بعد أكثر من شهر ينتظر أن يعلن محمد مرسي غداً عن فريقه الرئاسي وعن تشكيل أول حكومة في الجمهورية الثانية. التأخير يعكس الصراع الخفي على السلطة بين المجلس العسكري ومؤسسة الرئاسة التي تمسك بها جماعة «الإخوان» من دون أن يتمكن مرسي من التمييز بين انتمائه ل «الإخوان» وكونه رئيساً لكل المصريين. فالرجل في طريقة تفكيره ومنهجه في العمل وخطابه السياسي ملتزم بمدرسة «الإخوان» تماماً بما في ذلك الخلط بين السياسي والدعوي، والتركيز على المغالبة لا المشاركة والاستئثار بالحكم، ما أدى إلى توتير علاقة الرئاسة بالقوى المدنية، والتي اتهمت مرسي بالتنصل من وعوده الانتخابية باختيار رئيس وزراء سياسي، والبطء والغموض في قراراته حتى إن البعض اتهمه بتقليد طريقة حسني مبارك في الحكم واختيار معاونيه. لا أتصور أن مرسي يقلد مبارك وأرجح أن صراعه غير المعلن مع المجلس العسكري وراء ارتباك الرئاسة وتأخير قراراتها، ورغم عدم توافر معلومات حول تفاصيل الصراع إلا أن آثاره تطفو على السطح، وتعطل دولاب العمل في الثورة والدولة المصرية على حد سواء، ويمكن حصر مجالات الصراع في: 1- العلاقة بين الرئيس وأجهزة الدولة: بعيداً من الخطابات الودية المعلنة فثمة مؤشرات عديدة تؤكد أن بعض مؤسسات الدولة لا تتعاون بالدرجة المطلوبة مع الرئيس، بعضها يثير مشكلات قانونية وإجرائية، وبعضها يتراخى في الأداء، لذلك لم يحدث تقدم ولو محدود في القضايا الخمس التي منحها مرسي أولوية خلال ال 100 يوم الأولى من رئاسته وهي الأمن والخبز والطاقة والنظافة والمرور بل إن بعضها ازداد سوءاً. والمشكلة أن هناك أزمة ثقة وانقسامات في الحكومة الجديدة قبل الإعلان عن تشكيلها، فالمجلس العسكري سيختار من يتولى الوزارات السيادية، والبيروقراطية المصرية العتيقة لم ترحب كثيراً برئيس وزراء في الخمسين من عمره فهو بالنسبة لها شاب صغير! ثم إنه ملتح! وغير معروف منها. والحقيقة التاريخية أن بيروقراطية الدولة المصرية بطابعها محافظة وتقاوم التغيير أياً كان اتجاهه، بدليل أنها قاومت توجهات التحول الاشتراكي أيام عبدالناصر، ثم قاومت انفتاح السادات والتحول الرأسمالي، ومن المرجح أنها ستقاوم بأسلحتها المختلفة التحول الإسلامي، بل قد تقاوم أي تحول إصلاحي يعيد للدولة هيبتها ويخلصها من الفساد والتفكك الذي ضرب مؤسساتها. في هذا الإطار يتهم «الإخوان» المجلس العسكري بتوظيف واستخدام البيروقراطية والدولة العميقة والسلطة القضائية من أجل إفشال حكم مرسي، ويروج خطابهم هذا الاتهام على نطاق واسع ويدلل عليه باستمرار انفلات الأمن وتورط القضاء في أحكام ومواقف ذات طابع سياسي، وبغض النظر عن حقيقة تلك الاتهامات فإنها تمثل آلية مفيدة لحشد جماهير «الإخوان» ضد العسكر، وفي الوقت نفسه تبرير فشل حكم «الإخوان» أو تعثر أداء الرئيس مرسي وحكومته. 2- الصراع على الاقتصاد: رغم تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار إلا أن ثمة صراعاً خفياً يدور حول طبيعة الاقتصاد في الجمهورية الثانية وحدود دور رجال الأعمال وعلاقتهم بالسياسة، وهل سيحل رجال الأعمال المنتمون ل «الإخوان» – معظمهم تجار – مكان رجال الأعمال المرتبطين تاريخياً بمبارك ونظامه، والذين يسيطرون حتى الآن على مجمل الأنشطة الاقتصادية، وقد برز دور هؤلاء في دعم حملة احمد شفيق ضد مرسي، لكن الأهم أن مخاوفهم من «الإخوان» دفعتهم للتوقف عن ضخ مزيد من الاستثمارات، بل وتوقيف بعض المشاريع القائمة في محاولة للضغط على الرئيس مرسي، ما يعني أن الاقتصاد في مقدمة أدوات الصراع بين العسكر و»الإخوان»، بخاصة أن رجال الأعمال محسوبون على العسكر والقوى المدنية. كما أن الاقتصاد التابع للجيش - يقدر بنحو خمس الاقتصاد المصري - ليس بعيداً من ساحة الصراع، حيث تطالب قوى الثورة بتخفيضه وإدماجه في الاقتصاد الكلي للدولة وإخضاعه للمراقبة الشعبية. 3- كتابة الدستور: تسابق اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور الزمن للانتهاء من أعمالها قبل صدور حكم قضائي متوقع بعدم دستورية تشكيلها، حيث ترفض القوى المدنية طريقة تشكيل اللجنة والذي لا يخلو من عيوب عرّضت التأسيسية الأولى للحكم بعدم الدستورية، ومع ذلك يواصل «الإخوان» وحلفاؤهم كتابة دستور على خلفية صراع وانقسام سياسي، فأغلبية القوى المدنية لا تشارك في كتابة الدستور، بينما يتشدد السلفيون في مطالبهم وصياغاتهم حول أحكام الشريعة الإسلامية، ويجتهد «الإخوان» في ترويض السلفيين والصراع مع العسكر بشأن صلاحياتهم ومناقشة موازنة الجيش كرقم مجمع، وكذلك في علاقة القضاء العسكري بالسلطة القضائية. القصد أن الانقسام والاستقطاب السياسي علاوة على الاستعجال ومسابقة الزمن قد تعرقل كتابة الدستور أو تؤدي إلى حلِّ اللجنة التأسيسية قبل أن تنهي أعمالها وتعرض الدستور للاستفتاء العام، وحتى بافتراض نجاح التأسيسية في إصدار دستور فإنه لن يعيش طويلاً، لأنه دستور غير توافقي. 4- الصراع على الإعلام: من المفارقات الغريبة في مصر أن الهيمنة السياسية والثقافية التي حازها «الإخوان» والسلفيون لا تعكسها هيمنة إعلامية، فأغلب العاملين في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة وفي صناعة السينما والدراما لا يرحبون بحكم «الإخوان»، وقد تورط كثير من الإعلاميين في تغطيات متحيزة ضد التيار الإسلامي، وضخموا في أخطائه، بينما فشلت الصحف الإسلامية وقناة التلفزة التابعة ل «الإخوان» في مجاراة الحملات المعادية، حيث قدمت إعلاماً دعائياً تقليدياً متواضعاً مهنياً، فضح افتقار «الإخوان» والسلفيين لكوادر إعلامية احترافية، ويعترف الإسلاميون بذلك ويشعرون أن الحملات الإعلامية ضدهم كانت من أهم أسباب تراجع شعبيتهم. من هنا تحركت جماعة «الإخوان» لفرض هيمنتها على الصحف الحكومية والتفاهم مع التلفزيون الحكومي والقنوات الخاصة، وذلك من خلال استغلال مجلس الشورى الذي يسيطر عليه «الإخوان» في تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية، تماماً كما كان يفعل الحزب الوطني الذي كان يسيطر علي مجلس الشورى. من هنا اعترضت أغلبية الصحافيين ومجلس نقابة الصحافيين على استخدام «الإخوان» نفس القواعد والقوانين التي كان يستعملها مبارك وصفوت الشريف في الهيمنة على الصحف الحكومية. ولجأ بعض الصحافيين إلى القضاء لكن مجلس الشورى يسارع الزمن لتسمية رؤساء تحرير متعاونين مع «الإخوان» قبل صدور أحكام قضائية متوقعة بعدم دستورية مجلس الشورى ووقف إجراءات اختيار رؤساء تحرير الصحف. ولا شك في أن محاولة «الإخوان» الهيمنة على الصحف القومية قد تسببت في توتير علاقة الجماعة بالصحافيين، وإثارة مناخ من الخوف وعدم الثقة في نيات «الإخوان» من استقلال وحرية الصحافة والإعلام، حيث تتخوف بعض القنوات الخاصة من تضييق حكومة «الإخوان» على حريتها في تغطية الأحداث وبث البرامج الحوارية. هذه القضايا الأربع هي أهم مجالات الصراع الصامت والمميت بين العسكر و»الإخوان» على السلطة، لكن لا بد من الإشارة إلى أن القوى المدنية تشارك في هذا الصراع بشكل غير مباشر من خلال دعمها لأحد الطرفين، حتى وإن كان موقفها الدائم ضد هيمنة العسكر واستفراد «الإخوان» بالحكم. وهنا قد يصح القول إن مخاوف القوى المدنية من «الإخوان» تدفع ببعضهم إلى أحضان العسكر سواء بقصد أو من دون قصد، لكن تظل هناك قوى مدنية أغلبها ذات طابع شبابي تحاول بلورة بديل ثالث يرفض العسكر و»الإخوان». وحتى تتمكن تلك القوى من تجاوز ابتعادها عن الواقع وتشرذمها سيظل الصراع بين العسكر و»الإخوان» يتصدر المشهد السياسي، ويقود مصر نحو هاوية السقوط ضمن الدول الفاشلة، نتيجة: أولاً: أن العسكر و»الإخوان» غير قادرين على اقتسام السلطة والتعايش المشترك، وقد أثبتت التجربة أنهما انقلبا على كل اتفاقاتهما السابقة. ويبدو أنهما لا يتفقان إلا بضغط قوى الشارع وشباب الثورة أو بتدخل ووساطة أميركية. ثانياً: أن أياً منهما غير قادر على حسم الصراع لصالحه، نتيجة توازن القوى الغريب بين الطرفين، والذي يخلق نوعاً من الجمود وعدم القدرة على التقدم إلى الأمام وحسم ملفات مهمة تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية وضرورات استكمال أهداف الثورة. ثالثاً: أن الطابع المحافظ الذي يجمع العسكر و»الإخوان» يضع قيوداً غير معلنة بشأن حدود ممارسة الصراع، والإعلان عنه للرأي العام، فلم يعلن العسكر أسباب اختلافهم مع «الإخوان» أثناء الترشح للرئاسة، ولم يكشف الرئيس مرسي عن الضغوط التي مارسها العسكر ضد قراره بعودة مجلس الشعب للانعقاد أو تدخل العسكر أثناء تشكيل الحكومة. الجمود والعجز عن الحركة يدفعان مصر وبعد 18 شهراً من ثورتها إلى الفشل كدولة، حيث تعاني من بعض مؤشرات الدول الفاشلة وأهمها ضعف قدرة الدولة على فرض الأمن والقانون وتوفير الخدمات للمواطنين، إضافة إلى أزمات الهوية والشرعية والانقسامات الثقافية والسياسية، لذلك جاءت مصر في المرتبة السادسة عام 2012 بين الدول العربية الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل. وبغض النظر عن سلامة معايير الحكم على الدول الفاشلة فإن استمرار حالة الصراع بين سلطات ومؤسسات الدولة يعرقل الاستقرار ويضر بمصالح الناس والاقتصاد، ويدفع قطاعات واسعة من الرأي العام نحو الكفر بالثورة وبالمشاركة السياسية، بل وبالنخبة من عسكر و»إخوان» وقوى مدنية، واتهامهم بالجري وراء مكاسب سياسية ضيقة على حساب مصلحة الوطن ومعاناة أغلبية المواطنين من ارتفاع الأسعار وغياب الأمن، والأهم غياب الأمل.