من الأهداف الأساسية للسياسة العمومية الجديدة في المجال الثقافي تعزيز الهوية المغربية وإبراز قوة المغرب الثقافي واستثمار تنوع مكوناته وروافده. وقد جاء الإصلاح الدستوري ليعطي للبعد الثقافي حضورا متميزا من خلال إدراجه ضمن مقاربة مندمجة تقوم على جعل السياسة الثقافية والفنية دعامة لتقوية الذات وتعزيز الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى. وقد ركز مشروع العمل القطاعي لوزارة الثقافة على محاور خمسة، وهي: نهج سياسة القرب في المجال الثقافي تقوم على مفهوم واسع للقرب المجالي والاجتماعي والثقافي. دعم ومواكبة الإبداع والمبدعين والعناية بأوضاعهم. صيانة وحماية وتثمين التراث الثقافي المادي واللامادي. تنشيط الدبلوماسية الثقافية والتعاون الدولي في المجال الثقافي. اعتماد الحكامة الجيدة في تدبير الشأن الثقافي. إن الرؤية الجديدة للحكومة والتي تعتمد المقاربة التشاركية مع مختلف الفاعلين والمبدعين بالحقل الثقافي والفني هي بمثابة إعلان عن خارطة طريق جديدة لإصلاح وتطوير الحقل الثقافي والفني ببلادنا. ولا شك أن هذه الرؤية المرتكزة على قيم الحرية والمسؤولية والإبداع، والتربية على الروح النقدية وقيم المواطنة وثقافة التطوع وإعادة الاعتبار للخدمة ذات النفع العام كقيم دينية واجتماعية وإنسانية من خلال نهج ثقافة قرب حقيقية تعتمد تعميم البنيات والخدمات الثقافية والإعلامية، وصيانة التراث الثقافي والطبيعي وحمايته وتثمينه، وتحسين حكامة الشأن الثقافي وتحديث التدبير الثقافي ومراعاة البعد الجهوي ومواكبة الإبداع والإنتاج والعناية بأوضاع المبدعين والمنتجين ومرافقة الإبداع الشبابي وتطوير سياسة دعم الإنتاج الوطني ونشره وتفعيل التعاون الثقافي الدولي، وذلك وفق قواعد الجودة والتنافسية والمهنية والشفافية والشراكة، هي رؤية طموحة وجريئة. إن حقول الإبداع الأدبي والفني متعددة وتشمل الشعر والقصة والرواية والمسرح ومختلف الفنون السينمائية والتلفزية والموسيقية. وهي تحرص على تنشيط الخيال وتثقيف الحواس والتعليم على قيم الحياة والمجتمع والارتقاء بالحس الجمالي إلى ما هو أفضل. وأضحى الإبداع الثقافي على مر العصور أسمى مظاهر ارتقاء منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية وتأثيرا باعتباره مرآة لضمير المجتمع. إن اعتماد أسلوب التعاون والتنسيق بين وزارة الثقافة وباقي الوزارات وفق مفهوم جديد للشراكات في إطار نهج سياسة القرب في المجال الثقافي مع القطاعات الحكومية الأخرى (التربية الوطنية، الشباب والرياضة، الاتصال...) ومع الجماعات الترابية (المجالس المنتخبة، الجماعات المحلية) والمجتمع المدني والمؤسسات الخاصة، هو مدخل جديد لتفعيل آليات التدخل في المجال الثقافي وللتأسيس لعلاقات مبنية على الثقة والتشارك وتسطير أولويات واضحة للبرنامج القطاعي. إن تخصيص غلاف مالي قدره 250 مليون درهم لإنجاز بنيات استقبال ملائمة للتنشيط الثقافي والفني بالجماعات الترابية في إطار المخطط الخماسي للقطاع، قد لا يكفي لفك العزلة الثقافية المتبادلة بين المنتوج والجمهور، لأن مرد هذه العزلة لا يكمن فقط في ضعف التجهيزات بل يجب تحسين وتطوير أساليب تدبير وتسيير المرافق الثقافية وتبني أساليب جديدة في مجال التكوين وإعادة التكوين في مجال الإدارة وإعطاء الاهتمام كذلك للجانب الاعتباري للأطر والمشتغلين في الحقل الثقافي والفني وخصوصا تكريم ورعاية المبدعين اجتماعيا وصحيا وخلق شروط وضمانات الإبداع وحماية حقوق الفنانين والمبدعين والاستثمار في وسائل ومناهج جديدة للتنشيط والانفتاح على المحيط الاجتماعي. ففي مواجهة تعدد الشاشات وسبل عرض المنتوج الثقافي (التلفاز- الكمبيوتر- الآي فون-...) إلى انفجار الشبكات الاجتماعية وتناسلها الهائل، وتفاعلا مع الثورة الرقمية التي لم تفصح بعد عن كل خباياها.. يبدو أن الآليات المعتمدة والتشريعات المنظمة للقطاع الثقافي في حاجة إلى تكييف وتأقلم مع مستجدات الثورة الرقمية وانعكاساتها على الإنتاج الثقافي وطرق تسويقه. إن ثقافة الشاشة الرقمية قد تغير جذريا طريقة ولوجنا للبرامج الثقافية الفنية منها والأدبية والترفيهية. وهذا المعطى الجديد يجعل آليات التنظيم والتأطير والتشريع الوطنية في المجال غير ذات جدوى. ومن المستعجل التفكير من الآن في اعتماد قواعد جديدة لحماية الإنتاج والإبداع الثقافي الوطني. والأكيد اليوم هو أن الثقافة ليست منتوجا أو «بضاعة» ككل البضائع. فهي ملك جماعي مشترك يستدعي الحماية من مخاطر التبضيع الاقتصادي والمالي. إن الأزمنة السمعية البصرية قد تغيرت.. وأن تعميم الثورة الرقمية قد يصيب الاستثناءات الثقافية الوطنية في الصميم، لأن حرية الاختيار الواسعة المتوفرة للمشاهد/ المستهلك لم تعد تعير اهتماما للتشريعات الوطنية. وبالتالي، فالثورة القادمة والتغييرات المرتقبة في المجال الثقافي ستدفع لا محالة إلى المرور من مرحلة «الصناعة التقليدية» الثقافية إلى مرحلة «التصنيع» الثقافي. وهو ما سيشكل عودة إلى الأصل وتركيزا على مصدر الإنتاج والإلهام والإبداع الثقافي.. ألا وهو «المبدع» و»الفنان» الذي تتوجب حمايته وتكوينه ومده بآليات وأدوات الإبداع وتمكينه من سبل التأقلم المبدع مع متطلبات الوضع الحالي وليس فقط مده بآليات المقاومة، نظرا لارتباط قيمة المنتوج الثقافي والفني بالوضع الاعتباري للمبدع٬ وبالتالي يجب تقوية وتنويع أساليب الدعم المقدم للمبدعين والاعتراف بالدور التنويري والمجتمعي للمبدع٬ وتوسيع نطاق الدعم الذي يهم مختلف القطاعات: المسرح٬ الموسيقى٬ الكتاب، السينما، الفيديو، الرقص..الخ. إن المرور إلى مرحلة «التصنيع» الثقافي يقتضي توفير الموارد البشرية الكافية واستثمار ما هو متوفر منها من خريجي المعاهد العليا للفنون والتنشيط، عبر إيجاد الصيغ القانونية والإمكانيات المالية لإدماجهم والاستفادة من خبرتهم في تسيير وتنشيط المركبات والمشاريع الثقافية وإعادة تكوينهم ومد جسور التكوين نحو اختصاصات جديدة ودقيقة في مجال التنشيط والإبداع الثقافي وإعطاء إشارات قوية فيما يتعلق بتشجيع الإبداع، عبر الرفع من قيمة الدعم المخصص للمنتوجات الفنية والفرق المسرحية والمهرجانات بمختلف مستوياتها. وفي مواجهة التحديات الجديدة للقطاع، وأمام اتساع نطاق تدخلات الوزارة وتعدد قطاعات نشاطها٬ فمن الضروري اعتماد الحكامة وعقلنة التدبير وترشيد النفقات العمومية٬ وإشراك مختلف الفاعلين في هذا الجهد. ولا شك أن تخصيص 0.4 % فقط من الميزانية العامة للدولة للقطاع الثقافي لن يسمح برفع هذا الرهان التأهيلي للقطاع٬ ومن الضروري الرفع من حصة القطاع الثقافي في الميزانية العامة للدولة. إن البعد التواصلي ما زال مهمشا في مسلسل صنع المنتوج الثقافي بالمغرب. والحاجة ماسة إلى عمل تسويقي مهني واحترافي٬ يشكل قطيعة مع مرحلة «الصناعة التقليدية» إلى مرحلة «التصنيع» الثقافي.. مما سيسمح ببناء جسور محكمة بين المبدع وجمهوره. وهنا يكمن دور الإعلام وأهمية مساهمته في تأطير وتوجيه هذا الجهد التأهيلي للثقافة الوطنية وضمان إشعاعها واستدامتها في مواجهة زحف العولمة الجارف، والذي لن يستثني المنتوج الثقافي. *تدخل المستشار عبد اللطيف أوعمو في مناقشة مشروع قانون المالية بمجلس المستشارين