حيث برزت أثناء التوزيع مكانتان اجتماعيتان: ابن البلد والأجنبي. وهذا الأخير، شأنه شأن الشخص المبعد يعيش على هامش الجماعة، واذن على هامش السياسة: فهو لا يساهم في الواجبات الجماعية، لأنه لا يحصل على حصة من الذبيحة، ولذلك فان وضعيته الهامشية يتم التذكير بها بشكل دوري. *كاتب سوري