بين الجيش المصري وحركة الإخوان المسلمين قصة طويلة من الحذر والسياسة (والدم). لأن الصراع ظل صراع شرعيات اجتماعية، بمرجعيات لم تفلح دائما في إبداع ممكنات للتعايش بين تلك الشرعيات. وكم هو ماكر حدث اليوم، أن يكون صراع "شرعية" مرة أخرى. ألم يقل الرئيس المقال محمد مرسي، كلمة "الشرعية" أكثر من 35 مرة في خطابه الأخير؟. ألم يتأسس بيان التحول على عبارة "الشرعية الشعبية"؟. بالتالي، فإن اللحظة المصرية، جزء من تاريخ صراع، وصانعة لتاريخ جديد. وهي من الكثافة ما يصعب معه الجزم بحكم نهائي حول مآل الذي يجري، وحول حقيقة الخلفيات الثاوية، غير المعلنة، وراء هذه التطورات المتلاحقة. لكن الجديد، هذه المرة، هو أن الصراع يتم حول الشرعية الشعبية، بعد أن كان الصراع من قبل صراعا بين نخب، منذ حادث المنشية الشهير بالإسكندرية ضد الزعيم الوطني المصري جمال عبد الناصر. وعبارة "الزعيم الوطني المصري" هنا، ليست فقط بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الأكاديمي. لأن مصر في تاريخها الحديث، عرفت ثلاث زعامات وطنية مؤثرة ووازنة، هي محمد علي (مؤسس الدولة المصرية الحديثة) وسعد زغلول (مؤسس الوعي القومي الوطني التحرري من الإستعمار مصريا) وجمال عبد الناصر (مؤسس الجمهورية الأولى بالمعنى المدني الحديث للدولة). بالتالي، فإن الصراع المحتدم الآن هناك، هو صراع يحتكم لمنطق جر الخصم إلى الخطأ لتشويه صورته مجتمعيا، أي تلطيخ صورة "شرعيته اجتماعيا". وهذا يفتح باب جنهم حقيقية أمام أمن مصر القومي، سمح ببروز اصطفافات كانت محتجبة، بشكل سافر، ينزل من تيرمومتر التوافق، ويعلي من التطرف. مثلا، حين حدتث جريمة الإسكندرية، التي رمي فيها مواطنون عزل من فوق سطح عمارة، وصارت الصور تلك عابرة للقارات، ظل المتتبعون للملف المصري بروية يضعون أيديهم على قلوبهم، حول رد الفعل الذي قد ينجز لمسح أثر تلك الصور الإسكندرانية، ولم يتأخر الرد أكثر من 48 ساعة، حين سقط قتلى في مساجد وأمام الحرس الجمهوري، برصاص لا تزال الإتهامات متبادلة حول من كان وراءه (الزعيم الإخواني البلتاجي نفسه لم يعلن مصدر الرصاص، ولم يتهم الجيش مباشرة). فالصراع هنا صراع صور وأثرها على "الشرعية الشعبية". هذا على مستوى الصورة الخارجية للمشهد، لكن، ماذا عن القراءات الممكنة لفهم "الحالة المصرية" اليوم؟. إن الحقيقة، التي قد لا يتقبلها الكثير من الناس، هي أن الحالة المصرية، عادية جدا اليوم، بحكم أنها بداية ترسيم الدولة المدنية، بقرار من رجل الشارع المصري وليس النخبة. لأن التحول الهائل الذي عاشته مصر (مثلها مثل أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، بتفاوتات يحكمها طبيعة النسيج المجتمعي والتراكم التاريخي لكل تجمع مجتمعي عربي وإسلامي على حدة. بدليل أن الحالة التركية والإيرانية والمغربية، ليست هي الحالة المصرية وليست هي الحالة الخليجية)، التحول الذي عاشته مصر على امتداد قرن من الزمان، هو أن التحول سياسيا فيها، ظل دوما يتم بمبادرات نخب فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية، أما اليوم منذ 25 يناير 2011، فإن التحول يتم بقوة رجل الشارع، الذي خرج ليطالب بحقه في واجبات خدمات المدينة، أي أنه خرج، ليطالب بحقه الكامل في "نظام المدينة"، بالشكل الذي تبلور على امتداد أكثر من 150 سنة، في المجتمعات الأروبية. وأن هذا الحراك المجتمعي (وهو حراك حقيقي وليس حراك نخب)، بدأ يصنع نخبه، وبدأ يصنع خطابه، وبدأ يصنع فكره وثقافته وسلوكه. وفي لحظات مماثلة، يحتدم الصراع بين المرجعيات: واحدة ناهضة، صاعدة، وأخرى قائمة، ماضية، تتلاشى. هنا يحضر قويا، منطق صراع الهويات. وفي الحالة المصرية، اليوم، هو صراع بين مرجعيتين و "مشروعيتين": واحدة مدينية، جمهورية، ليبرالية. والأخرى، مدينية، جمهورية، محافظة. أليس هنا يكمن صلب الصراع المصري اليوم؟. فهو صراع نموذجين، والشارع مجال مثالي للدفاع عن كل نموذج. وهنا للحقيقة، أصبحت مصر مشتلا تاريخيا هائلا للتجريب، سيكون لنتائجه ما بعده، ليس في مصر فقط، بل في كل محيطها الجهوي القريب (بالمشرق العربي، لأن المغرب العربي حكاية أخرى تاريخيا ومجتمعيا وسلوكيا). لنعد للسؤال البسيط: ما الذي يجري في مصر؟. هل هو صراع تاريخي (دموي) بين الجيش والإخوان، أم إنه صراع بين شرائح واسعة من المجتمع المصري والعائلة الإخوانية؟. هل هو صراع مصري مصري، أم هو صراع جهوي يصفي حساباته داخل مصر؟. الحقية، إنه كل ذلك. لأن ترتيب المعطيات، وتجميعها يعطي معنى معينا للأحداث، ويسمح بالتأويل لفهم حقيقة ما يجري ببلاد الكنانة. وترتيب تلك المعطيات، يسمح بالجزم، على أن ما وقع ليس "انقلابا عسكريا"، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لأن الجيش كمؤسسة وطنية، إنما تجاوب مع حركية قوية للشارع (من الوهم ومن الخطل السياسي اعتبار الملايين التي نزلت للساحات منذ يوم 30 يونيو 2013، فلولا، أو متحكما فيها بنية سيئة). ولعل أغرب تعليق قرأه المتتبع، ذلك الذي صدر بواشنطن، الذي تساءل في استغراب، كيف تسقط مظاهرات رئيسا منتخبا بشكل ديمقراطي؟. وهذا سؤال مثير، لأن المنطق الطبيعي في الحركية الحقوقية للشعوب، أن الحق في التعبير عن الرأي مقدس، وأن الشرعية الشعبية أعلى سياسيا من الشرعية الإنتخابية، لأنه يحق لها أعادة العدادات الإنتحابية إلى نقطة الصفر، فهي لا تلغيها كخيار ديمقراطي للإختيار، بل تطالب فقط بإعادتها كآلية سلمية للإختيار بالتصويت العمومي الحر. دون إغفال كونها آخر الأسلحة التي تستعمل لترجمة مطلب التغيير، سلميا ومدنيا. وإذا ما أضيف إلى ذلك، قرار إخلاء السفارة الأمريكية وإجلاء الطلبة الأمريكيين من مصر، وتوقيف مساعدات مالية بالكونغرس، يطرح السؤال عن ما الذي يقلق واشنطن من التطورات المصرية؟. وهذا أمر لم يسلط عليه الضوء كما يجب حتى الآن. لأنه إذا كان المرء يثق في التقارير الأمريكية الأمنية، كونها تنبني على نتائج بحث ميدانية احترافية، فإنه لا يمكن أن يثق فيها سياسيا. لأنه، لا يمكننا بخفة ثقة عمياء، أن نصدق أن ما يحرك واشنطن هو أمر مبدئي حقوقي في الملف المصري، بدليل أن تاريخها يشهد أنها ظلت تنصر أشد الديكتاتوريات في العالم (أمريكا اللاتينية كمثال فقط)، حين خدم ذلك مصالحها الآنية، متناسية الحقوق المدنية للشعوب الرازحة تحت عذابات تلك الديكتاتوريات. والموقف الأمريكي الجديد حول "الحالة المصرية اليوم" مثير ويسمح بقراءات متشعبة عديدة. هنا لنقرأ تطورات القاهرة منذ ما قبل وبعد انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا لمصر، بما تسمح به الوقائع، ولاشئ آخر غير الوقائع. ولأنه كثيرا ما يقارن ما يقع في مصر بما وقع زمن الثورة الفرنسية، فإنه سيكون من التجني على الحقيقة التاريخية، اعتبار الفريق أول عبد الفتاح السيسي، نابليون مصر، بسبب اختلاف اللحظة التاريخية، واختلاف منطق ميزان القوى داخليا وخارجيا بين التجربتين والرجلين. لكن ذلك لا يلغي الإنتباه بتجرد علمي تاريخي، إلى أن للجيش كقوة مجتمعية، ممتلكة للعنف، دور في أي تحولات تاريخية مماثلة، لأنها مؤسسة تنتصر دوما لمنطق الدولة في الأول والأخير. ذلك ما جعل نابليون يكون نابليون، وذلك ما يجعل السيسي، يكون السيسي اليوم، مع الفارق طبعا بين السياقين المصري والفرنسي، لأن عالم 1799 (عشر سنوات بعد انطلاق الثورة في فرنسا) ليس هو عالم 2013 (سنتين بعد انطلاق الثورة في مصر). ولعل أكبر الفروق أن نابليون تحالف مع العائلة الفكرية والسياسية الفرنسية المالية الدينية المسيحية المحافظة، وحول القضية الفرنسية إلى قضية أروبية من خلال غزو أروبا ومحاولة تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة فرنسية (احتلال ألمانيا وإيطاليا ثم مصر وفلسطين وبعده بسنوات احتلال الجزائر). فيما الفريق أول السيسي اليوم متحالف مع القوى الليبرالية المالية والدينية في مصر، بشرعية شعبية عبرت عن نفسها بقوة (وبالملايين) في ميادين مصر. لقد اصطفت هذه القوى الوطنية المصرية، عمليا إلى جانب الدكتور محمد مرسي في انتخابات الرئاسة (الأولى ديمقراطية في مصر الحديثة)، لمواجهة مرشح المؤسسة المالية والسياسية السابقة، الفريق أحمد شفيق (آخر رئيس وزراء مبارك)، التي تكونت منذ عهد السادات ما بعد حرب أكتوبر 1973 (لأن السادات، كنظام سياسي، بعد تلك الحرب غير السادات ما قبلها). وبعد الإنتصار التاريخي لمرشح الإخوان، بعد تدافع عنيف مع سلطات مصر لأكثر من 80 سنة، دخلت جماعة الإخوان أصعب امتحانات وجودها كتنظيم سياسي وكمشروع فكري له امتدادات خارج مصر. ولعل أكبر التحديات التي طرحت أمامها: هل سينتصر فيها منطق الدولة، أم منطق الجماعة؟. بمعنى آخر، هل سيكون ذلك الإنتصار الإنتخابي ديمقراطيا، فرصة تاريخية للجماعة لتؤسس لمنطق رجال الدولة، أم إنها ستتبع منطق بنيتها الفكرية المتأسس على يقين أن السلطة "مغنم"؟. للأسف، في سنة واحدة، لم تفلح جماعة الإخوان سوى في مخاصمة فرصتها التاريخية للتحول إلى عائلة قائدة للتحول في مصر، بمنطق رجال الدولة، خاصة بعد تحقق تصالح تاريخي بينها وبين مؤسسة الجيش على عهد المشير محمد حسين طنطاوي، الذي كم هو مفارق أنه كان أول ضحاياها رفقة الفريق سامي عنان. ومع مرور الشهور، اتضح أن الرئيس محمد مرسي، يشتغل بمنطق الجماعة (تأثير المرشد العام للإخوان حاسم)، وليس بمنطق الشرعية الإنتخابية التي تمنحه استقلالية القرار كرجل دولة للجمهورية المصرية الثانية. كانت البداية بالصراع مع القضاء المصري حول استقلاليته ودستورية قراراته، وحول التحكم في مناصبه المقررة كمؤسسة حاسمة في دولة الحق والقانون. ثم الصراع مع باقي الفرقاء السياسيين حول وثيقة الدستور، التي لم تنجز بمنطق التوافق، بل بمنطق الغالب (وهذا خطأ آشيل القاتل في مرحلة الدكتور مرسي، الذي اعترف به هو نفسه في آخر حواراته الصحفية). ثم الصراع مع الأزهر على مستوى التسيير وإصدار الفتوى. ثم الصراع مع الرأسمال المالي المحلي المصري، في العلاقة مع سياسات صندوق النقد الدولي ومساعداته المشروطة. ثم الصراع مع الإعلام، الذي صدرت أحكام وقرارات بإغلاق قنوات تلفزية وسجن صحفيين واعتقال بعضهم (أمر التعدي على الحريات الصحفية سبقت حكومة مرسي السلطة الحالية إليه، مما يترجم تاريخيا أن كل صراع سياسي يكون الصحفي ضحية فيه. وهذا موضوع آخر دو شجون). ثم مواجهة تحركات جزء هام من شباب ثورة 25 يناير، بمنطق العصبة وليس منطق الدولة، حين تم تجييش أتباع الإخوان ضد متظاهري القاهرة أمام القصر الرئاسي في الشهور الستة الأخيرة، وسقط قتلى وجرحى. كل هذه الجبهات، جعلت الرئيس مرسي يغرق أكثر في أيدي جماعته، وفي أيدي المرشد العام للإخوان (محاولة تكرار التجربة الإيرانية الخمينية، وهذا وهم سياسي كبير سقط فيه الإخوان، أبان أنهم غير دارسين لطبيعة الذهنية المجتمعية المصرية غير الغنوصية كما هو الحال في بلاد فارس)، وظل بالتالي يبتعد عن واجب رئيس الدولة وعن انتظارات رجل الشارع الملحة اليومية. وكان آخر خطاب له بعد "تمرد" 30 يونيو 2013، النقطة التي رسخت عمليا أنه مفتقر لمنطق رجل الدولة، فهو لم يكن دوغول 1968، بل تحدث بمنطق التحدي وبلغة العنف والدم والموت، وهذا يفتح الباب أمام خيار الدم، ومنح الفرصة المثالية ليمارس الجيش دوره الطبيعي في أن يحمي البلد من فتنة التصعيد الدموي، فتجاوب مع مطلب الملايين النازلة للميادين لمرحلة انتقالية تهيئ لانتخابات رئاسية جديدة ودستور جديد وبرلمان جديد. ولابد من الإنتباه أن الأمر تم بوثيقة موقعة (عقد) بين الجيش ومؤسسات مدنية وسياسية ودينية، بشروط محددة وملزمة، وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ مصر السياسي الحديث. إذا أضفنا إلى ذلك، ما قامت به جماعة الإخوان عبر رئيسها محمد مرسي من خطوات في محيطها الإقليمي، تكتمل الصورة أكثر. لقد تحالفت مع قطر (الإخوانية عمليا) ضدا على السعودية، التي دخلت معها في مناوشات رمزية (قصة المحامي المصري المعتقل)، والسعودية عمليا عمق هائل لمصر ماليا وعلى مستوى اليد العاملة، وربطت الجسور بشكل غير مسبوق مع إيران، ومع حكومة المالكي بالعراق، وابتعدت عن تركيا، وسكتت تماما عن إسرائيل (التي أعلنت رسميا التزامها بكل بنود اتفاقية كامب ديفيد واعتبر الرئيس مرسي رئيس الدولة الإسرائيلية بيريز رجل دولة محترم) وتحالفت مع حماس في ما يشبه إلحاقا أمنيا لقطاع غزة بمصر. ما جعل الصورة العامة لمصر جهويا، تصطف في حساب سياسي جيو- ستراتيجي جديد غير مسبوق، ليست واشنطن بعيدة عنه (من هنا رد الفعل غير الواضح أمريكيا حتى الآن)، لأن الكثير من المعطيات تشير إلى أن خارطة جديدة تصنع في المشرق العربي، لإيرانوواشنطن وتل أبيب دور حاسم فيها، ومجال بروزها الأكبر هو المأساة السورية والثورة المصرية (هذا موضوع يستحق ورقة مستقلة). ما الذي ستؤول إليه التطورات في بلاد محمد علي باشا، وسعد زغلول وجمال عبد الناصر وحسن البنة؟. التقاطب القائم الآن، كارثي بكل المقاييس، والصراع بين الشرعيات بدون سقف وطني وبدون حكمة عقلاء منتصرين لمصر في الضفتين معا، لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائجه. وواضح أن الذكاء المصري في امتحان، للإنتصار أولا وأخيرا للبلد والناس والمصالح القومية العليا لهما. أما التجييش والفعل العنيف ورد الفعل الأعنف منه، إنما سيؤخر على بلاد النيل حلا سياسيا قادما بقوة منطق الأمور، وهو انتخابات رئاسية سابقة لأوانها ودستور جديد محقق للإجماع حوله، وانتخابات برلمانية وبلدية عامة ونزيهة، ودولة مدنية منتصرة للحق والعدل والمؤسسات الديمقراطية والتعدد. حينها سينزل الجميع للتصويت، وكم يتخيل المرء صفوف المنتخبين الطويلة لميلاد مصر الجديدة، حينها لن يبقى في مصر حزب إسمه "حزب الكنبة". فالدرس الذي تعيشه الناس في الميادين هو من الغنى، ما يجعل الكل يدرك أن المهدد بالموت والزوال كقوة إقليمية وازنة، هي: مصر. فهل في ضفاف النيل عقلاء وطنيون؟. التاريخ علمنا دوما أنهم فيها بكثرة.