وليد كبير: نظام العسكر غاضب على ولد الغزواني بعدما رفض الانخراط في مخطط لعزل المغرب عن دول الجوار    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الترييف السياسي بالمغرب
نشر في لكم يوم 11 - 06 - 2013

يهمنا، في هذا المقال، أن نواصل البحث في "الفاعل السياسي"، ولكن هذه المرة من ناحية التشديد على "مرتكز" يطبع "الأداء السياسي" بخواص محدَّدة لا تفارق دوائر ما عبّرنا عنه، في المقال السابق، ب"أحد فصول الجنون السياسي بالمغرب". والموضوع تمّ التعاطي له بالدرس، والتحليل، ومن منظور أنثربولوجي مستحدث... نسعى بدورنا إلى الانتظام داخله وإن بشكل أولي ومغاير بعض الشيء.
ولا نجد ما هو أفيد وأوضح من ذلك "التصوّر" الذي يستقر على أن "الأداء السياسي" بالمغرب هو وابتداءً "أداء اجتماعي"، مثلما أن الظواهر السياسية بالمغرب هي ظواهر اجتماعية. وبخصوص هذه الفكرة ينبغي أن نوضِّح، أو بالأحرى أن نعترض، أن "علاقات التأثّر" بين السياسة والمجتمع "قائمة" و"متبادلة" في آن، وكل ذلك في المنظور الذي يضمن لكل طرف حضوره هناك. ولعل هذا ما قصد إليه الأنثروبولوجي والإثنولوجي الفرنسي الأشهر جورج بالانديه (Georges Balandier)، في مقدمة كتابه "الأنثروبولوجيا السياسية"، عندما قال: "وتغيَّر كل شيء عندما لم تعد تعتبر السياسة مقولة ضيقة بل صفة لكل التشكُّلات الاجتماعية، فالحيز السياسي هو مكان انبثاق الديناميات الاجتماعية المتواجهة والمتجابهة".
في الحال المغربية الحاصل هو غير هذا "التفاعل" عبر مفعول الأفكار والتصورات، أو "الخطاب" بمعناه المصاغ في "حفريات المعرفة" في امتداداتها اللاحقة، إذ لا مجال ل"الحيز السياسي" الذي يتأكد من خلال "فرضية المجتمع السياسي" وقبل ذلك "فرضية الحاجة للسياسة"؛ ذلك أن السياسة، هنا، تفقد "جوهرها" أو تفقد "مسوِّغ" وجودها... وتصير، بالتالي، وفي حدّ ذاتها، "ظاهرة اجتماعية" تعكس "الكل الاجتماعي" أو بالأحرى "الخليط الاجتماعي". وهذا ما يستدعي "الأنثروبولوجيا الاجتماعية" أو على وجه التحديد "الأنثروبولوجيا السياسية" باعتبارها تخصّصا (لاحقا) في "الأنثروبولوجيا الاجتماعية"، لأنها ومقارنة مع العلم السياسي وحتى مع السوسيولوجيا السياسية الأقرب لدراسة "الحال المغربية". فنحن، هنا، لسنا بإزاء التفكير في تحريك "الآلة السياسية" من أجل الانخراط في أداء السياسي قائم على مفهوم "الكاريزما" و"الطبقة السياسية" و"المكانة الاجتماعية"... لا مجال، هنا، لما يعبَّر عنه ب"الإنسان السياسي" Homo Politicus)). وكما أكّد على ذلك البعض: ف"المنافسة والحسد والشماتة ركائز أساسية في ميدان الأنثروبولوجيا السياسية".
وفي ضوء ما سلف قد يبدو جليا أننا لا نقصد إلى الأنثروبولوجيا السياسية باعتبارها، وحسب جورج بالانديه نفسه، فرعا معرفيا يسعى إلى تأسيس علم للسياسة ينظر إلى الإنسان ك"Homo Politicus" كما أسلفنا... وفرعا معرفيا يبحث في الخصائص المشتركة بين جميع التنظيمات السياسية المعترف بها داخل التنوع التاريخي والجغرافي. وكما أنه، في الحال المغربية، أو بالأحرى في حال موضوعنا، تنتفي المفاهيم الأساسية للأنثروبولوجيا السياسية مثل مفهوم المجتمع والسلطة والتراتب واللامساواة... إلخ.
إن مفهوم "التطوّر"، والذي تركّز عليه الأنثروبولوجيا ومن خلال تيار مهم ومستقل، والتطور هنا من حال إلى حال أخرى بموجبها يتم الانتماء للسياسة بمعناها العصري، لا يزال يفرض ذاته بقوة. ولا بأس من التذكير بأن الحاجة إلى هذا التطور ما جعل الأنثروبولوجيا التطورية ترتبط بالاستعمار حتى يحتل هذا الأخير المجتمعات الغارقة في "البدائية" بغير معناها الكرونولوجي كما قلنا في المقال السابق وعلى النحو الذي يتأكد، واستطرادا هنا، من خلال ما عبّر عنه جيرار لكليرك (Gérard Leclerc)، في كتابه "الأنثروبولوجيا والاستعمار"، بما "أُطلق عليها اسم المجتمعات "المتوحشة" ثم "البدائية"، وأخيرا "التقليدية" أو "القديمة"، وبعبارة أخرى: العالم الثالث أو جزء منه" (الترجمة العربية، ص11).
أجل لقد اعتبر أرسطو المسؤول الأول عن "المبالغة في تقدير السياسة"، إلا أن الانتساب للعصر لا يمكن أن يكون بدون سياسة باعتبارها "تدخّلا" من أجل الإسهام في "التحوّل المجتمعي الملموس" وعبر "نظام سياسي معاصر". ثم إن "دلالات السياسة" لا تتحدّد أو لا تستخلص إلا من خلال "الثقافة" أو "الإقليم الثقافي". ومن "وجهة نظر أنثروبولوجية" ف"الثقافة بلغت معناها الذي اكتسبته في القرن العشرين لا لكونها "فنا وصانعة للفن" ولكن لأنها مثلت "وسيلة للحياة". بكلام آخر، وهو ما تفرضه العلاقة الوطيدة بين الأنثروبولوجيا والتاريخ، فالثقافة تفهم أكثر في ضوء "التاريخ الاجتماعي الكلي". ولكن ما هو مصير الثقافة في حال مجتمع "مفتت ومسحوق" إذا جاز تعبير العروي (في مصنفه "مجمل تاريخ المغرب"، ص587)؟ وما هو مصيرها في مجتمع محاصر بثالوث "الفقر الفكري والعجز الاقتصادي والحصر السياسي" حسب تعبير العروي نفسه؟
وعلى ذكر العروي، وهذه المرة على لسان إدريس بطل رواية "أوراق"، أليست "كل مصائب المغرب راجعة إلى الفجوة بين إيمان المدينة وجهالة البادية"(ص69). والغاية من هذه الفكرة هي أن نخلص إلى مفهوم يصعب العثور عليه في القواميس السياسة المعتمدة التي تتوقف، بخصوص حرف "R"، عند مفهوم "Rumeur". والمقصود، هنا، مفهوم "الترييف السياسي" (Ruralisation Politique) الذي طال المدن المغربية بعد أن تم "ترييفها اجتماعيا وثقافيا". وللأمانة العلمية فالمفهوم يذكرنا به الباحث محمد أقديم في دراسة له حول "القوانين الانتخابية وإعادة إنتاج وضعية "الفلاح المغربي المدافع عن العرش" (والمقال متداول في شبكة الاتصال الدولي). ومعنى ذلك أن المفهوم طرح في سياق بحث موضوع "تثبيت النخب التقليدية" (وباعتبارها "نخبا اجتماعية" أيضا كما يتوجّب التنصيص على ذلك) في "الحقل السياسي"، وحصل ذلك من خلال "أسطوانة أحزاب" ترتبط ب"مرحلة محدّدة" لكن في أفق الاستجابة لثابت "توسيع الدولة التسلطية" أو في أفق الاستجابة ل"الجذور الاجتماعية للدولة التسلطية في المشرق العربي" بتعبير السوسيولوجي الكويتي الراحل خلدون النقيب. ومن ثم كانت، وبالمغرب، "الأشكال التقليدية للسلطة" نتيجة هيمنة "القوى التقليدية" على "الحياة السياسية".
قلنا إن "الترييف" طرح في فترة سابقة، وحتى في فترة الاستعمار كان التوجّس منه قائما بالنظر لعواقبه السياسية الوخيمة التي تمسّ الوسط الحضري وقبل ذلك تصيب العالم القروي بالتفكك كما أوضح ذلك "الأنثروبولوجي" الأشهر في "المرحلة الكولونيالية" روبير مونطاني (Robert Montagne). وكان الهدف من "الترييف"، في "سياق ما بعد الاستعمار"، هو تحطيم "مشروع الدولة الوطنية" كما كانت تطمح إليه "الحركة الوطنية" بعد أن قاومت من أجل استقلال المغرب. لكن السؤال الذي يفرض ذاته هو التالي: هل من تحوّل حاصل في "الأداء السياسي" ب"مغرب الآن والهنا"؟
وقبل ذلك، وعلى ذكر "الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، ولصاحبه السوسيولوجي الفرنسي ريمي لوفو (Rémy Leveau) (1932 2005)، فإنه لا ينبغي لنا أن ننظر إلى "الإفادة" من هذا الأخير باعتبارها نوعا من "التعلق الأعمى" ب"الماضي" وقبل ذلك نوعا من "التعلق الأعمى" بما كتبه "الآخر" عنا؛ وهو ما يمكن الاطلاع عليه في ردود "القراء الصغار". لا ينبغي أن نخجل من قراءة، وبما في ذلك إعادة قراءة، "الأعمال الأساسية" التي تم إنتاجها في سياق العلوم الاجتماعية وسواء كانت خلفيتها "كولونيالية" أو غير كولونيالية. وفي هذا الصدد لا أملك إلا أن أضم صوتي إلى من أكد على أنه "في سياقنا العربي الذي يشكو من انعدام مؤسسات بحثية في العلوم الإنسانية، يبدو لي أن النقاش حول علمية السوسيولوجيا الكولونيالية هو نقاش غير ذي معنى، فما كنا لنعرف أجزاء كبيرة من ثقافتنا وبنياتنا العرقية في المغرب مثلا، لولا الدراسات التي قام أمثال إدمون دوتي وميشو بلير وروبير مونطاني وليشاتلي وارنست غيلنز وروني غاليسو ودافيد هارت وجون واتربوري وجاك بيرك وغيرهم من الذين ساهموا في إنتاج منظومات مفاهيمية ومقترحات نظرية وأخرى ميدانية ساهمت في فهم ومعرفة المؤسسات والبنيات والهياكل التي يتأسس عليها المجتمع المغربي". وما يحفّز أيضا على الإفادة من هؤلاء أن "التغيير" في التاريخ السياسي بالمغرب يحدث في ظل أشكال متعددة من الاستمرارية، وليس في ظل أشكال القطيعة كما ذهبت إلى ذلك الباحثة السياسية المغربية مونية بناني الشرايبي في الكتاب الجماعي المعنون ب"فضاءات وكواليس الانتخابات في المغرب: الانتخابات التشريعية لسنة 2002". وكل ذلك حتى نحافظ على ترجمة عنوان الكتاب من قبل الباحث السياسي عبد الحي المودن الذي خصّ الكتاب بقراءة مركّزة في المجلة الإلكترونية للكتاب "رباط الكتب" (العدد: 3). وما أحوّجنا إلى مثل هذه الدراسات بالنظر إلى مطمحها النظري، وخصوصا حين يتعزّز المطمح الأخير ب"الاستنتاج الميداني".
وعلاوة على ما سلف، وحتى نرتبط بموضوعنا، ف"أطروحة" ريمي لوفو حول "المشاركة الاجتماعية والسياسية" بصفة عامة، وحول "سوسيولوجيا الانتخابات" بصفة خاصة، لا تزال تفرض ذاتها في السياق الحالي على الرغم من أنها ظهرت العام 1976. ولعل هذا ما يجعل الإحالات عليه متجدِّدة في السوسيولوجيا السياسية، وهذا على الرغم من عدم ذكره اسمه في أحيان. والأكثر من ذلك فقد كان له تأثير على أنثروبولوجيين أجانب كبار ممن قدموا أبحاثا لافتة حول المغرب من مثل البريطاني إرنست كيلنر (Ernest Gellner) والأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز (Clifford Geertz). الأهم أن كتابه، وعلاوة على انتظامه أيضا في السوسيولوجيا التطبيقية، قيامه على نوع من "المعرفة من الداخل" ب"المطبخ المخزني"... ذلك أن الرجل عمل "مستشارا قانونيا" لوزير الداخلية المغربي رضا كديرة بين سنتي 1968 1974.
فما الذي، إذن، تغيّر ولم يتغير منذ أطروحة ريمي لوفو وعلى ما في التساؤل من "تناقض ظاهري"؟ ولما نطرح هذا السؤال فبهدف التأكيد على "الظواهر السياسية" باعتبارها "ظواهر سوسيولوجية" كما أسلفنا، وهو ما يتأكد وبشكل حدّي في فترات "الانتخابات" باعتبارها فترات "الانبثاق السياسي/ الاجتماعي" في "الدرب" المغربي. وبالنظر للإشكاليات السياسية المتداولة، والمقتربات السياسية السائدة، لا يبدو غريبا أن نركِّز على "الحزبي". وليس لأن الحزب "مؤسسة مركزية في الحقل السياسي" فقط، وإنما لأن الحزب في المغرب هو "الانتخابات" فقط. وفي هذه الانتخابات يعلو "السلوك الانتخابي" على "الاختيار السياسي". وكما تتأكد "الظاهرة السوسيولوجية" من خلال جملة من مسلكيات "القيادات" التي تمسك بالأحزاب. ويتجلى ذلك من خلال "طقوس" لا تفارق حمأة "الفلكلور البائس" و"بازار البلاغة المتيبِّسة".
إننا، وفي سياق "إيجابية التكرار" بتعبير ميشال فوكو، لسنا ضد "الريف" في دلالة على الصفاء والفطرة والشعر الشفوي والفلكلور (غير البائس هذه المرة)... بقدر ما إننا ضد "الترييف" باعتباره "قصدية مستثمرة" تتستَّر على "الخواء الثقافي" بل وحتى "النقص الإيديولوجي". ولذلك لم يكن المشكل في "الطقس" ذاته، وإنما في الانقلاب على الطقس ذاته من خلاله تشحينه ب"محتوى" هو قرين "تشويه" الحياة السياسية... مما يستتبع الطقس الأخير، وفي سياق "الحرب الطقوسية"، ب"طقوس مضادة" تستزيد المزيد من الضربات على "البقية الباقية" في "الحفرة السياسية"... فيما "نقاشات المكاتب والمكاتب المكيفة" تزيد من توسيع الهوة، أو الخندق، بين السياسة والقاع الاجتماعي.
وعلى ذكر الطقس فإنه من أبجديات الأنثروبولوجيا السياسية التذكير بأهمية "التمثيلات" المختلفة (Représentations) و"الرموز" في "الإنتاج السياسي". وفي حال "النموذج المغربي" يمكن التشديد على كتاب الباحث الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق "ترميز الأمة" (Symboliser la nation) (2003) المكرّس، وعلى نحو ما ورد في عنوانه الفرعي، ل"استعمال الهويات الجماعية بالمغرب". ويلخص الباحث، وفي حوار معه، الكتاب قائلا: "في أحد مؤلفاتي، (ترميز الأمة)، حاولت إبراز مكانة الطقوسي بالنسبة للحركة الوطنية المغربية. فلو كان الطقوسي ثانويا، لما ابتكر رجال الحركة الوطنية الاحتفال بعيد العرش سنة 1933، ولا اللباس الوطني، ولما دعوا المغاربة، بعد نفي محمد الخامس، إلى مقاطعة صلاة الجمعة، وعدم الاحتفال بعيد الأضحى. هذان لمثالان يبرزان كيف أن الديني يمكن أن ينصهر داخل المنطق السياسي". فالطقس وكما يواصل "يحتل مكانة مركزية في نقل المعرفة، وفي دراسة التمثلات المحلية للقدسي و(الجن) والأمراض والسياسة والمرأة والعائلة".
وفي ضوء الكلام الأخير يمكن النظر إلى "الطقس" باعتباره "عنصرا تكوينيا" في "العمل السياسي" وباعتباره دالا على الإنتاج الاجتماعي أيضا... بخلاف "الحالة السياسية المرضية" التي هي مدار هذا المقال، الحالة التي يتكشف فيه "الطقوسي" بشكل "تنقيصي" و"تحقيري" للعمل السياسي وللأمة بصفة عامة، ذلك أن الطقوسي لا يعكس "حدثا" بقدر ما يعكس "حالات فردية مجتزأة" مهما كانت محسوبة على "مجموعة سياسية".
ومن منظور عكسي، لا طردي، في أي سياق يمكن أن نفهم "دلالة" من يقدم على "التعاطي" ل"النص الديني"؟ وهل كان من ضرورة لإعلان ذلك؟ المؤكد، هنا، أن "الفعل الطقوسي" وارد... لكن من خلال ما يتجاوز "التكتيك" نحو "لوثة السياسة". وبخصوص "الزاوية والحزب" فالإحالة على كتاب نور الدين الزاهي "الزاوية والحزب" (2000) "واجب أكاديمي". إلا أن "السلوك" الأخير يهون مقارنة مع "الطقس الفلكلوري الزاعق" الذي غطس فيه مؤخرا "وزير الأمة" في "برلمان الأمة" في دلالة على "التبرك السياسي" الذي لا يغطي على "التبجح السياسي". وصفوة القول، هنا، إن "التطبيقات الطقوسية" عديدة... إلا أن "الممارسين" لها يظهرون فاقدين ل"النصف الأيمن من عقولهم"؛ و"العقل"، هنا، بمعناه "الحرفي والمجازي/ السياسي".
وفي مثل هذه الحال ما الذي ينتظر من الجماهير التي ينظر إليها، وباصطلاح أنثروبولوجي (عنصري)، ك"حشود" أو "فلول" مطلوب منها ما يتجاوز "الامتثال" نحو "التقريد" بمفردة الكاتب الأردني خيري منصور. وقبل الاستدلال على الفكرة الأخيرة، وتذكيرا بالترييف مرة ثانية، يهمني أن أركِّز، ولفكرة تالية، لا على "أرقام" الانتخابات أو "شرعيتها"... وهو ما يركِّز عليه المقترب القانوني الصرف أو المقترب الإيديولوجي الشرس. وفي هذا الصدد يهمنا أن نركّز على "الأصوات الملغاة" في الانتخابات التشريعية (الأخيرة والمبكرة) التي جرت في 25 نوفمبر 2011 وفي سياق "الربيع العربي" أو "كجزء من الربيع العربي" كما ورد في "موسوعة ويكيبيديا". ومن خارج الجدال بخصوص نسبة ال 45 في المائة التي انتخبت البرلمان الذي انبثقت عنه "حكومة حزب العدالة والتنمية"، فإن اللافت هو نسبة ال 20 في المائة من الأصوات الملغاة التي أكد عليها مراقبون في "المعهد الوطني الديمقراطي الأمريكي". وبلغة رياضية: إن نحو 1.2 مليون ورقة ملغاة ضمن ما لا يتعدى عددهم 4.8 مليون مغربي ممن صوتوا. وهو ما جعل "حزب الأصوات الملغاة"، كما عبّر عنه الكاتب الصحفي علي أنوزلا في مقال "الرابح الكبير في الانتخابات المغربية" ("موقع "لكم": الاثنين، 28 نوفمبر 2011)، أكبر حزب في المغرب من حيث عدد الأصوات التي فاقت حتى تلك التي حصل عيها الحزب الذي تصدَّر نتائج هذه الانتخابات. وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى "حزب الساخطين" الذي لا يقدم على الانتخابات أصلا، بل ودون أن يهمه أن يتحوّل إلى الانتساب إلى جمعيات المجتمع المدني أو حركات الاحتجاج الجماعي.
اللافت للنظر، وهذه المرة من منظور طردي وعكسي في آن واحد، وفي سياق "الترييف السياسي"، هو "تذكرة الأتوبيس" التي يلقي بها ذلك المواطن (Anonyme) في صندوق الاقتراع (وعلى الوطن ككل) وذلك بدلا من إلقاء الورقة التي تحمل شعار حزب من أحزابنا. إن هذا المواطن، وفي هذه الحال، "يجيب"... لكن ب"طريقته". وسلوك المواطن الأخير يمكن أن يتأكد في مدينة أخرى ومن خلال "اختيار آخر" أخذا بسياق المميزات الجهوية"، إلا أن الاختيار الأخير يصدر من "القاع الاجتماعي" ويصب في السلوك ذاته مثلما يؤكد على "السوق" الانتخابية. وفي جميع الأحوال إننا بإزاء سلوك لا يكترث ب"الأهداف/ الأصنام"، في "الانتخابات"، وعلى نحو ما هو متمثِّل في "دعم الإجماع السياسي" و"هندسة التمثيلية السياسية" و"استمرارية النخب السياسية".
فالمقتربات التقليدية لا تكترث بمثل هذه "الأفعال" التي تدخل في دوائر "المسكوت عنه" في الأبنية السياسية. والأهم، ومن وجهة نظر أنثروبولوجية، هو "التفسير" لما يفعله هذا "الآخر" وفي إطار من "الثقافة" ذاتها. و"أي فعل بسيط يستدعي ما لا حصر له من فرضيات ومرجعيات" كما يقول عبد الله حمودي في كتابه "الشيخ والمريد". فالمشكل، في المغرب، لا يزال، في جانب مهم منه، يكمن في "الذهنية" التي ينبغي قراءتها وفهمها. ومن ثم فالثورة الثقافية، التي تعيد جانبا من القضية، وبعد أن تلتبس بألغام الهوية والذاكرة والسرد... لا تزال حلما بعيدا.
إن هذا الترييف، وكما يمكن أن نضيف في مثال سافر، وسبق لي أن أكدّت عليه في حوار بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" (الاثنين 18/ الثلاثاء 19 يوليوز 2011)، ما يجعلني أتزايد على أن العديد من حقوقيينا ومناضلينا لم يتمكنوا من إيصال دلالات "المدونة" الملغزة لعقول وقلوب "نساء المغرب الآخر" المغلوبات على أمرهن بسبب من "حموضة اليومي" وبسبب من "الزفت الاجتماعي" على نحو ما فعلت، وفي إطار نوع من "التسريب الطقوسي"، المغنية المغربية (الشعبية) نجاة اعتابو وعلى وجه التحديد في أغنيتها التي تحمل عنوان "المدونة" (كذا). وحصل ذلك من خارج خطاطة "بناء الدولة وتمجيد السلطة" التي كتب عنها، وعلى سبيل التمثيل، ومن "منظور الباحث السياسي"، محمد شقير في كتابه "النص الغنائي بالمغرب" (2011). ولهذا السبب حقّ لمغنية المدونة، وحتى إن كانت "تسوّقها"ك"منتوج زراعي"، أن تقول، في حوار معها، في القناة الثانية، إن أغانيها تتسم بالعدل، ولهذه الغاية تجرؤ على الغناء بالعربية والبربرية كما تضيف؛ ودون، كما يمكن أن نضيف، اكتراثها بنقاد الموسيقى وسواء من الخلّص أو من المتطفلين.
إننا بإزاء حالة طريفة من الانتماء الطقوسي المتزامن... لكن على إيقاع من التنافر والتنابذ. وتلك هي حال المغرب الذي "يحصل فيه كل شيء لكي لا يحصل أي شيء" كما قال المرحوم محمد عابد الجابري وإن في سياق متعين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.