تعتبر الثقافة الشعبية الصحراوية انعكاسا للمعطيات البيئية/ الطبيعية ونتيجة لكل الممارسات الإنتاجية اليومية مادية كانت أو معنوية، وهي بالتالي معطى حضاري وتاريخي أفرزته الظروف الاجتماعية على امتداد مراحل طويلة قطعها الإنسان الصحراوي في علاقته الحميمية بالصحراء وتشبته بها باعتبارها فضاء زمنيا ومكانيا يوحي بالخلق والإبداع. إن هذه الثقافة ترتبط بالإنسان الصحراوي وبالذاكرة الشعبية المعبرة عن أفراح ومآسي الطبقات الشعبية، وهي في مجملها تروى بشكل شفوي لترسيخ القيم والمثل العليا للمجتمع الصحراوي، هذا المجتمع الذي عرف- شأنه شأن المجتمعات الأخرى- مجموعة من الظواهر الطقوسية والاحتفالية التي تتمثل في مجموعة من العادات والتقاليد ذات الخصوصيات الاجتماعية والأنطروبولوجية التي ترتبط بدورة الحياة من ولادة و عقيقة وختان وخطبة وزواج وموت ومراسم احتفالية، وبغيرها من السلوكات التي تعمل على ترسيخ القيم التي ورثها الخلف عن السلف، والتي تعد مكونا من مكونات الهوية والذات الصحراوية. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى تلك الدراسة القيمة التي قام بها الأستاذ ابراهيم الحيسن حول عناصر ومكونات التراث الشعبي الحساني، حيث أشار إلى أن هذا التراث يزخر بالعديد من المعتقدات والطقوس المتوارثة، التي ترتبط بالفكر الخرافي وببعض الأوهام والتفسيرات الخاطئة لكثير من الجوانب المرتبطة بالحياة اليومية، حيث اعتبرها ظاهرة انسانية عامة لها علاقة بمظاهر الخوف والقلق. والشعور بالضعف لدى الإنسان، دون أن يغفل الأبعاد الأسطورية لهذه المعتقدات التي يمكن دراستها اجتماعيا ونفسيا وأنطروبولوجيا، ومن هذه المعتقدات تجدر الإشارة إلى تلك الممارسات التي لها ارتباط بالضرر وطرد النحس وسوء الطالع كمنع الصفير والولولة في الخيام والبيوت، واتلاف الأواني الزجاجية أو الخزفية، والخف المقلوب وتراكب الأحذية ونعت الأطفال الصغار بأوصاف قدحية لتجنبهم العين الشريرة وغيرها، ومن هذه المعتقدات أيضا ظاهرة تاغنجة لاستجلاب المطر، أو توجيه مرآة أو غربال إلى السحب أو إخراج امرأة قبيحة المنظر عارية الرأس للحد من تهاطل الأمطار الغزيرة، وعدم المناداة على شخص فور مغادرته للبيت أو للجماعة أو المجلس، ومنع اقتلاع النبات من أمام الخيمة أو من حظيرة المواشي، والاعتقاد في بعض الأحجار الكريمة التي تطرد العين وتجلب الحظ، إلى غير ذلك من الممارسات والطقويس الشعبية التي يتداخل فيها ما هو ديني بما هو ثقافي وأسطوري. ومن أبرز المظاهر الطقوسية في الثقافة الشعبية الصحراوية تجدر الإشارة إلى تلك العادات التي ارتبطت بمجموعة من الاحتفالات من مثل «السبوع» (الاسم) والختان و عاشوراء وعيد الأضحى، فإذا تأملنا عادات وتقاليد العقيقة (السبوع) سنجد فيها ما هو ما هو مثير للإستغراب، ففي فترات الترحال أي عندما كان أهل الصحراء ينتقلون في البوادي كانت المرأة تلد بعيدا عن الخيام لكثرة خجلها و لكثرة صبرها و تأقلمها مع ظروف الصحراء القاسية، لكنها اليوم أصبحت تلد في الخيمة أو في منزلها، وتتكفل بهذه المهمة إحدى النساء المتخصصات، ولا تقول لها إن المولود طفل أو طفلة مخافة أن تكون الأم راغبة في أحدهما دون الآخر، فيكون التأثير شديدا عليها، وهذا راجع إلى ما يطرأ في المجتمع الصحراوي من وقائع حية، فمثلا إذا تعسرت الولادة يكون السبب هو أن المرأة كانت تريد الحصول على شيء، فتسأل عنه فيجاب طلبها، ومن الطريف في الأمر أن الطفل ينزل مباشرة بعد تلبية طلبها، وبعد ولادة الطفل يؤدن أبوه أو خاله في أذنه ليكون أول ما يسمعه هو ذكر الله، بعد ذلك يبدأ الصراع مع الجن وقوى الشر، حيث يوضع عند رأس المولود غربال فيه الملح، وتوضع صرة «صغيرة» في يده وأخرى في عنق أمه مملوءة بالملح والفاسوخ، هذا بالإضافة إلى تميمة تعلق على الطفل وتتضمن أسماء الله الحسنى والمعوذتين تفاديا لشر النساء اللواتي يحملن معهن السحر، وبعد ذلك يوضع فوق الطفل (أخطير) وهو عبارة عن بيت صغير ذي شكل هرمي مصنوع من الحديد و الخشب ومزين بأقمشة بيضاء، ويستمر الاحتفال بالطفل طوال الأسبوع إلى أن يأتي اليوم الذي يحدد فيه اسمه وهو يوم حافل من بدايته إلى نهايته، يبدأ بخوف الأم على صغيرها مما قد تحمله النساء من السحر، وبعد تجمع النساء المتقدمات في العمر يقدم لهن الشاي الذي لا غنى للصحراويين عنه، كما يقدم اللبن والشواء وبعض أعراش النعناع، فتختار منها النساء ثلاثة أعراش يحدد في كل عرش اسم و تحمل إلى الأم المنجبة (النافسة) لتختار إحداها، وتتكرر المسألة ثلاث مرات يختار بعدها الاسم الذي يطلق على المولود، وإذا شابه اسمه اسم أحد المعارف فإن هذا الأخير يحمل الهدايا والذبائح إلى عائلة المولود (تغرة) وفي هذه الأثناء يكون الأب قد ذبح شاة على اسم الطفل وتسمى العقيقة، وإلى أن يبلغ الطفل الأربعين يوما فإن أمه لا تتركه وحيدا أبدا كي لا يبدل بالجن، وعندما يتم الطفل الأربعين يحلق شعر رأسه فيترك خط في الوسط على طول الرأس و في جانبيه نقطتين كبيرتين من الشعر والباقي يحلق، أما الفتاة فتترك لها مقدمة الرأس والباقي يحلق. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى مسألة تفضيل الذكر على الأنثى في المجتمع الصحراوي، فإذا ولدت بعد الطفل طفلة خصص للطفل يوم لعتابه وأول ما يقال له (يا مزيبلها)، بمعنى أنه قد أتى فعلا قبيحا، وكأنه هو الذي أنجب الطفلة وليست الأم، أما إذا كانت الفتاة هي الأسبق فإنها تكافأ وتوضع لها الجيدلة (الضفيرة) وتغطس يدها في جلد يوضع فيه الدهن ويسمى (العكه). أما العادات والتقاليد التي تصاحب الختان، فإنها هي الأخرى تعرف مجموعة من الطقوس الاحتفالية. إن هذه العملية لا يقوم بها الطبيب لأن الصحراويين لا يلجؤون إليه إلا في أشد الظروف، ولكن يقوم بها شخص أخر هو الحجام، هذا الأخير الذي يتولى ختان الأطفال في سن تتراوح بين السنتين والسبع سنوات بشكل يتوافق مع السنة النبوية، لإتمام عملية الختان حيث يوضع الطفل على (مهراز) وتقوم الأم بتعصيب رأسها بخيط أو بطرف من قماش، و تأخذ كل زينتها، ثم تبدأ النظر في المرآة ساعة وضع الطفل في المهراز، ظنا منها أنها تبعد عنه الخطر ولا تجعله يحس بالألم. وفي هذه المناسبة يجتمع أهل الأطفال الذين وصلوا سن الختان في منزل واحد للاحتفال بهذه العملية، وإن كان الطفل وحيدا وهو أو نادر جدا، يوضع بجانبه قالب من السكر قربانا للجن ويكون لباس (الدراعة) هو الزي الرسمي للرجال الصحراويين، وفي هذه المناسبة تذبح الدبائح (النحيرة)، ويكون الشواء هو الطعام الرسمي للأطفال، لأن لحم الجمل مقوي ويزودهم بالدم الذي فقدوه، وكغيرها من المناسبات فإن الناس لا يكفون عن تقديم المساعدة، فيجلبون الهدايا كالسكر والذبائح، و كل حسب قدرته واستطاعته. إلى جانب العقيقة والختان، تجدر الإشارة إلى تلك العادات والتقاليد التي ترتبط بعاشوراء وببعض الأعياد كعيد المولد النبي الشريف وعيد الأضحى، فبمناسبة عاشوراء نجد بعض القبائل الصحراوية تحرم الزواج وسماع الزغاريد كما تحرم على النساء اللباس الجديد والحناء، هذا بالإضافة إلى التوقف عن مزاولة بعض الأعمال اليدوية كصناعة الوبر والخيام، أما بالنسبة للرجال فإنه يحرم عليهم حلق رؤوسهم ولحاهم وتقليم أضافرهم وخياطة ملابسهم، أما في الأعياد فإن أكثر القبائل تمتنع عن الأعمال اليدوية خمسة أيام قبل العيد بخلاف عيد المولد النبوي الشريف، ويومين بعد العيد، ويختلف عدد أيام من قبيلة إلى أخرى، ولا يحتفلون بالسنة الميلادية باعتبارها عيد للنصارى في الوقت الذي يحتفلون فيه بالسنة الهجرية، فيقومون الليل مدحا وصلاة على النبي (ص) ويصنعون الولائم ويدبحون الدبائح وبهذه المناسبة يروج قول سائد هو: (إذا لم تشبع الليلة فلن تشبع طوال العام)، أما عيد الأضحى فيصاحبه معتقد بارز هو عدم أكل لحم الشاة أو الدبيحة يوم العيد باستثناء الكبد و يقولون ( ما ينجرح العيد)، مخافة أن يصابو بالمرض أو بحادثة خطيرة، وهناك بعض العائلات الصحراوية لا تأكل القلب والطحال، و هذا له دلالة تاريخية، إذ يحكى أن فرسانا صحراويين كان متجهين إلى خيامهم فدبحوا الدبائح، وعندما أدركهم الليل بعيدا نسوا القلب في الرمال تحت النار وناموا، وفي هذه الأثناء كانت مجموعة أخرى (غزي) أي الغزاة يريدون الهجوم عليهم، فأحدث القلب صوتا يشبه انفجار قنبلة تحت الرمال، فاستيقظوا خائفين وحملوا بنادقهم ( الرباعيات) وإذا بالمجموعة المهاجمة تقاتلهم، فانتصر الفرسان عليهم، وهكذا وعرفانا بالجميل للقلب، أقسموا أن لا يأكلوه لا هم ولا أبنائهم وفي مناسبة العيد نهي الأباء أبناءهم عن السفر وفي يوم العيد وفي يوم (أزلاك) الذي يلي يوم العيد، والمغزى هو الرغبة في لم الشمل واجتماع العائلة أيام العيد، وترتبط بعيد الأضحى بعض التقاليد يقوم بها الكبار (الشيب) الذين يقومون بتجفيف المرارة واستعمالها لأمراض الجلد، أما الشحم فيصنع منه (لودك)، و خصوصا من دروة الإبل، ليقوم مقام المرهم ويوضع حول الأمراض كما تعالج به أمراض الصدر والرماتيزم، وكذلك الشأن بالنسبة للدم الذي يجفف هو الأخر ويستعمل لشفاء بعض الأمراض. ومن المظاهر الطقوسية والاحتفالية في الثقافة الشعبية الصحراوية، تجدر الإشارة إلى الزواج الصحراوي التقليدي الذي ترافقه مجموعة من الطقوس والتقاليد والعادات الشعبية والتي تجعل من هذه المناسبة احتفالا محكوما بشروط ثقافية ودينية وأنتروبولوجية أشار إليها الأستاذ ابراهيم الحيسن في كتابه السابق الذكر، كالزواج المبكر للفتاة ومراسيم الخطوبة والاستعدادات المادية والمعنوية وعقد القران وبناء خيمة الزفاف وما تشهده من أناشيد وأغاني، وحضور العريس وما يقوم به من طقوس رفقة وزيره، هذا فضلا عما ينبغي أن تتسم به العروس من خجل وحياء، وغيرها من الأجواء الاحتفالية التي تصاحب ليلة الدخلة والليالي الموالية لها. ومن المظاهر الاحتفالية التي تنتشر بالصحراء وتعرف إقبالا كبيرا تجدر الإشارة إلى الألعاب الممارسة التي تتعدد بالأقاليم الصحراوية، شكلا ومضمونا وأدوارا. ووظائف وخلفيات وطقوسا، كما تختلف من حيث درجة الرضى والقبول، ومن حيث الانتشار في المكان والزمان وفق الفضاء الذي تمارس فيه وما يتسم به من خصائص وحاجات ودوافع لما تستدعيه خصوصية اللحظة التي تمارس فيها، يعتبر شهر رمضان مما يتميز به من أجواء تتسم بإحياء صلة الرحم والتودد اطارا زمنيا تمارس فيه بعض الألعاب الشعبية بعد أداء صلاة العشاء والتراوح، وذلك نظرا لما تخلقه هذه الألعاب باعتبارها فضاءات حميمية تنمي علاقات التواصل. وتزيد من تدعيم التعارف وتعميق عرى الأواصر بين اللاعبين والحضور، حيث يقضي الجميع أوقاتا دافئة حول موائد الشاي بطقوسه المميزة في الإعداد والتناول، حيث يعتبر الشاي سمة من سمات الكرم الصحراوي التي لا تقل أهمية عن تقديم الأكل، هذا إلى جانب كونه وسيلة من وسائل التواصل والاندماج بين الأفراد والجماعات ويصاحب هذه الجلسات عادة ألعاب ترفيهية يغلب عليها طابع المرح والتنافس الرياضي، ومن ضمنها تلك التي تعرف محليا ب (تانبيهيت) و(دبليج) و(هيب) و(فاش) و(خريبيك) و(ضامة ربعين) وغيرها من الألعاب الشعبية الكثيرة، لكن لعبة (سيك) تعد من أقدم هذه الألعاب وأكثرها شعبية وخصوصا في شهر رمضان المبارك حيث يشترك في ممارستها الرجال والنساء. إلى جانب هذه الألعاب الجماعية تجدر الإشارة إلى مجموعة من الأشكال التعبيرية التي لا تخلو من مظاهر طقوسية واحتفالية كالغناء والرقص والرسم والوشم وغيرها من الأشكال التراثية التي تحبل بالتجارب والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية، الشيء الذي يمنح للثقافة الشعبية الحسانية قيمة اعتبارية لأنه على الرغم من استعصامها بالماضي وبالتاريخ السحيق، فإن فاعليتها ستبقى متدفقة ومنفتحة على الحاضر، شريطة المحافظة على كل المكونات الثقافية للتراث الصحراوي، وإنقاذها من كل مظاهر الانقراض والتزييف. المراجع: أفواه الشيوخ من بعض القبائل الصحراوية بالعيون والسمارة والداخلة كتاب: عناصر ومكونات التراث الشعبي الحساني للأستاذ ابراهيم الحيسن ملحوظة: قدمت هذه المداخلة ضمن ندوة «ثقافة الصحراء: دورها في التوعية والتنمية» بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك الدارالبيضاء يوم الخميس 29 أبريل 2010.