نبذة عن حياة الشاعر فردريش هولدرلين، شاعر وفيلسوف ألماني، ينتمي إلى جيل شبيبة القرن التاسع عشر، هذا الذي كان يسمى ب"القرن الجديد". ولقد تواجد الشاعر في خضم التيار "الكلاسيكي- الرومانسي" الذي كان الشاعر والكاتب (ڭوته) يمثل فيه آنذاك، قائد أركسترا الانبعاث الأدبي الألماني، بل العالمي. ولد فردريش هولدرلين ( Johann Christian Friedrich Hölderlin )، في 20 مارس 1770م ب (لاوْفن). ولقد نشأ يتيما في سن مبكر. إذ توفي والده، وهو لم يتجاوز الثانية من عمره. وهكذا نشأ وترعرع في كنف أمه (جوانا كريستينا)، التي تزوجت من جديد. لكن من سوء حظ الطفل أنه سيفقد أباه الجديد، للمرة الثانية، في ظرف وجيز، الشيء الذي دفع به إلى احتضان قدر اليتيم من جديد. و هكذا سيتربى الطفل في رعاية أم ثكلى، ووسط عائلي كان الموت يتخطف أفراده - ونقصد إخوته وأخواته - الواحد تلو الآخر. ولم يبق للشاعر بعد هذا الموكب الجنائزي، سوى شقيقة واحدة وأخ من الأب الثاني. ومدفوعا برغبة من أمه، التي كانت ترغب لديه، تربية وتكوين ديني، استجاب الشاب للتكوين الديني. وهكذا التحق هولدرلين بالمعهد الديني لمدينة توبينغن (Tübingen Stift)، لدراسة علم اللاهوت. ولقد مارس في هذه الفترة، تعلم كل من اللغات: الإغريقية، اللاتينية، والعبرية. ولقد كان آنئذ، مولعا بقراءة شعر (شيلر) المثالي. ولقد بدأ بكتابة قصائده الأولى وهو لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره. ومن سنة 1788 إلى سنة 1793م، كان طالبا بالمعهد البروتستانتي الكبير، معاصرا لكل من (هيڭل) و(شيلنغ). وكان هؤلاء معا، يشكلون ثالوث المثالية الألمانية، في ميداني الشعر والفلسفة. وفي سنة 1793م، شرع في مراسلة الشاعر (فردريش شيلر)، وقد التحق بميدان العمل كمدرس خاص، في بيت المصرفي يعقوب ڭنراد، حيث سيقع في حب زوجته سوزيت ڭونتارد (Suzette Gontard)، التي سيطلق عليها لقب (ديوتيما) في روايته "إيبريون - Hyperion ". لقد كانت هذه المرأة تمثل لديه الحب المثالي المطلق، هذا الحب الذي لم يدم بسبب اضطرار مغادرة الشاعر للبيت، بعد اكتشاف وافتضاح علاقته الغرامية. انقطعت الصلة المباشرة بين هولدرين وسوزيت، وعوضت بالمراسلة الشعرية المستمرة. وانطلاقا من سنة 1800م، بدأت عبقرية هولدرلين الشعرية، تتجلى في كتاباته. ونذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، مطولته" خبز وخمر"، التي ترمز إلى السيد المسيح في جانبها الديني والإله الإغريقي "ديونيسوس"، في جانبها الدنيوي، الشبقيّ والمتعي. وخلال هذه الفترة، سافر إلى مدينة (بوردو) الفرنسية، ثم عاد منها إلى وطنه الأم سنة 1802م. ولقد عاد متأثرا بانهيار عصبي أدى به إلى الجنون. وحين شخص طبيبه الخاص مرضه بكونه اختلال عقلي اضطر إلى الإبقاء عليه قهرا بإحدى المصحات المختصة بالأمراض العقلية. ولسوف يعيش هولدرلين أكثر من ثلاثين سنة، في ظلال الهلوسة والجنون. ولقد تكفل به لغاية وفاته، نجّار بنى له صومعة، على ضفاف نهر(النيكار)، كانت تدعى ب"برج هولدرلين". وتوفي الشاعر في 7 يونيوه سنة 1843م في (توبينغن). بين هايدڭر وهولدرلين
ولقد كان الفيلسوف (مارتن هايدڭر / 1889-1976)، من أكبر المعجبين بالشاعر هولدرلين، ولهذا السبب بالذات، خصص له هذه الدراسة "ماهية الشعر"، الفريدة من نوعها، التي نقدم ترجمتها، بين أيديكم اليوم. إلا أننا قبل أن نعرض لها، سنقدم للقارئ الكريم، بعض الآراء، التي قيلت في الشاعر هولدرلين، من قبل بعض كبار أدباء القرن العشرين. يقول عنه الكاتب (ستيفان زفايغ)، بأن الطفولة كانت لديه موطنه الأول، وكانت أهم حقبة من حياته، بالرغم من المآسي التي تخللتها. ويسوق هذه المقولة للشاعر هولدرلين، مقتبسة من إحدى رسائله:" للأسف الشديد ! لقد أخاف العالم ذهني، منذ نعومة أظفاري، الشيء الذي جعلني أنطوي على نفسي". ويرى ستيفان زفايغ، بأن نصف أشعار هولدرلين، ليست في الواقع سوى تنويعات على التيمة نفسها، أي بما معناه، تيمة التضاد غير القابل للتصالح بين طفولة مؤمنة وهادئة البال وواقع حياتي، قاسي ومعادي. ويرى زفايغ بأننا نجد هذه الازدواجية، في شعره بشكل مبكر. نجدها في تعبيره عن " في ذاك الزمن واليوم". وفي قصيدته نشيد للطبيعة نجد هذه الإنطبعات الطفولية نفسها، وقد تجلت بروعة في لعبة المياه الشعرية الواردة في هذه القصيدة التالية: حينَ كنتُ ألعبُ حَول خِمارك، وحين كُنت ما أزالُ عالقا بك مِثل زَهْرة، وكنتُ أَشعرُ بِقَلبك في كلّ العَلامات، التي كان رَجْعُ صَداها، يَتَرَدّد حَول قَلبي، المُرْتَعِش بالحَنان. ومِثلُك أنْتَ، كُنتُ واقفا أَمام صورَتِك، وكنتُ أَجِد دائما مَكانا لِدُموعي، وكَوْنا لِحُبّي، حين كان قَلبي، ما زالَ يَسْتدير، نحْوَ الشّمس. وكما أنّ هذا الأَخير، كان يَسْتَمع لإيقاع هَذه العَلامات، وحينَ كانَ يُسَمّي أَخَواتِه النّجوم، والرّبيعُ لَحْنا للإله. وحينَ في النّسيمِ الذي كان يَرْتَعش، كان ذِهْنُك، ذِهْنُك البَشوش، يُوَسّع مِن مَوْجَة قَلبي الهادِئَة، حينَئِذ، أَجل ! حينَئِذ رَأَيْتُها مُقْبِلَة نَحوي، الأَيّام الذَََّهَبِيّة. وبإمكاننا أن نقول، وحسب تعليق (ستيفان زفايغ)، بأن جمالية هولدرلين، هي في الوقت نفسه، تعبير دقيق عن مأساته الشخصية. فهو قد وضع إيمانه كله في عالم مثالي، متذمرا وثائرا في آن، على عالم مادي لم يجد من وسيلة للتخلص منه، إلا بأجنحته الشاعرية. ونسوق بهذه المناسبة، هذا التصريح للشاعر نفسه حيث يقول:" من شاء أن يتنبأ بالأشياء ألإلهية، عليه أن يؤمن بها بقداسة، وأن يفدي بها نفسه كليا". وعن مدى جرأة الإنسان الجديد في التمرد على الآلهة، ونشير هنا ضمنا إلى فلسفة (نيتشه) القادمة. فإن هولدرلين يرى قائلا:" إن الإنسان والإله، من أجل أن لا يصاب العالم بالنقصان، فعليهما أن يظلا على اتصال، عبر مواصلة تعلق الغائب بالحاضر، والحاضر بالغائب. فهولدرلين هذا الذي كان يسعى فيما يسعى إليه إلى التحرر من كل شيء، من أجل التوحد مع الطبيعة، هو نفسه الذي يقول عنه الناقد الفرنسي (موريس بلانشو)، بأنه من بعد عودته من فرنسا، وقد ازدادت حالته جنونا، فإن شاعريته قد انقلبت رأسا على عقب. وكأن عاصفته الشعرية، قد تحولت إلى هدوء ما بعده هدوء. وكأني به قد أستطاع، من خلال فجوة خفية، النظر إلى الإله. وختاما نسوق هذا المقطع الشعري من قصائده حيث وقف الشاعر بينه والإله، بين بين، وكلمه بلغة لا أحرف لها: وإذا كانَ في قُوّة انْدِفاعه، كاليَنابيع الخالِصَة، ذهبا يَجْري سَواقي، وقد ازْدادَ غَضَبُ السّماء، ما بينَ فُجْوَتَي: النّهار واللّيل، أنْ تَتَبَدّى الحَقيقَة، ولَوْ لِلْمَرّة الوَحيدَة، في ثُلاثِيَة مَجازِية مَكتوبَة هُنا، وغَير صَريحَة كَعادَتِها، وبَريئَة كما يَجِب أنْ تَكون.
ولقد ارتأينا أخيرا، أن نقدم للقارئ الكريم، هذه القصيدة التي قمنا بترجمتها، كنموذج لشعر (هولدرلين)، كيما يتخذ ولو فكرة مبسطة عنه، قبل الشروع في القراءة المعقدة التي خصصها له الفيلسوف (هايدڭر). نزهة في البادية تعال إلى (أوفير) يا صَديق! ولَو أَنّ هذا اليَومَ ها هُنا، لَيسَ لنا فيه مِن ضِياء، إلاّ قَليلاً، ما زالَ يَتَلألأ، تَحْتَ سَماءٍ تسْجُنُنا! فَلا ذُرى الغابات، ولا قِمَم الجِبال، بالرّغْمِ مِن هَوانا، قد اسْتَطاعَت أَن تَتَأَلّق، وبَقِيَ الهَواء بِلا صَوْت. ها قَد سَقَطَ الظّلام، مََمَرّاتٌ و أَزِقّةٌ تَنام، حتى لَكَأَنّي أَكاد أَخال، بِأَنّ عُصورَ الرّصاصِ قَد عادَت. ومَعَ ذلِك أَمَلٌ يُسْتَجاب، لا شَيْءَ يُزَحْزح الإيمانَ الرّصين. ولِلّحْظة: فَلْيُكَرّس هذا اليَومُ لِلْبَهْجَة! لَِأنّه لَيْسَ سوى مِنْحَة بَخيصَة، هَذه التي انْتزَعناها مِن السّماء. ومِثل عَطاءاتِ الأَطْفال، تلك التي كَثيرا ما حُرموا مِنْها، مِثْلَها و باقْتِراحاتٍ كَهذِه فَقَط، لِخُطْواتِنا و آلامِنا، يُصْبِحُ الرِّبْحُ جَدارَة، وبلا كَذِب الرضا! مِن أَجْلِ هذا ما زِلْتُ، أومِنُ بالأَمَل، حين نَكونُ قَد خاطَرنا، بِكُلّ ما لَدَيْنا.. باِلخُطوَة المُعَبّدَةِ بالحُلُم. و نَكون مِن قَبْل كُلّ هذا، قَد حَرّرْنا أَلْسِنَتَنا، و وَجَدْنا الكَلام، و قَلْبُنا المُبْتَهِج، حينَ مِن الجَبْهَة الثَّمِلَة، تَتَجَلّى حَقيقَةٌ أُخْرى، فَلْيُعَجِّل ازْهِرارُنا إذن، بازْهِرار السّمَاء! و لْيكُن مُتَفَتّحًا لِلنّظَر، مُتَفَتّحا لِلنّور. لأَنّها لَيْسَت مَسأَلَة نُفوذ، و إِنّما حَياة. و رَغَباتُنا: مَرَحٌ ولِياقَة مَعًا، و مِن الخَطاطيفِ المُخْتارَة، أَحَدهُما، على الأقل، أو الآخرَ، ينبئ ودائِمًا وأَبَداً، بالصّيْفِ في البَوادي. وكَذلِك مِن أَجْل تَقْديسِ الارتفاع، بِكَلام عادِل، حَيْثُ الماهِر النَّبيه، قَد شَيّدَ نَزْلاً لِضُيوفِه، كَيما يَغْمُرُهُم هذا الجَمالُ الأَكْبَر، بِهذه الرُّؤْيَة الغَنِيّة: و بِهَوى رَغْبَة العَقْل و القَلْب. و لَعلّ هذا الانفتاح الكامِل، رَقْصٌ، وَليمَةٌ و أَغاني، و بَهْجَةُ "شتوتغارت"، يُتَوِّجُها كُلّها. و مملوءين بِرَغْبَة رَهيبَة، نُمارِسُ الصّعودَ إلى الهَضَبة، لَعَلّ ضِياء شَهر مايو، هذا السّاهِر عَلَينا، يَتَلَفّظُ هنالِكَ في الأَعالي، بِمُقْتَرَحاتٍ أَفْضَل، لَدى ذاكَ الذي، يَسْتَنيرُ بِه السّماع. أو إذا كان يَحْلو لِلآخَرين، حَسَبَ طُقوس القُدامى، (لأَنّ الآلِهَة قد اِبْتَسَمَت لنا أَكْثَرَ مِن مَرّة) فالنّجّار يُعْلِنُ حُكْمَه، مِن على ذِرْوَة السّطْحِ، و كُلّ مِنّا حَسَبَ اِسْتطاعَتِه، يكونُ قد أَدّى قِسْمَتَهُ.
و لَكِنّ المَكانُ يَبدو شَديدَ الجَمال، حينَ يَتَنَوّر السّهْلُ، بِأَعْيادِ الرّبيع، مِن على مَشَارِف "نَكّار"، أَشْجارُ الصّفْصاف ماشِيَة في اِخْضِرار و الغابَةُ و جُمْهورُ الأَشْجار، ذات الزّهور البَيْضاء، تَطفو في مَهْدِ الرّيح، و مَغْمورَة بِالضّباب، مِن أعالي الهَضَبة لأسافِلها، تَتَفَتّح الكُروم و تَلين، تَحتَ العطور المُشَمّسَة.
------------------------------ شاعرية هولدرلين في أفق فلسفة هايدجر نقل دراسة هايدڭر إلى العربية هولدرلين وماهية الشعر مقدمة لا بد منها حول "الشّعرنة" لقد اخترنا ماهية، هذا الاشتغال الأكثر براءة من الكل، ومن أجل ماذا؟ ويأتي جوابنا، بأننا اخترناه من أجل بيان ماهية الشعر. ولقد اخترنا من أجل هذا وبالتخصيص الشاعر (هولدرلين). ونطرح السؤال من جديد، لماذا (هولدرلين) بالذات، وليس (هومر)، (سوفوكل)، (ڤرجيل)، (دانتي)، (شكسبير) أو (ڭوته)؟ أليس يوجد في إنتاج مؤلفات هؤلاء ماهية للشعر، بل وأكثر غنى من تجربة (هولدرلين)، التي توقفت فجأة؟ على كل حال، لقد وقع اختيارنا على هذا الشاعر، عليه وحده، ولا أحد سواه. ونتساءل من جديد هل بالإمكان، تجريد ماهية الشعر العامة، من عمل شاعر واحد؟ ونقصد بالعامة، ما يكون صالحا لعدد كبير من الشعراء، والذي ليس بإمكاننا بلوغه، إلا عن طريق فعل مقارني. ومن أجل هذا، يجب أن يعرض علينا، وبشكل مسبق، أكبر عدد من المنوعات الشعرية، تلك التي تتميز نوعيتها بالشاعرية. ويصبح الشاعر (هولدرلين)، في هذه الأثناء، مجرد شاعر كباقي الشعراء. وتجربة (هولدرلين) لوحدها، غير قادرة بأن تكون، النموذج والمعيار الأساسي للشعر. ومشروعنا، والحالة هذه، لا يمكنه إلا أن يشتمل مسبقا، على سبب فشله. سيكون فشلا مؤكدا لا محالة، طالما أننا أصررنا، على تفهم "ماهية الشعر" بما هو موجود، وبشكل مركز. تفهم عام، يشمل ب"لا محدوديته"، كل أنواع الشعر. لكن هذا العام، وهذه "القيمة"، التي تلعب بشكل غير محدد، بالنسبة لكل ما هو خاص، لا يمكنها إلا أن تكون هذا اللاّ تحديد، الذي نفسره بكونه، هذه "الماهية" التي، ليس بإمكانها قط، أن تصبح ذاك الشيء الأساسي، في تصورنا. وذاك الأساسي "للماهية" الذي ذكرناه، هو بالتحديد ما نبحث عنه. إنه هذا بالذات، الذي يدفعنا إلى اتخاذ قرار، حول الكيفية التي تخول لنا من ناحية، تناول الشعر بشكل جاد ورصين، والنظر من ناحية ثانية، في الفرضيات التي بإمكانها أن لا تبعدنا عن موضوعنا، تاركة إيانا في رحاب الشعر. ولم يقع اختيارنا على (هولدرلين)، لأن إنتاجه الشعري كان يحقق، مثله مثل باقي الإنتاجان الشعرية، الماهية العامة للشعر. وإنما جاء اختيارنا، لأن تجربته وبشكل فريد، كانت تسعى فيما تسعى إليه، إلى تحديد ماهية الشعر، عبر الشعر نفسه، بشكل شاعري صريح. إن (هولدرلين) بالنسبة لنا، وبمعنى يخوله حظوة الامتياز، يعتبر شاعر الشاعر. الشيء الذي يجبرنا، على اتخاذ قرار محدد، بهذا الخصوص. لكن أليس مجرد القيام بمحاولة "للشعرنة" فقط، عن الشاعر، هي دليل على تيهنا في تأملاتنا لأنفسنا؟ أليس هذا تعبيرا صريحا عن قدراتنا المحدودة أمام امتلاء العالم؟ أن تمارس شرط "الشّعرنة" على الشاعر، أليس في هذه العملية، محاولة لاستنقاذ ما قد تبقى، بل محاولة القبض على نهاية متأخرة؟ إن الجواب عن كل هذا، سوف يأتينا حتما، فيما سيأتي بعد. ومما لا شك فيه، أن الطريق الذي اتخذناه وسيلة للجواب، لم يكن هو الآخر، أقل صعوبة من الباقي. ليس بإمكاننا أن نقوم الآن، مثلما يتطلبه منا هذا الموضوع، بإحاطة شاملة لكل قصائد (هولدرلين)، مفسرين كل قصيدة على حدة. عوضا من كل هذا، فإن اختيارنا قد وقع على خمسة ألفاظ، خمس كلمات مكررة، عن ماهية الشعر. والترتيب الذي أدرجنا فيه هذه الألفاظ، بما فيها الاتصالات الداخلية، يمنحنا في هذه الأثناء، القدرة على وضع تحت أعينكم، الماهية الأساسية للشعر.
-1- شعرنة:" هذا الاشتغال الأكثر براءة من الكل " في رسالة مؤرخة بشهر يناير سنة 1799، والتي كانت موجهة لأمه، يشير (هولدرلين) يشير إلى هذا الاشتغال الذي يتعلق "بالشّعْرَنَة" وكأنه:" الاشتغال الأكثر براءة من الكل". وكيف يكون الأكثر براءة؟ "unschuldigste" لأن هذه البراءة تكشف لنا عن نفسها، عبر ذاك الحجاب المحتشم للّعب. وبلا انقطاع، تخترع عالم صورها الخاصة بها، وتظل مشربة بها، داخل ذاك الإطار الذي تخيلته. وهذا اللعب، ينسرب تدريجيا من قبضة القرار الجاد، هذا القرار الذي يوظف "schuldig macht" دائما، بطريقة ما أو بأخرى. والاشتغال بفعل "الشّعرنة" يظل في نهاية المطاف، غير ضار. ولكن يبقى في الوقت نفسه غير رصين. لأن هذا يظل مجرد خطاب خالص، أي "فعل قول". وهذا لا علاقة له بتاتا، بالفعل الذي يَعَضّ مباشرة على الواقع ويغيره. إن الشعر أشبه ما يكون بالحلم، إنه ليس واقعا، إنه لعبة أقوال، ولا يمكن أن يعتبر قط، كفعل جاد. والشعر غير ضار، ولا رصانة له. فمن ذا الذي، باستطاعته أن يدعي، أكثر من اللغة الصافية نفسها، بأنه في مأمن من أي سقوط؟ بالفعل، فبالنظر إلى الشعر بكونه مثلا "الاشتغال الأكثر براءة من كل الاهتمامات"، فإننا لن نكون قد توصلنا إلى معرفة ما هي "ماهيته". ومن جهتنا، فإننا قد وجهنا اهتمامنا، على الأقل، نحو "أين؟" بإمكاننا البحث. إن الشعر يخلق إنتاجاته في إطار اللغة، ويخلقها من "مادة" اللغة. وماذا يقول (هولدرلين) عن اللغة؟ فلنستمع إذن إلى الشاعر في "لفظته" الثانية. انتهى القسم الأول ويليه قريبا إن شاء الله القسم الثاني. - كلمة حول الترجمة: هذه الدراسة - ونقصد نص الفيلسوف هايدڭر- التي قمنا بنقلها إلى اللغة العربية، أو بالأحرى، إعادة صياغتها، ما أمكننا ذلك، قد ظهرت بقلم (هايدڭر) تحت عنوان "هولدرلين وماهية الشعر". وهي دراسة في غاية التعقيد اللغوي، الشيء الذي جعلنا نستحضر، تلك المقولة التي صدرت عن الكاتب (بورخيس) بخصوص (هايدڭر)، حيث قال عنه، بأنه بالرغم من عبقريته الفكرية، فإنه قد أفسد اللغة الألمانية بأسلوبه المعقد. ومن جهتنا، لقد حاولنا أن نخرج هذه الترجمة، في صياغة سليمة وشفافة، بالرغم من المشقات الكبرى التي لاقيناها وعانينا منها. - لقد وضعنا من أجل ضبط دقة اللفظ للأحرف اللاتينية، مقابل لها في اللغة العربية،ويتعلق الاصطلاح بثلاثة أحرف: ( ڭ = g / ڤ = v / پ = p) - مصطلح "شَعْرَنَة أو الشّعرنة" وضعناه كترجمة، للمصطلح الذي اقترحه الكاتب « dichtung/dichten »والذي يعني، بالإضافة إلى تأليف وتركيب الأبيات الشعرية، معنى "أنطولوجي / وجودي " أي المتعلق بالوجود من حيث هو موجود، وبالخلق والإبداع.