لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل. فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً. فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع. قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه. يحكي المحب لنفسه حكاية، ويصنع إلهه، كائناً يعج بألف إغراء لقد كتب لوكريس: الفرح تتأجج وتتغلغل في الجسد، فيزداد الغضب يوماً بعد يوم. إنه يتكاثر، وينتشر بقسوة شديدة، بحيث لن يمكن مداواته، بحسب تعبير بروست في حب سوان. هذا الميل نحو الانغماس يبحث من خلاله الشاعر عن سبب، وقد وجده، بطريقة ما. وإذا تشبث العشاق ببعضهم، وارتموا في أحضان بعضهم بلا حساب، ولم ينصتوا إلى الرأي العاقل وبالغوا، بالمعنى الأقصى للكلمة، فذلك لأنهم يجهلون تماماً السر المشؤوم للحب. هذا السر الفظيع، المتخفّي بعناية. عن الأعين، إنه هذا: «المعبود»، وهو حبيب غير موجود. موضوع الحب ليس سوى عرض سمات تخيّليّة. وابتداء من تلك الذرّات التي تخرج من مخلوق جذاب لترتطم بالعين المقابلة، يحكي المحب لنفسه حكاية، ويصنع إلهه، كائناً يعج بألف إغراء، بحيث تتلخص أمنياته في توافر تلك المغريات في الحبيب. وبهذا يكون لوكريس قد اكتشف فكرة «التبلور»، منذ القرن الأول قبل الميلاد. عام 1822، في مناجم الملح بسالزبورج، کتب ستاندال في كتابه عن الحب، عندما نُلقي بغصن تعرى من ورقة بفعل الشتاء، فإننا نسترده بعد بضعة أشهر، مغطّى بعدد لا يحصى من الماسات المبهرة، التي لم نكن نميزها في حالتها الأولى. ويضيف: «ما أسميه تبلوراً، إذن هو العملية التي يقوم بها الفكر حين يستخدم كل ما هو موجود في اكتشاف أن المحبوب يمتلك صوراً جديدة للكمال». وبنفس الطريقة لا يفتأ لوكريس في عن طبيعة الأشياء، يعدّد المزايا الوهمية التي يذكرها رجلٌ عماه الحب، عن المرأة التي فتنته يوماً ما. فإذا كانت سوداء ، يصفها بعسلية اللون، وإذا كانت وسخة ونتنة، تكون في عينيه طبيعية، أما عيونها المطفأة، الباهتة، فيراها هو متوهجة كالألماس، ولو هي عصبية وجافة، تكون غزالة برية، بينما فتنة القزمة هي من المفاتن، كي تلتهم كاملة، أما العملاقة فهي آلهة تصدر العظمة والمتلجلجة تغرّد والخرساء متواضعة، بينما الشرسة الوقحة الثرثارة ، يراها هو شعلة متوهجة، والتي تكاد تختفي من ا يعتبرها هو صغيرة لطيفة». إلخ . بالطبع نعرف ما أخذه موليير . من اقتباسات عن هذا الابتهال اللوكريسي الساخر، في تسلسل شهير في السوداوي أو Misanthrope. هكذا يكون الحب نتاجاً لتكوينات من الأحلام والأوهام المخادعة. إذ ينشأ عن الخيال في جزء كبير منه، وبالتالي لن يستطيع أن يعود ليتأقلم مع الواقع بمحدوديته. بل إن الحب لن يستطيع أن يكتشف كم هو كاذب إلا حين يكون مؤكداً، وهنا يكمن السر التناقضي لقدرته المطلقة. بقي القول إن الولع بالأساطير المرتبط بالحب، والمبالغة المضللة التي تصاحبه كظله لن يستطيع وحده تفسير الجاذبية الدائمة للحب على البشر. وكيف يتسابق كل المحبين في اتجاه انسلاخ بري؟ وكيف تمارس أسطورة الروح الشقيقة ذلك الافتتان عبر العصور، معاندة كل الإخفاقات السابقة وخيبات الأمل المحتملة؟ في حفر لوكريس بقلمه تفسيراً لا يفتقر إلى الثقل، واصفاً امرأة ربما تحمل الآلاف من البهجات لينشغل بها رجل عادي ليحمّلها، وبجهد يسير، معنى وجوده، متوهماً أن امتلاك كائن ما سوف يمنحه مفتاح المملكة، متحاشياً الألم المرتبط بمحادثة تؤول إلى الفلسفة، وهي القادرة وحدها على أن تضمن له سعادة مستقرة. إذن هذا التكاسل الميتافيزيقي، والخوف من العيش ومن تحمّل حريته بشكل كامل، تبدو كأفضل الدعائم لتلك العبودية الإرادية، وفيها يتلخص الحب. فمن دون الخوف من الموت، يفقد الحب سبب وجوده. الخلاص في الجنس وبعد الواقع القاسي، تدق ساعة العلاج ! ولا أمل في الحصول على الترياق المُعجز طالما مرض الحب ما زال مستشرياً. كي نهيئ أنفسنا مسبقاً، كما نبهنا لوكريس الذي يرى أن تجنب الوقوع في شرك الحب أهون من التخلص منه . فلننتبه أولاً ، ولا ننسَ أن نفرق بين «العيوب الجسدية أو الأخلاقية» الحقيقية، وبين تلك التي ترغبها النفس. ولنكرر بلا كلل ولا ملل: ألا يوجد غيرها؟ ألم نحيا دونها من قبل؟ وأن نذكر أنفسنا أيضاً أن هناك ضمادات كثيرة على تلك الساق المصنوعة من السيليكون هذا النوع من المقولات لن يمنع الآلية الشعورية من التقدم. إذن «الوكريس السامي»، كما سماه أوفيد مؤلف فن الحب، أراد أن يدون برنامجاً راديكالياً للغاية. حزمة من المعايير يختلج لها قلب هواة الرومانسيات الوردية من البديهي أن يعرّضنا الحب الحصري لعذابات هائلة محتملة، ومن الضروري أن نتخلى عنها إلى الأبد. ومع ذلك فلا غنى عنها. يرى شاعرنا أنه من الأفضل أن نلقي بداخل شخص آخر غير الذي نتوق اليه بالسائل المختزن، بدلاً من الاحتفاظ به لذلك الحب المسيطر عليه. فلا يدخر سائله المنوي لحبيبته «الوحيدة». وألا يتقيّد لأجل واحدة في المُجمل ! فلننم تعدّدية الحب وتحرّر الجنس بأكمله. ولنشجع فينوس.