عبر تشكيل حكومة بنكيران في نسختها الثانية نجاحا آخر للملك محمد السادس رغم كل المؤاخذات والانتقادات لهذه الحكومة. نجح الملك في تدبير الوضع المستجد وطنيا وإقليميا بنفس المنطق الذي دبر به مرحلة بداية ما سمي بالربيع العربي الذي طغى عليه شعار «ارحل» وتميز بالعنف الذي واجه به الحكام العرب مطالب الشارع بينما تميز المغرب بالتفاعل السريع للملك مع الحراك العام بخطاب 9 مارس التاريخي وما تلاه... مما سمح بالحديث عن الاستثناء، بل لنقل التميز المغربي وإرساء نموذج يقتدى به. غير أن بعض النخب والقوى السياسيه المغربيه لم تستوعب بعد هذا التميز وهذا النموذج الذي يدافع عنه آخرون من خارج بلدنا، والدليل الدعوة، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى الاقتداء بالمسار المصري الحالي... فعندما كان ميدان التحرير في القاهرة يرفع بقوه شعار «ارحل» في وجه مبارك قال الكثيرون عندنا في المغرب إن بلدنا استثناء ومتميز ولا علاقة له بما يجري في الشرق، وإن حالتنا تختلف تماما، وهذا أمر صحيح إلى حد بعيد، وحتى حركة 20 فبراير كانت واعية، عموما، بتميز الحالة المغربية حيث كان المطلب الطاغي هو الملكيه البرلمانية وليس رحيل النظام. وتعامل الملك بشكل إيجابي ورسخ هذا الاستثناء بدستور جديد وحكومة من إفراز صناديق الاقتراع، وشكل ذلك مكسبا تاريخيا حقيقيا كان على كل القوى الديمقراطية فعلا أن ترسخه وتعمل على تطويره بغض النظر عمن يتحمل مسؤولية رئاسة الحكومة اليوم، فإذا رسخنا هذا المبدأ الديمقراطي فالمستفيد هو كل الوطن وكل القوى الديمقراطية، فالحكومات تتغير ويمكن غدا أن يتصدر حزب آخر أو تحالف حزبي نتائج الانتخابات يستفيد من ترسيخ مبدأ الحكومة المنبثقة من صناديق الاقتراع. لكن عندما رفع ميدان التحرير في مصر، وفي ظروف أخرى، شعار ارحل في وجه الإخوان، شرعت قوى ونخب، تحدثت كثيرا عن الاستثناء المغربي، في مقارنات غير منطقيه وطالبت بالسير على النهج المصري، أي إقصاء بل والعمل على استئصال تيار سياسي وصل إلى السلطة عبر الانتخابات. لم يعد المغرب استثناء ولا بعيدا عما يجري في الشرق، بل أصبح في نظر هؤلاء ينطبق عليه ما ينطبق على مصر، دون الانتباه إلى خطورة ذلك. خطورة هذه المقاربه تتجلى في كون حالة مصر تتميز بحضور الجيش كقوة رئيسية فاعلة ومقررة وصانعة رؤساء الدولة، ولا يمكننا بأي حال القبول بأن يصبح الجيش هو الفاعل الأساسي عندنا، ولا يمكن له ذلك أصلا. والمشكل في مصر مطروح على مستوى القمة أي رئيس الدولة وهو إشكال غير مطروح في المغرب، فلا منازعة على مستوى رئاسة الدولة، والملك ينال إجماعا من طرف الشعب ومن طرف كل القوى السياسية، وحتى الراديكالية منها تعترف ضمنيا بشرعية الملكية وليس لها عمليا أي بديل له مصداقية وقابلية التحقق، وأقصى ما تطالب به عمليا هو الملكية البرلمانية. والنزاع في مصر حول الدستور، وفي المغرب دستور تمت صياغته بتوافق كل القوى السياسية ما عدا استثناءات لا أهميه لها ولا تأثير حقيقي لها في المجتمع. وفي مصر حكومة هيمن عليها تيار واحد سواء في عهد الإخوان أو اليوم، أما في المغرب فهناك حكومة ائتلافيه وليست إسلامية أو ملتحية ولا حتى نصف ملتحية. وفي مصر تدخل العسكر للتحكم في الحياة السياسية بدون أي شرعية حقيقية، وفي المغرب يتدخل الملك بصلاحياته الدستورية، وبصفته كحكم، وبوضعه الرمزي كموحد للأمة، وبثقله المعنوي وما يحظى به من احترام شعبي وحزبي... أي وجه للمقارنة إذن؟ وكيف يسمح البعض لنفسه بتجاهل كل هذه المعطيات الموضوعية وطرح النموذج المصري كنموذج يقتدى به في وقت يجمع فيه أغلب المحللين لما يسمى بالربيع العربي أن النموذج الذي ينبغي الاقتداء به فعلا هو بالذات النموذج المغربي. واعتقد انه من باب الروح الوطنيه الاعتزاز بهذا النموذج والدفاع عنه وعن صوابه وطنيا ودوليا لمن يستحضر فعلا وممارسة المصلحه العليا لوطننا. الملك محمد السادس رسخ ، مرة أخرى، الاستثناء المغربي في التعامل مع التحولات الجاريه عندما تعامل مع كل الدعوات الحمقاء لمسايره النموذج المصري الحالي بتجاهل وحكمة ،ومارس اختصاصه الدستوري دون تحريف دعت اليه ضمنيا قوى تدافع عن التأويل الديمقراطي للدستور صباح مساء ،وذلك عندما تمسك بالسيد بنكيران كرئيس للحكومه حسب ما يقتضيه الدستور، واستمرار التجربة ولو بميزان قوى جديد وتشكيله تعكس هذا الميزان وتعبر عنه ،وهذا امر يتجاهله او يجهله عدد ممن يعتبرون انفسهم محللين سياسيين في المغرب ،فهم لا يستحضرون مثلا ان الملكيه في المغرب منذ عقود بل قرون تعمل على ضمان التوازن، وان موازين القوى في المجتمع هي الحاسمه في القرارات الكبرى،هكذا كان الامر في الماضي عندما كان الصراع بين القبائل والمناطق، فعندما يشتد الصراع يتدخل السلطان بإجراءات لضمان التوازن واستمرار الدوله دون ميل كامل لهذه الجهة او تلك ،واعتقد ان هذه الخلفيه التاريخيه هي التي افرزت مفهوم التحكيم الملكي الذي لا يتم بعيدا عن موازين القوى المشار اليها اعلاه. الملك اذن نجح مرة اخرى في تدبير المرحله عندما قال ،ضمنيا، لكل هذه الاصوات التي دعت عمليا الى الانقلاب على الدستور وعن نتائج الانتخابات ، لاشان لنا اليوم بما يحدث في مصر وفي الشرق عموما كما كان الامر زمن ارحل تماما، وكان بذلك منسجما في تصوره للاستثناء او للتميز المغربي.اولئك الذين تحمسوا وصفقوا لإقصاء الاخوان بشكل غير ديموقراطي في مصر ارادوا الاستفاده من هذا المعطى الجديد في حربهم الشامله ضد حزب العدالة والتنمية دون الانتباه الى ضرورة الانسجام بين موقفهم السابق زمن ارحل المتمحور حول استثناء وتميز المغرب وموقفهم اليوم الذي ينفي هذا التميز في الوقت الذي كان ينبغي لهم استحضار اطروحه التميز التي مفادها ان ما يحدث في مصر شان مصري ،وان الصراع هناك بين الاخوان والدولة صراع وجودي عمره عقود من الزمن،اما في المغرب فليس هناك صراع من هذا النوع بل صراع سياسي بين احزاب سياسيه، وصراع بين اراده الاصلاح وإرادة المحافظه على وضعيه الفساد والريع والامتيازات..اما الصراع الفكري فلا يمكن حسمه بالاقصاء بل بالحوار والاجتهاد، فهو صراع موجود وسيستمر في المجتمع ويتم التعبير عنه بتنظيمات وهياكل ووسائل للتواصل التي اصبحت متقدمه وغير قابله للتحكم الكامل . وينبغي اضافه امر اخر له اهميته وهو ان ما يحدث في مصر الان لا يعبر سوى على انتصار جزئي وبالقوه للقوى التي دبرت واستفادت من نظام مبارك ،والصراع العنيف مستمر، يتم التعبير عنه اليوم بالمظاهرات المستمرة وقد يتخذ لا حقا اشكالا اخرى ومنها العنف المسلح وعودة الارهاب الاصولي الديني من خارج وحتى من داخل جماعه الاخوان المسلمين.لم يتم حل أي مشكله في مصر بعد الانقلاب العسكري بل تم تعقيد الوضع اكثر، وتبين ان شعارات الديمقراطيه والحرية وغيرها من الشعارات التي سطى عليها العسكر لتبرير الانقلاب وكسب دعم التيارات العلمانيه ما هي الا شعارات زائفه ،ومنع برنامج بسام يوسف دليل واضح على ذلك...كيف ، والحالة هذه ،الاقتداء بنموذج فاسد وفاشل مسبقا والتخلي عن النموذج المغربي الذي بين، رغم كل المؤاخذات ،على صوابه وقدرته على استيعاب التحولات الاجتماعية والسياسية وضمان الاستقرار الضروري لكل تنميه ومعالجه القضايا الحقيقية للشعب وليس قضايا نخبة سياسيه ، وحتى اعلاميه وثقافيه،فاسده وتائهة. فمهما كان تقييمنا للتجربه الحكوميه الحاليه، سواء في نسختها السابقه او الجديدة، فان الجوهر هو الحفاظ على هذا المسار الديمقراطي وترسيخ ما جاء به دستور2011 بخصوص تشكيل الحكومات ورئاستها،فهذا مكسب ديمقراطي ثمين لا ينبغي التفريط فيه لا عتبارات ذاتيه مرحليه تخص اشخاصا بعينهم وقوى سياسيه معينه محافظه في العمق( بمعنى الحفاظ على النظام المخزني كما كان منذ الستينات يسمح بالريع والكوطا الانتخابيه والفساد واستفاده النخب الثقافيه من الريع تحت يافطات النضال والشعارات الجذابة) ،نخب وقوى كثير منها فاسده ،وليس لها ان تقدم دروسا لاحد. محمد السادس تمسك بخيار النموذج المغربي المتميز ونخب تقول عن نفسها ديمقراطيه وحداثيه تدعو الى العوده الى الماضي وإلغاء ألدستور عمليا ،ورفض نتائج صناديق الاقتراع .انه تجلي اخر من تجليات التيه الذي تعيشه بعض النخب المغربيه ومحدودية استيعابها لفكره الديمقراطيه.