ماذا يكون الكاتب إذا كان مجنوناً؟ ألا يكون العمل الذي ينجزه، في هذه الحالة مجردَ عرض مرضي، أو الحاجزَ الأخيرَ الذي يفصل عن الخرف؟ هذه عودة إلى أسئلة قديمة جداً، في الوقت الذي تُنظَّمُ في مارسيليا لقاءات مخصصة لأنطونان أرطو. الشعراء مجانين، ويستحيل أن يكون المرء شاعراً حقيقياً دون أن يجتاز تجربة الجنون. وأفلاطون بلا شك هو أول من أكد ذلك 'عندما احتفل في ال «إيون» و»فيدر» بالجنون الشعري، ذلك المس الانتشائي الذي تلهمه آلهة الشعر: لأن 'الشاعركائن مجنح، خفيف، مقدس، «غير قادر على الإبداع قبل أن يُلهمَ، ويحركَه خارج ذاته إحساس عنيف، ويفقدَ استعمال عقله». فجنون الشاعر إذن لا يمكن فصله عن نوع من الارتباط بالمقدس والإلهيِّ. لكن هذا المديح هو أكثر إبهاما مما يبدو عليه، لأن أفلاطون يريد في الحقيقة أن يظهرَ لنا أن الشعر لا يرتكز على عِلم ولا على معرفة حقيقية، وأنه قد لا يقدر إذن على منافسة الفلسفة. فإذا كان الشاعر، بل وحتى العاشق، مصابين ب «جنون إلهيٍّ «، فإنه على النقيض من ذلك لا وجود للجنون الفلسفي. وهكذا فأفلاطون يجعل من الشعر شيئا مقدسا، ولكن ليقصيَهُ بشكل أفضل. ونعلمُ أنه كان يعتزم طرد الشعراء من المدينة الفاضلة. يمكننا أن نتبيَّن في ذلك حركة دفاعية (ضد جنونه الخاص، جنون قادر على أن يعدي العقل؟) تفترض مسبقاً خطا فاصلاً واضحا، بين عقلانية اللوغوس، وجنون القصيدة. وسيعبر هذا التقسيمُ القديمُ القرونَ، وسيعاود الظهور في الأزمنة الحديثة، في شكل مختلف قليلاً. وقد استمر تأكيد وجود رابط أساسي بين الجنون والشعر أو الأدب بصفة أكثر عمومية لكننا أصبحنا نرى تعارضاً بين أولئك الذين يقدسون الكاتب، بموجب جنونه وأولئك الذين يحاكمونه باعتباره «معتوهاً» «مريضاً عقلياً». يرتكز التقسيم بين العقل والجنون دائما على عِلم، لكنه لم يعد علم الفيلسوف الملك: إنه علم الطب النفسي الحديث، علم أولئك الأطباء الذين وضعوا نرفال، موباسان، أرطو وآخرين كثيرين، تحت حجر المصح العقلي، وأقصوا كتابتهم «باعتبارها نتاجا مرضياً. «لغة معقدة عجيبة، كلمات جديدة متكلفة، تناقض في المعنى، صو ر نمطية «وتكرار وجناس لا قيمة له»: كلها أعراض تعرَّف عليها طبيب نفسي ألماني في القصائد الأخيرة لهولدرلين، الأمر الذي جعله يشخص «لديه» شكلا فصاميا للتخلف العقلي الحاد». وفي حين لا يرى الطب النفسي في جنون الشعراء إلا هذياناً، أي وهما مرضياً، تمّ تمجيده على العكس من ذلك باعتباره إيحاءً بحقيقة خفية. وهكذا وُلدت في القرن التاسع عشر الأسطورةُ الرومانسية «للشاعر المجنون»، حارس المعرفة السرية. عندما تتطرق بيتينا فون أرنيم إلى انهيار هولدرلين وقد كانت هي بذاتها كاتبةً وملهمة َجوته تؤكد أن «قوة إلهية غمرته بأمواجها، وهذه القوة هي اللغة التي أغرقت حواسه باندياح قواها» نعم لابد أنه ضاجع اللغة حقيقةً. الأمرهكذا: «فالذي يكثر من التردد على الآلهة بخشوع مفرط، تَحكُمُ عليه بالبؤس. وليس من قبيل الصدفة أن نجد هذه التيمة في نفس العصر عند شاعر أُدخل مصحا عقلياً هو جيرار دي نرفال، الذي حاول جاهداً وبلا أمل، أن يقنع أصدقاءه وقراءه بأنه ليس «مختلاً»(1) «بالمعنى الكلينيكي للمصطلح، «وإنما هو «راءٍ مُطَّلِعٌ يضطهده أولئك «الأطباء والمفوضون الذين يسهرون على ألا يُسمعَ نشيد الشعر»: «اعترفْ اعترفْ كانوا يصيحون في وجهي كما كان يُفعل في الماضي بالسحرة والمهرطقين، ولأُنهيَ ذلك، وافقتُ على أن أدعهم يصنفونني كمصاب بمرض يُعَرفه الأطباء»، الذين منحوا أنفسهم إذن «الحقَّ في السيطرة على كل الأنبياء والرائين، وإسكاتهم». وهو نفس الغضب الذي 'أدت تسع سنوات من الحجر الصحي، والعلاج بالصدمات الكهربائية، إلى احتدامه، والذي يستند عليه «الكلام العنيف الذي وجهه أرطو ضد» «الدناءة «العليا للأطباء النفسانيين» التي تجعل من الطبيب ''نوعا من العدُوِّ الفطري الأصيل لكل عبقري». «خطُّ الانهيار» يستمر هذا التقديس نفسه للجنون من أفلاطون إلى الرومانسيين، ثم إلى السورياليين، وإلى التيار المعاصر «المضاد للطب النفسي، وهو تقديس» يَعتبِرذلك الجنون المصدر الأهم للإلهام الشعري. ونجده في ال «أنتي أوديب» لدولوز وغاتري، عندما يدعمان فكرة أن عمل أرطو قد يكون «إكمال إنجاز الأدب، وبالضبط لأنه مصاب بانفصام الشخصية». لا يتعلق الأمر إذن بالبحث عن علاج للجنون، بل أن يصبح المرء أكثر جنونا من ذلك، ويسير دائماً أبعد في «خط الهروب الكبير» لانفصام الشخصية: «لنذهب دائماً أبعد، فنحن لم نجد بعد جسدنا دون أعضاء، ولم نفكك «أنانا بما فيه الكفاية». بيد أنه يمكننا أن نتساءل عما إذا كان هذا الاحتفال بالجنون الإبداعي، «لا يمس بالتجربة «الفعلية لهولدرلين، نيتشه» أو أرطو، «وعما إذا كان «لا يخطئ في تقدير مغزاها الآساسي. فجنون الشاعر، أو المفكر، بعيداً عن أن يكون مصدراً للإلهام، هو أولاً، في عصر حداثتنا، تجربة لحدٍّ، لصخرة يتوقف عندها مساره، ويختنق عندها كلامه. وهو يَختبِرعندها «ما سماه فوكو في الصفحات الأخيرة من كتابه ''تاريخ الجنون» ب «غياب العمل الفني». وما تكشفه التجربة الحديثة للجنون هو أنه «تقطع مطْلَق للعمل»، و»ترسم حافته الخارجية، وخط انهياره». ومع ذلك، يضيف فوكو على عجل، فإن هذا الحد الأخير هو أيضاً، وكمفارقة، شرط لهذا العمل الفني وإمكانية ظهوره المحفوفة بالغموض: «يَختبر عملُ أرطو في الجنون غيابه ذاته، لكن هذا الاختبار، (...)كل تلك الكلمات التي تلقى ضد غياب أساسي للغة(...)، ذلك هو العمل ذاته: انحدار قويٌّ على هوة غياب العمل.» وهكذا، فما يهدد بإسكات الكاتب قد يكون في نفس الوقت أكثر موارد كتابته سريةً. كيف نفسر هذه المفارقة؟ «وكيف يحدث أن تلك الفترة التي يبدو فيها الجنون كغياب للعمل، تكون هي أيضاً فترة الكتابات «الأولى للجنون، وفترة تلك الأعمال الرائعة التي، من «أوريليا» نرفال إلى»رسائل من رودز»، حاولت أن تكتب الهذيان، وتستكشف هاوية اللامعنى من الداخل؟ لم تكن محاولاتٌ مماثلة ٌموضوعا قابلا للتفكير فيه، في القرون السابقة، عندما كان التقسيم بين العقل والجنون، يفرض ذاته كأمر بديهي لا جدال فيه.» ولكن ماذا ، صرح ديكارت، أولئك هم مجانين، ولن «أكون أنا بذاتي أقل خروجاً عن المنطق، إذا حذوتُ حذوهم. «أنا أفكر، إذن «لا يمكن أن أكون مجنوناً. وفي هذا السياق، ظل الجنون تيمة أدبية بين تيمات أخريات، لاتُلزم 'قدَرَ الكاتب بشئ، ولا تنال من يقينه أنه ليس مجنوناً: فعندما كتب راسين الحوار الداخلي لأورست في نهاية «أندروماك» وصَفَ من الخارج هذيان البطل. أو تعلق الأمر، كما في'' مديح «الجنون» لإيرازم، بمجرد مجاز يسمح بنقد عيوب المجتمع المعاصر(قد يمكننا قول الشئ ذاته عن «مذكرات مجنون» لغوغول، لولا أن ما نعرفه عن حياة المؤلف، وسمات أخرى لعمله، يعطي لهذا النص مغزى أكثر حميمية وإقلاقاً). إن اليقين الأكيد لذلك التقسيم هو ما ينقص عصر حداثتنا، حيث يُقدِّم الأدبُ ذاته منذ الآن، كتجربة للحدود. وهو نقص وُجدتْ «نذرُه سابقاً في التكرار الممل والمهووس، في عمل الماركيز دو سادْ، وفي رغبته المحتدمة، في أن يقول كل شيء («يجب على الفلسفة أن تقول كل شيء، إلى الحد الذي ترتعد معه، فرائص البشر من ذلك»)، وذلك حين يقوم الشاذ والداعر السادي، في سعيه الجاهد إلى تعليل جرائمه عقلانيا، بقلب «عقل عصر الأنوار» ضد ذاته، «وجعله في خدمة جنونه الإجرامي. لكن أدب عصرنا لا يخلخل فقط الحد بين «الفضيلة» و»الرذيلة، والخير والشر، بل إنه سيقوم بخرق كل الحدود التقليدية بين العقل والجنون، الطبيعي والمرضي، أو أيضا بين الفن والحياة، بدءاً بذلك الفاصل الأهم الذي فرَّق دائما بين الإلهي والإنساني. عندما يحاول في كتابه «ملاحظات حول أوديب، ملاحظات حول أنتيغون» «عرضَ» تقديم «التراجيدي»، أي أسلوب وهدف التراجيديا «الحديثة، يعرفها هولدرلين بأنها اختبار للفظاعة وما لا يحتمل، حيث «يتزاوج» الله و الإنسان و(...) وبالقضاء على كل حد، تغدو قوة الطبيعة 'الفجائية التي تهز النفسَ، ومكنوناتُ الإنسان «شيئاً واحداً» في سوْرة الغضب». وهذا اللبس المرعب بين الإلهي والإنساني هو ما يجهد نفسه في مقاومته بأن يَفْرِضَ عليه وقفة عروضية في منتصف البيت وتشويق ابتعاد الشعر عن القاعدة حيث «ينتقى ذلك التوحد غير المحدود عبر انفصال لا نهائي». يجري كل ذلك في الحقيقة كما لو أنه يتخوف في ذاك الغضب «المبالغ فيه» من اقتراب الجنون المهدد الذي كان سيغمره قريبا. سنخطئ إذا رأينا في ذلك مجرد تكرار لفكرة أفلاطون الرئيسية عن الجنون الشعري الذي تلهمه الآلهة. إن ما يرتكز عليه فكر هولدرلين هو، على النقيض من ذلك، إحساس داخلي مسبق بأن «الأب أشاح عنا بوجهه»، وبأننا نعيش في زمن الحداد وهروب الآلهة. وانسحاب الآلهة هذا هو الذي يجعل «الرغبة التي لاتطاق في أن يكون الشاعر كل شيء» أكثر حدة وخطورة بنفس الدرجة، وهو يصف في «هيبريون» ذلك الجنون المتمثل في رغبته أن يصبح إلها مكان الإله،. ليس بأمر قليل الأهمية أن 'أخرقَ' هو الذي سيعلن بدوره في «العلم المرح» نبأ موت الله؛ و يصوره كسقوط بلا نهاية في الفراغ («ألا نسقط دون توقف؟ إلى الوراء، إلى الجنب، إلى الأمام، إلى كل الجوانب؟(...) ألا نهيم عبر عدم ٍلانهائي؟»)؛ ويدعونا، نحن قاتلي الإله، إلى أن نصبح نحن أنفسنا آلهة كي نبدو جديرين بهذا الفعل». كيف لا نقرب بين دعوة الأخرق هذه و انهيار آخر سوف يدفع المفكر، بعد بضع سنوات من ذلك، إلى توقيع «ديونيزوس» أو 'المصلوب'؟ أن يصبح المرء الإله، أن يصبح الآخر، أن يصبح كل الآخرين... في رسالة كتبها «مباشرة قبل أن يغوص في الصمت، يعلن نيتشه أنه الإله، و أنه هو «الذي صنع هذا الكاريكاتير» الذي هو العالم، بل هو أيضا ملك إيطاليا وعدة شخصيات أخرى: «في العمق، كل أسماء التاريخ هي أنا». العنوان الأصلي لهذا المقال: L'écriture à l'preuve de la folie عن «لوماغازين ليتيرير»(المجلة الأدبية) الفرنسية، عدد 513، نوفمبر (تشرين الثاني)2011 ص.ص:8 10