تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار، الذي تم رصده للمرة الأخيرة في المغرب    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة في اختبار الجنون

ماذا يكون الكاتب إذا كان مجنوناً؟ ألا يكون العمل الذي ينجزه، في هذه الحالة مجردَ عرض مرضي، أو الحاجزَ الأخيرَ الذي يفصل عن الخرف؟ هذه عودة إلى أسئلة قديمة جداً، في الوقت الذي تُنظَّمُ في مارسيليا لقاءات مخصصة لأنطونان أرطو.
الشعراء مجانين، ويستحيل أن يكون المرء شاعراً حقيقياً دون أن يجتاز تجربة الجنون. وأفلاطون بلا شك هو أول من أكد ذلك عندما احتفل في ال «إيون» و « فيدر» بالجنون الشعري، ذلك المس الانتشائي الذي تلهمه آلهة الشعر: لأن «الشاعركائن مجنح، خفيف، مقدس، غير قادر على الإبداع قبل أن يُلهمَ، ويحركَه خارج ذاته إحساس عنيف، ويفقدَ استعمال عقله «. فجنون الشاعر إذن لا يمكن فصله عن نوع من الارتباط بالمقدس والإلهيِّ. لكن هذا المديح هو أكثر إبهاما مما يبدو عليه، لأن أفلاطون يريد في الحقيقة أن يظهرَ لنا أن الشعر لا يرتكز على عِلم ولا على معرفة حقيقية، وأنه قد لا يقدر إذن على منافسة الفلسفة. فإذا كان الشاعر، بل وحتى العاشق، مصابين ب « جنون إلهيٍّ «، فإنه على النقيض من ذلك لا وجود للجنون الفلسفي. وهكذا فأفلاطون يجعل من الشعر شيئا مقدسا، ولكن ليقصيَهُ بشكل أفضل. ونعلمُ أنه كان يعتزم طرد الشعراء من المدينة الفاضلة. يمكننا أن نتبيَّن في ذلك حركة دفاعية (ضد جنونه الخاص، جنون قادر على أن يعدي العقل؟) تفترض مسبقاً خطا فاصلاً واضحا، بين عقلانية اللوغوس، وجنون القصيدة .
وسيعبر هذا التقسيمُ القديمُ القرونَ، وسيعاود الظهور في الأزمنة الحديثة، في شكل مختلف قليلاً. وقد استمر تأكيد وجود رابط أساسي بين الجنون والشعر أو الأدب بصفة أكثر عمومية لكننا أصبحنا نرى تعارضاً بين أولئك الذين يقدسون الكاتب، بموجب جنونه وأولئك الذين يحاكمونه باعتباره « معتوهاً « «مريضاً عقلياً «. يرتكز التقسيم بين العقل والجنون دائما على عِلم، لكنه لم يعد علم الفيلسوف الملك: إنه علم الطب النفسي الحديث، علم أولئك الأطباء الذين وضعوا نرفال ، موباسان، أرطو وآخرين كثيرين، تحت حجر المصح العقلي، وأقصوا كتابتهم باعتبارها نتاجا مرضياً. «لغة معقدة عجيبة ، كلمات جديدة متكلفة، تناقض في المعنى، صو ر نمطية وتكرار وجناس لا قيمة له»: كلها أعراض تعرَّف عليها طبيب نفسي ألماني في القصائد الأخيرة لهولدرلين، الأمر الذي جعله يشخص لديه»شكلا فصاميا للتخلف العقلي الحاد». وفي حين لا يرى الطب النفسي في جنون الشعراء إلا هذياناً، أي وهما مرضياً، تمّ تمجيده على العكس من ذلك باعتباره إيحاءً بحقيقة خفية. وهكذا وُلدت في القرن التاسع عشر الأسطورةُ الرومانسية «للشاعر المجنون «، حارس المعرفة السرية. عندما تتطرق بيتينا فون أرنيم إلى انهيار هولدرلين وقد كانت هي بذاتها كاتبةً وملهمة َجوته تؤكد أن « قوة إلهية غمرته بأمواجها، وهذه القوة هي اللغة التي أغرقت حواسه باندياح قواها «. نعم،لابد أنه ضاجع اللغة حقيقةً. الأمرهكذا: فالذي يكثر من التردد على الآلهة بخشوع مفرط، تَحكُمُ عليه بالبؤس . وليس من قبيل الصدفة أن نجد هذه التيمة في نفس العصر عند شاعر أُدخل مصحة عقلية هو جيرار دي نرفال، الذي حاول جاهداً وبلا أمل، أن يقنع أصدقاءه وقراءه بأنه ليس «مختلاً»(1) بالمعنى الكلينيكي للمصطلح، وإنما هو راءٍ مُطَّلِعٌ يضطهده أولئك «الأطباء والمفوضون الذين يسهرون على ألا يُسمعَ نشيد الشعر»: «اعترفْ- اعترفْ- كانوا يصيحون في وجهي كما كان يُفعل في الماضي بالسحرة والمهرطقين، ولأُنهيَ ذلك، وافقتُ على أن أدعهم يصنفونني كمصاب بمرض يُعَرفه الأطباء «، الذين منحوا أنفسهم إذن « الحقَّ في السيطرة على كل الأنبياء والرائين، وإسكاتهم». وهو نفس الغضب الذي أدت تسع سنوات من الحجر الصحي، والعلاج بالصدمات الكهربائية، إلى احتدامه، والذي يستند عليه الكلام العنيف الذي وجهه أرطو ضد « الدناءة العليا للأطباء النفسانيين» التي تجعل من الطبيب « نوعا من العدُوِّ الفطري الأصيل لكل عبقري» .
« خطُّ الانهيار»
يستمر هذا التقديس نفسه للجنون من أفلاطون إلى الرومانسيين، ثم إلى السورياليين، وإلى التيار المعاصر المضاد للطب النفسي، وهو تقديس يَعتبِرذلك الجنون المصدر الأهم للإلهام الشعري. ونجده في ال « أنتي أوديب»لدولوز وغاتري، عندما يدعمان فكرة أن عمل أرطو قد يكون « إكمال إنجاز الأدب، وبالضبط لأنه مصاب بانفصام الشخصية «. لا يتعلق الأمر إذن بالبحث عن علاج للجنون، بل أن يصبح المرء أكثر جنونا من ذلك، ويسير دائماً أبعد في « خط الهروب الكبير « لانفصام الشخصية : « لنذهب دائماً أبعد، فنحن لم نجد بعد جسدنا دون أعضاء، ولم نفكك أنانا بما فيه الكفاية «. بيد أنه يمكننا أن نتساءل عما إذا كان هذا الاحتفال بالجنون الإبداعي، لا يمس بالتجربة الفعلية لهولدرلين، نيتشه أو أرطو، وعما إذا كان لا يخطئ في تقدير مغزاها الأساسي. فجنون الشاعر، أو المفكر، بعيداً عن أن يكون مصدراً للإلهام، هو أولاً، في عصر حداثتنا، تجربة لحدٍّ، لصخرة يتوقف عندها مساره، ويختنق عندها كلامه. وهو يَختبِرعندها ما سماه فوكو في الصفحات الأخيرة من كتابه « تاريخ الجنون» ب «غياب العمل الفني «. وما تكشفه التجربة الحديثة للجنون هو أنه « تقطع مطْلَق للعمل «، و» ترسم حافته الخارجية، وخط انهياره «. ومع ذلك، يضيف فوكو على عجل ، فإن هذا الحد الأخير هو أيضاً، وكمفارقة، شرط لهذا العمل الفني وإمكانية ظهوره المحفوفة بالغموض: « يَختبر عملُ أرطو في الجنون غيابه ذاته، لكن هذا الاختبار، [...] كل تلك الكلمات التي تلقى ضد غياب أساسي للغة [...]، ذلك هو العمل ذاته: انحدار قويٌّ على هوة غياب العمل.» وهكذا، فما يهدد بإسكات الكاتب قد يكون في نفس الوقت أكثر موارد كتابته سريةً. كيف نفسر هذه المفارقة؟ وكيف يحدث أن تلك الفترة التي يبدو فيها الجنون كغياب للعمل، تكون هي أيضاً فترة الكتابات الأولى للجنون، وفترة تلك الأعمال الرائعة التي ، من «أوريليا « نرفال إلى» رسائل من رودز» ، حاولت أن تكتب الهذيان، وتستكشف هاوية اللامعنى من الداخل. لم تكن محاولاتٌ مماثلة ٌموضوعا قابلا للتفكير فيه، في القرون السابقة، عندما كان التقسيم بين العقل والجنون، يفرض ذاته كأمر بديهي لا جدال فيه. « ولكن ماذا ، صرح ديكارت، أولئك هم مجانين، ولن أكون أنا بذاتي أقل خروجاً عن المنطق، إذا حذوتُ حذوهم.» أنا أفكر ، إذن لا يمكن أن أكون مجنوناً. وفي هذا السياق ، ظل الجنون تيمة أدبية بين تيمات أخرى، لاتُلزم قدَرَ الكاتب بشئ ، ولا تنال من يقينه أنه ليس مجنوناً: فعندما كتب راسين الحوار الداخلي لأورست في نهاية « أندروماك « وصَفَ من الخارج هذيان البطل. أو تعلق الأمر، كما في « مديح الجنون « لإيرازم، بمجرد مجاز يسمح بنقد عيوب المجتمع المعاصر( قد يمكننا قول الشئ ذاته عن « مذكرات مجنون « لغوغول، لولا أن ما نعرفه عن حياة المؤلف، وسمات أخرى لعمله، يعطي لهذا النص مغزى أكثر حميمية وإقلاقاً). إن اليقين الأكيد لذلك التقسيم هو ما ينقص عصر حداثتنا، حيث يُقدِّم الأدبُ ذاته منذ الآن، كتجربة للحدود. وهو نقص وُجدتْ نذرُه سابقاً في التكرار الممل والمهووس، في عمل الماركيز دو سادْ، وفي رغبته المحتدمة، في أن يقول كل شيء (« يجب على الفلسفة أن تقول كل شيء ، إلى الحد الذي ترتعد معه، فرائص البشر من ذلك»)، وذلك حين يقوم الشاذ والداعر السادي، في سعيه الجاهد إلى تعليل جرائمه عقلانيا، بقلب عقل عصر الأنوار ضد ذاته، وجعله في خدمة جنونه الإجرامي. لكن أدب عصرنا لا يخلخل فقط الحد بين «الفضيلة « و»الرذيلة «، والخير والشر، بل إنه سيقوم بخرق كل الحدود التقليدية بين العقل والجنون، الطبيعي والمرضي، أو أيضا بين الفن والحياة، بدءاً بذلك الفاصل الأهم الذي فرَّق دائما بين الإلهي والإنساني. عندما يحاول في كتابه « ملاحظات حول أوديب، ملاحظات حول أنتيغون» عرضَ « تقديم التراجيدي «، أي أسلوب وهدف التراجيديا الحديثة، يعرفها هولدرلين بأنها اختبار للفظاعة وما لا يحتمل، حيث «يتزاوج الله و الإنسان و [...] وبالقضاء على كل حد ،تغدو قوة الطبيعة الفجائية التي تهز النفسَ، ومكنوناتُ الإنسان « شيئاً واحداً « في سوْرة الغضب «. وهذا اللبس المرعب بين الإلهي و الإنساني هو ما يجهد نفسه في مقاومته بأن يَفْرِضَ عليه وقفة عروضية في منتصف البيت و تشويق ابتعاد الشعر عن القاعدة حيث «ينتقى ذلك التوحد غير المحدود عبر انفصال لا نهائي». يجري كل ذلك في الحقيقة كما لو أنه يتخوف في ذاك الغضب «المبالغ فيه» من اقتراب الجنون المهدد الذي كان سيغمره قريبا. سنخطئ إذا رأينا في ذلك مجرد تكرار لفكرة أفلاطون الرئيسية عن الجنون الشعري الذي تلهمه الآلهة. إن ما يرتكز عليه فكر هولدرلين هو، على النقيض من ذلك، إحساس داخلي مسبق بأن «الأب أشاح عنا بوجهه» ، و بأننا نعيش في زمن الحداد وهروب الآلهة. و انسحاب الآلهة هذا هو الذي يجعل «الرغبة التي لاتطاق في أن يكون الشاعر كل شيء» أكثر حدة وخطورة بنفس الدرجة، وهو يصف في «هيبريون» ذلك الجنون المتمثل في رغبته أن يصبح إلها مكان الإله.
ليس بأمر قليل الأهمية أن «أخرقَ» هو الذي سيعلن بدوره في «العلم المرح» نبأ موت الله؛ و يصوره كسقوط بلا نهاية في الفراغ («ألا نسقط دون توقف- إلى الوراء، إلى الجنب، إلى الأمام، إلى كل الجوانب- [...] ألا نهيم عبر عدم ٍلانهائي-»)؛ ويدعونا، نحن قاتلي الإله، إلى أن نصبح نحن أنفسنا آلهة كي نبدو جديرين بهذا الفعل». كيف لا نقرب بين دعوة الأخرق هذه و انهيار آخر سوف يدفع المفكر، بعد بضع سنوات من ذلك، إلى توقيع «ديونيزوس» أو «المصلوب»؟ أن يصبح المرء الإله، أن يصبح الآخر، أن يصبح كل الآخرين... في رسالة كتبها مباشرة قبل أن يغوص في الصمت، يعلن نيتشه أنه الإله، و أنه هو «الذي صنع هذا الكاريكاتير» الذي هو العالم، بل هو أيضا ملك إيطاليا وعدة شخصيات أخرى: «في العمق، كل أسماء التاريخ هي أنا».

---
عن «لوماغازين ليتيرير» الفرنسية، عدد 513، نوفمبر 2011
ص.ص: 8 10
يأتي إذن هذا الكتاب النقدي ضمن المشروع السيميائي المحكم متخذا من «صيغ التمظهر الروائي» مجال اهتمامه العلمي و موضوع اشتغاله ، وذلك من أجل الكشف عن « النمذجات المتميزة التي يخلقها النص في مسار تطور جنسه الأدبي» ، مع الحرص العلمي على « البحث عن المتغيرات الممكنة للمفاهيم ، والتي تلائم خصوصية النص.» هكذا ينطلق الباحث الدكتور عبد اللطيف محفوظ في كتابه النقدي الأكاديمي هذا من الوقوف عند مفهوم التمظهر باعتباره محور البحث بالنسبة إليه هنا بحيث كشف الباحث منذ البداية عن أن تركيز الاهتمام سينصب على « التمظهر الروائي» من خلال مقاربة ووصف نمذجة « الثوابت الروائية وتحديدا النمذجة السردية و النمذجة الزمنية و النمذجة الفضائية ، انطلاقا من تحليل نص روائي عربي هو نص « البحث عن وليد مسعود» للكاتب جبرا إبراهيم جبرا، مع الحرص المنهجي الدقيق على استعمال المفاهيم النظرية المستمدة من الحقول البويطيقية و السيميائية بالتحديد، على وصف أشكال هذا التمظهر الروائي مع مراعاة خصوصية النص الروائي المدروس ، والحرص على توضيح أدبيته باعتباره محور البحث ، وليس نموذجا للتدليل على صحة هذه المفاهيم الإجرائية.
بعد هذا التقديم المنهجي الدقيق يقف الباحث عند النمذجة السردية التي تشكل المحور الأساس في الكتاب ، و التي تحتل حيزا كبيرا فيه ، حيث يقوم بتناولها انطلاقا من نظام الحدث و أشكال التمظهر السردي و الخطاب غير المباشر و الخطاب غير المباشر الحر، والخطاب المباشر .كما يتناولها انطلاقا من تفكيك بنية الحوار و الوقوف على أشكالها المتجلية في النص المدروس، رواية « البحث عن وليد مسعود» ، لينتقل بعد ذلك إلى دراسة بنية الوصف فالمنظور السردي ، فالتعدد الأصواتي واللغوي. لقد تناول الباحث هذه النمذجة السردية ، كما أشرنا، انطلاقا من الوقوف عند نظام الحدث في رواية « البحث عن وليد مسعود» على اعتبار أن هذا النص الروائي يتميز قبلا بكونه جنسا مزدوجا يجمع بين السرد الخالص و المحاكاة ، أو بين نص الأحداث و نص الكلام ، كما يشير الباحث إلى ذلك، ذاهبا في هذا الصدد إلى أن هذا الحدث « يتميز بكونه مركبا من مسارين سرديين : مسار حياة وليد مسعود ، ومسار البحث عنه. وكل مسار يشكل محفزا لانبجاسهما معا. و تتمثل هذه اللحظة في سفر وليد الأخير .ذلك السفر الذي تحول إلى اختفاء...» وهو، أي الباحث، يسعى لضبط الآليات السردية المتحكمة في بنية هذا الحدث الروائي، منذ لحظات بزوغه الأولى إلى تمظهراته المتعددة في ثنايا النص الروائي ، متتبعا إياه في علاقته بكل من الشخصيات و الزمان و المكان معا. وكما يقف الباحث عند نظام الحدث ، يقف عند أشكال التمظهر السردي انطلاقا من دراسة وتفكيك كل من الصيغة و السرد و الخطابات و الحوار و الوصف بطريقة منهجية متكاملة تنطلق من البسيط إلى المركب بشكل منطقي مبني على أسس معرفية صلبة و ما يرتبط بها من مفاهيم و أدوات اشتغال و تفيكيك سيميائية - سردياتية.
بعد ذلك ينتقل الباحث إلى دراسة النمذجة الزمنية ، في نفس النص الروائي، « البحث عن وليد مسعود» ، من خلال الوقوف عند « أزمنة النص المنطقية « و « نظام الخطاب الزمني» و «علاقة المتكلمين بالزمن « ، لينتقل في النهاية لدراسة النمذجة الفضائية متوقفا في هذا الصدد عند كل من « فضاء التلفظ» و « فضاء الملفوظ» ، ثم « علاقة الفضاء بالشخصيات» .
إن الباحث عبد اللطيف محفوظ، وهو يقدم هذا الكتاب النقدي الهام، الذي يشكل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، امتدادا لمشروعه النقدي الأكاديمي ، و الذي يعتمد فيه على المنهج السيميائي في عملية انفتاحه على باقي المراجع المصاحبة له كالمرجع السردياتي و المرجع التفكيكي اللغوي و التحليل النصي «دون الالتزام الحرفي بالسيرورات الإجرائية التي تقترحها بعض المناهج والتي تفرض إما إخضاع النصوص لمنطقها أو إهمال خصوصيات معرفية و جمالية لا تستطيع تلك السيرورات تبصرها» على حد قول الباحث نفسه في خاتمة الكتاب، يكون بعمله هذا قد منح للمكتبة النقدية العربية و للبحث الأكاديمي العربي مساهمة علمية جديدة وجادة وبالتالي فهي جديرة بالإشادة و المتابعة النقدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.