«المساواة للمرأة تحقق التقدم للجميع» هو الشعار الذي اختارته الأممالمتحدة هذه السنة لتخليد اليوم العالي للمرأة. شعار قد يبدو عاديا لأول وهلة، ولكنه في الحقيقة يجسد واقع مسار النضال العالمي من أجل التمكين للنساء وتعزيز أدوارهن في المجتمع. فعلى الرغم من المكتسبات التي ما فتئت نساء العالم يراكمنها لتحقيق أهداف المساواة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبنسب متفاوتة باختلاف الدول والثقافات، إلا أن الإنجازات لم تصل بعد إلى الغايات المؤملة، وذلك بنسب وأسباب تختلف وتتفاوت بدورها باختلاف ظروف ومستويات النضال في كل دولة دولة. وهذا ما ينعكس بالضرورة على مسار تحقيق أهداف التنمية البشرية والمستدامة، والتي يعد استكمالها معيارا لتقدم المجتمعات. فالمرأة نصف المجتمع، وهي في ذات الوقت تلعب دور الدينامو أو المحرك الذي تقوم عليه حركية النصف الآخر، الذي يمكن القول، في إطار المفهوم الموسع للتنمية البشرية المستدامة، إنه لا يتشكل فقط من الرجل بل من كل الفئات الأخرى المكونة للمجتمع، من رجال وشيوخ وأطفال... ومن ثمة تبدو واضحة منطقية المقارنة بين وضعية المرأة في المجتمع ومسألة تقدم هذا الأخير بكل فئاته وجميع مستوياته. من جهة أخرى، يترجم هذا الشعار، مرارة استمرار التناقض الصارخ بين حضور النساء وأدائهن في المجتمع، وبين تواصل معاناتهن من شتى أنواع التهميش والإقصاء والتحقير لوجودهن وعطائهن، بسبب عقلية ذكورية متجذرة، سواء في المجتمعات المتقدمة أو النامية، تمعن في النظر إلى المرأة على أنها كائن قاصر مسخر للرجل ولمساعدته على التقدم، في إلغاء كامل، أو جزئي، لإرادة المرأة وطموحها في التقدم، وهي الإرادة التي يجب أن تظل، وفقا لهذا المنظور الذكوري والمحدود، ملغاة أو مؤجلة لحين تحقق تقدم «طوباوي» في المجتمع، تقدم أعرج، يسير على قدم وعصا، عوض أن يسير على قدمين تتساوى قوتهما ووتيرة خطواتهما معا. فبدون مساواة، تظل بالفعل أهداف التنمية مجرد شعارات جوفاء فارغة من المضمون، وحتى إن تحقق بعضها، فإن استمرار ثقافة اللامساواة لن يمكن سوى من إنتاج أجيال لا ترى التقدم إلا بمنطق من الأنانية والفردانية، فالمساواة هي أيضا مرادف للمواطنة الحقيقية والفاعلة والإيجابية. من هذا المنطلق، يمكن القول إن شعار «المساواة للمرأة تحقق التقدم للجميع»، يجد إطاره الملائم وراهنيته أيضا في السياق المغربي الحالي، الذي يميزه عمل دؤوب من أجل إرساء دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة، والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. وهو العمل الذي بدأ من سنوات يعي أهمية استحضار مقاربة النوع في مختلف المبادرات الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية، وذلك حتى قبل الحراك الاجتماعي الذي أفضى إلى منعطف تاريخي في مسيرة التحديث ببلادنا، من خلال المرور إلى السرعة الثانية في وتيرة الإصلاحات السياسية والاجتماعية، والتي كان على رأسها إقرار دستور 2011. ولقد أصبح من نافلة القول إن دستور 2011 شكل انعطافة تاريخية ليس فيما يتعلق فقط بفتح آفاق جديدة في مسلسل التغيير الديمقراطي، بل أيضا في تسليط الضوء أكثر على الملفات الاجتماعية الساخنة ومن بينها ملف النهوض بحقوق الإنسان عموما وقضايا النساء خصوصا، فكان دستور 2011 في مستوى اللحظة ورفع سقف التحديات عبر إقرار مقتضيات وآليات جديدة فيما يتعلق بتمكين النساء من نصيبهن في السياسات العمومية. وهكذا، جاء دستور فاتح يوليوز 2011 ليؤكد في تصديره على التزام المغرب بحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، في طابعهما الكوني، والعمل على تطويرهما. كما نص على حظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان. وحاولت لغة الوثيقة الدستورية، لأول مرة، استحضار مقاربة النوع من خلال الحديث في غير ما موضع عن «المواطنات والمواطنين» معا، كمكونين أساسيين وفاعلين مهمين في المشروع المجتمعي المغربي. وغير بعيد عن التصدير، نص الفصل السادس من الدستور، في إطار الأحكام العامة التي تحدد معالم السياسات العمومية، على أن «تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية، والثقافية والاجتماعية». وجاء الفصل 19 ليؤطر أكثر مبدأ المساواة من خلال التنصيص على أن «يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها». ولم يكتف الدستور بذلك بل ذهب إلى التنصيص على إحداث آليات محددة من شأنها تفعيل هذا الالتزام بالنهوض بالمساواة وتكافؤ الفرص، وضمان مشاركة النساء/ المواطنات في الحياة العامة. وفي الجانب السياسي تحديدا، يؤكد الدستور، في الفصل 30، على أن «لكل مواطنة ومواطن الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات، شرط بلوغ سن الرشد القانونية، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية». كما يلزم الدستور في الفصل 31، بخصوص السياسات العمومية، الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، بالعمل «على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة»، من الحقوق الأساسية وعلى رأسها الحق في الصحة والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية والتعليم والتكوين والشغل والبيئة والتنمية المستدامة. ودقق الدستور كذلك في بعض الأوضاع الخاصة للنساء، من خلال الفصل 34 الذي نص على ضرورة «معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات والأطفال والمسنين والوقاية منها». وعلى رأس الآليات الدستورية الكفيلة بتفعيل هذه المقتضيات، نجد هيأة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز (الفصل 19 من الدستور)، والتي حدد الدستور مهمتها ضمن الفصل 164، فيما ترك تفاصيل تكوينها وصلاحياتها إلى القانون التنظيمي. وبالإضافة إلى الهيأة كآلية أساسية، تتردد قضايا النساء ضمن عدد من الآليات التي نصت عليها فصول أخرى، كتلك المتعلقة بآليات التشاور والحوار على المستوى الجهوي لضمان مساهمة المواطنات والمواطنين في السياسات التنموية (الفصل 139)، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة. هذا بالإضافة إلى عدد من الأحكام العامة المرتبطة بالحياة العامة من قبيل التنصيص على المساواة في حق الولوج إلى المرافق العمومية (الفصل 154). تنزيل مقتضيات المساواة .. خطوات مترددة وأحلام مؤجلة إذا كان دستور 2011 قد حقق، كما قلنا، طفرة نوعية فيما يتعلق بتعزيز الحقوق الإنسانية للنساء، فإن ثلاث سنوات من تطبيق أحكامه حملت العديد من ملامح التغيير، لنقل في زاوية النظر إلى قضايا النساء في السياسات العمومية، إلا أن هذه السنوات الثلاث كانت أيضا حبلى بعوامل الإحباط والخيبة التي جعلت مشاعر التشاؤم تتملك فئة واسعة من مناضلات الحركة من أجل حقوق النساء، اللواتي بقين مصرات مع ذلك على بذل مجهود ترافعي متواصل من أجل تفعيل مقتضيات الدستور بهذا الخصوص، خاصة أن هذا الأخير، وإن جاء نصه واضحا وقاطعا في رسم خط لا رجعة فيه على مستوى الالتزام بمبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية، فإنه ترك الباب مفتوحا لمختلف الاجتهادات والحساسيات لتعبر عن نفسها في إطار التشاور حول كيفية تفعيل تلك المبادئ على المستويين القانوني والواقعي. ومازالت هذه الفعاليات ترى أن هناك بطؤا وتماطلا في تفعيل مقتضيات الدستور بشأن المساواة، خاصة في ظل تأخر خروج القانون التنظيمي لهيأة المناصفة ومكافحة كافة أشكال التمييز، التي يبدو وكأنها ستحمل على عاتقها مهمة الفصل في مختلف النقاشات المجتمعية حول المسألة النسائية. كما أن حضور النساء في السياسات العمومية، سواء كفاعل أو كموضوع، مازال مثارا لغير قليل من الجدل في ظل تأخر تبني القطاعات العمومية، باستثناء قطاع أو اثنين، لمقاربة فعلية للنوع في السياسات والميزانيات. أما عن الحضور في مواقع القرار، فحدث ولا حرج، فقد ألهبت القوانين التنظيمية للانتخابات، مباشرة بعد إقرار دستور 2011، النقاش حول آليات التمييز الإيجابي لفائدة النساء اللواتي استمر غبنهن في لوائح الترشيح وعتبات التمثيلية وبعدها في المجالس المنتخبة، على المستويين المركزي والجهوي والمحلي. ثم جاء تنصيب أول حكومة بعد إقرار الدستور الجديد كذلك، بحضور وزيرة وحيدة، ليزيد من حدة هذا النقاش وذلك الإحساس بالمرارة، وليعمق الهوة بين النص والواقع. هذا وإن حاولت حكومة بنكيران الثانية الاستدراك على ذلك من خلال استوزار 6 نساء عوض واحدة. لكن التمثيلية النسائية في الحكومة مع ذلك بقيت دون طموح المناصفة التي يتحدث عنها الدستور. ونفس الأمر يمكن تأكيده بشأن التمثيلية في مواقع القرار الإدارية والوظائف العمومية، وكذا في القطاعات المهنية. هذا ناهيك عن مسألة ملاءمة المنظومة القانونية الحالية مع مقتضيات الدستور، وهي المنظومة التي ما تزال بدورها محط انتقادات وملاحظات كثيرة، رغم الجهد المبذول مؤخرا في تعديل بعض النصوص ضمن منظومة القوانين الجنائية. وهكذا فإن المجتمع المغربي الذي أبدع دستور 2011، كنموذج يحتذى به في مجال إرساء دعائم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بشهادة كثيرين، مازال يتلمس طريقه في سبيل التوفيق بين مقتضيات دستورية متقدمة، وبين واقع سياسي واجتماعي وثقافي يستمر في اعتبار النساء ظلا لرجالهن. لكن، ونحن نحيي مناسبة 8 مارس، لابد من أن نختم هذا المشهد على نبرة من التفاؤل، فتأخر القوانين والإصلاحات يمكن أن يشفع له نقاش حيوي وبناء وجاد، يتواصل رجع صداه القوي، على مستوى التعامل الرصين مع قضية المساواة والتمثيلية النسائية ومحاربة التمييز، فهناك مقترحات قوانين تعرض من قبل الحكومة وتناقش ويعطى لها الوقت الكافي من أجل تمحيصها والتوصل إلى توافق حولها، وعلى رأسها مشروع قانون هيأة المناصفة ومشروع قانون محاربة العنف ضد النساء، وهناك دراسات واقتراحات تسهر على إعدادها مجالس وطنية (دراسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ودراسة أخرى مهمة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي) وهيئات مدنية من أحزاب وجمعيات، تساهم بمقترحاتها التشريعية ومذكراتها الترافعية، في المؤسسة التشريعية ولدى مختلف القطاعات المعنية، في إثراء هذا النقاش الحيوي وضبط توجهاته وتحديد مساراته، وهو ما من شأنه، إذا وجد آذانا صاغية لدى السلطات التشريعية والتنفيذية، أن يمكن من الارتقاء بالنصوص القانونية المرتقبة إلى مستوى روح ومبادئ الدستور المغربي أولا، وكذلك، وهذا هو الأهم، أن يسهم في تغيير العقليات وتغلغل ثقافة المساواة والتوافق والتضامن في المجتمع، بما ينسجم مع الإرادة الأكيدة والاختيار الحاسم اللذين عبر عنهما المغرب والمغاربة في التغيير والدمقرطة. لكن الأكيد أن هذا المجهود الفكري، رغم ضرورته وإيجابية التأني فيه، لا ينبغي أن يستمر إلى ما لا نهاية، ونحن اليوم على أبواب استحقاقات في مختلف مستويات التمثيلية، وبالتالي فإن مطلب الإسراع بإخراج القوانين التنظيمية أصبح بدوره ملحا، علما أن أي نص تشريعي يبقى قابلا للنقاش والتعديل في سياق ملاءمته مع مطالب الإصلاح ومسارات التطور في المجتمع، وعلى رأسها مطلب الكرامة والعدالة الاجتماعية لكل الفئات.