نقط ضوء متحركة أتاحت أنطولوجيا القصة القصيرة المغربية التي أصدرتها وزارة الثقافة المغربية سنة 2004 للباحثين وعشاق القصة القصيرة، الاطلاع على مسار هذا الفن الجميل منذ بواكيره الأولى إلى اليوم، الذي تم إنجازها فيه. . ولا ريب أن هذه الأنطولوجيا تعاني - مثل جميع الأنطولوجيات في العالم - من بعض القصور، يتمثل أساسا في عدم ضمها لأسماء عدد من القصاصين وخاصة الجدد منهم، وقد كان المشرفان على هذا العمل، وهما محمد برادة وأحمد بوزفور، على وعي بذلك، إذ جاء في المقدمة التي دبجاها لتتصدر الكتاب ما يوحي بذلك « أبحنا لأنفسنا حجب بعض النصوص لأسماء لا تزال في أول الطريق»، ورغم اختلافنا مع هذا النهج الذي اختاره المشرفان في انتقاء الأسماء الممثلة في الأنطولوجيا، إذ لا يعدم صاحب تجربة لم «تنضج» بعد نصا ذا قيمة، يمكن ضمه إلى الكتاب ، فإن الأنطولوجيا- مع ذلك- جاءت أكثر تمثيلية للقصاصين المغاربة، على الأقل في بعدها الزمني الكرونولوجي. وقد حاولت المقدمة التي وسمها صاحباها ب» نقط ضوء متحركة» أن توطئ للأنطولوجيا بنظرة عامة حول القصة القصيرة في المغرب ، ومما جاء فيها: « منذ الأربعينات، أطلت قصص تزاوج بين هموم الوطنية واللقطات الاجتماعية الساخرة «عبد المجيد بن جلون ، عبدالرحمن الفاسي، أحمد بناني ...(قبل أن يصدح الصوت الجمعي الجهير، مع إهلال الاستقلال، مستشرفا آفاق التغيير منتقدا رواسب الماضي المتجمد. وفي السبعينيات، ظهرت قصص تتلمس الطريق إلى الصوت الذاتي «المتفرد» المغيب بفعل الانشداد إلى المعضلات الاجتماعية والسياسية. بذلك، لم يعد النص القصصي منجذبا إلى الواقعية وحدها، بل ارتاد مجالات التجريب والمغامرة حيث تأخذ الكتابة حجمها الملائم. قد يسجل القارئ المتابع فترة انحسار نسبي للقصة المغربية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لكن هذا الجنس الحيوي يعرف دوما كيف يجدد نفسه من خلال استيحاء ما يحبل به المجتمع ومخيلة القارئ، ومن خلال التصادي مع ما تبتدعه الأقلام في المشرق العربي وفي الآداب العالمية. وجميع الدورات التي مرت منها القصة المغربية في عمرها القصير، تتلامس أو تتقاطع، مستأنفة أو معلنة القطيعة، بحثا عن مكانة تلائم قدرات القصة على الاستكشاف والتنبؤ والإمتاع والسخرية والفنطاستيك). و تضم هذه الأنطولوجيا التي تقع في 348 ثمان وأربعين وثلاث مائة صفحة من الحجم الكبير نصوصا قصصية ل108 ثمانية ومائة قاص وقاصة ، تبدأ بقصة «حتى الطيور في حيرة « لأحمد بناني و تنتهي بقصة «السيد ريباخا جزيرة عائمة» لأنيس الرافعي. وإذا كانت هذه الأنطولوجيا قد وفرت للقارئ نماذج من القصص المختلفة في تيماتها وتكنيك كتابتها، قد تسمح للمتتبع رصد تطور تعاطي القصاصين مع هذا الفن الجميل عبر عصور القص المغربي، فإنها تتيح كذلك بعض المعلومات الجانبية، التي قد تفيد في تصحيح بعض الأحكام الشائعة، ومنها أن القارئ سيفاجأ - لا محالة- بالتمثيلية الكبيرة لقصاصي الدارالبيضاء، حتى أنهم يحتلون ما يقرب من خمس الأنطولوجيا بثمانية عشر قاصا وقاصة، ليكونوا بذلك في صدارة الترتيب حسب المدن، متقدمين على قصاصي مدينة فاس، التي مثلها عشرة قصاصين وقاصات، متبوعة بإقليم القنيطرة بسبعة قصاصين. ويمكننا أن نقارن توزيع القصاصين على التراب المغربي بمناخ هذا البلد، فمخايل الإبداع القصصي كمخايل المطر، تتكاثر غربا على امتداد الساحل الأطلسي شمال مدينة آسفي وانطلاقا منها ،إذ أن مدنا كالدارالبيضاءوالقنيطرة والرباط وسلا والجديدة وآسفي ممثلة بعدد كبير من القصاصين، و لما اتجهنا شرقا تناقص العدد، فمدينة وجدة مثلا التي تقع في أقصى شرق المغرب ممثلة بقاص واحد، هو جمال بو طيب، وكذلك هو الشأن إذا تدرجنا من الشمال نحو الجنوب، فمدن كتطوان والناظور والحسيمة وطنجة ممثلة بعدد لا بأس به من القصاصين، ويتناقص العدد كلما توغلنا نحو الجنوب، فزاكورة مثلا ممثلة بقاص واحد ،هو عبد العزيز الراشدي و تارودانت بقاص واحد كذلك وهو أحمد الويزي وإقليم الراشيدية بقاصين، هما مليكة نجيب ومحمد الزلماطي، فيما تنعدم تمثيلية مدن الصحراء كالعيون والسمارة وطانطان.. وإذا كان النقاد يتحدثون بكثرة عن جيل السبعينيات، الذي لا ينكر أحد مساهماته في مجال القصة، فإن الإحصاء يفيدنا أن الجيل التسعيني هو الأكثر تمثيلية في الأنطولوجيا بما يقارب الأربعين قاصا و قاصة. كما أن القصاصين من مواليد الستينيات أكثر حضورا من غيرهم، هم سعيد الفاضلي وعبد الله المتقي، وحسن إغلان وأحمد الويزي وشكيب عبدالحميد وعبدالسلام الطويل ومحمد الشايب ومحمد عيا وإدريس اليزمي ومحمد أمنصور ومحمد الفشتالي ومحمد المزديوي وأحمد العبدلاوي ومصطفى جباري ولطيفة باقا ومصطفى لغتيري وخالد أقلعي وسعيد بوكرامي وعبد المجيد شكير ورجاء الطالبي وعبد العالي بركات ومحمد الزلماطي وعائشة موقيظ وجمال بوطيب وحسن رياض وسعيد منتسب ومليكة مستظرف ... مع ملاحظة أن أكثر القاصات لم تذكر أعمارهن. ويسجل كذلك أن تمثيلية النساء بالأنطولوجيا ضعيفة جدا، إذ لم تتجاوز14 أربع عشرة قاصة، هن خناثة بنونة، وزهرة زيراوي وزينب فهمي «رفيقة الطبيعة» وليلى أبو زيد ومليكة نجيب وربيعة ريحان ولطيفة باقا ولطيفة لبصير ورجاء الطالبي وعائشة موقيظ ومليكة مستظرف وسعاد الرغاي وحنان الدرقاوي وفاطمة بوزيان. وإذا كان السلك الدبلوماسي قد استقطب القصاصين الأولين من أمثال أحمد بناني وعبدالرحمن الفاسي وعبدالمجيد بن جلون وأحمد عبدالسلام البقالي، فإن وظيفة التدريس تعد المهنة المهيمنة على مهن القصاصين على امتداد أجيالهم، فيما تحتل الصحافة المكانة الثانية ومن أبرز ممثليها عبدالجبار السحيمي وعبد العالي بركات وياسين عدنان ومحمد صوف ومحمد الاحسايني والمهدي الودغيري وسعيد منتسب وإدريس الخوري ومحمد الأجديري .. مع وجود محتشم لمهن أخرى كالتوزير عبدالكريم غلاب ومحمد الأشعري والحلاقة علي أفيلال والمحاسبة مبارك الدريبي. وتبقى- في الأخير- أنطولوجيا القصة القصيرة المغربية كتابا هاما، ومنجما زاخرا بالمعطيات الخام،التي تنتظر من ينكب عليها بالدرس والتحليل من أجل بناء صورة شبه متكاملة وواضحة عن القصة القصيرة المغربية، من حيث مضامينها وتيماتها وأجيالها و هلم جرا.