لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل. فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً. فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع. قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه. يكون العاشق في حال أسوأ عند رحيل الحبيب يستشعر الحب الخطر بأنف كأنف القطط. وحين يعلن عن نفسه يكون الإعلان بمثابة زعزعة غير مسبوقة، وزلزال حقيقي، صدمة، وجنون يملأ العاشق بمشاعر وأحاسيس متناقضة. وبالطبع يكون العاشق في حال أسوأ عند رحيل الحبيب. لماذا إذن هذا الانطباع بوقوع كارثة محققة، وهذا التخبّط الذي قد يؤدي بالعاشق إلى الموت حال فقد المعشوق؟ إنه حزن عاطفي فادح غرائبي وعميق. ولكن ذلك لا يمكن أن يتضح في نهاية الأمر، إلا باللجوء إلى نظرية أفلاطون، القائلة بأن كل من عاش يوماً أو أسبوعاً أو عشر سنوات، كان يهدف إلى الشعور بالخلود بالتأكيد، حتى وإن لم نسقط من عل، فإن كل شيء يضيع، حينها نفقد ما هو أكثر من الحياة، نفقد الدافع لأن نحيا. يكشف، هنا، المنظور السقراطي لتراجيديا الوجود، التناقض المؤلم للإنسان. والخلاصة أن الإنسان يتطلع إلى الخلود، رغم يقينه أنه فان. وتعاني البنية الميتافيزيقية للحب والرغبة من هذا التمزق. فالرغبة تتصاعد عند من يشعر بها وتتملكه حتى يتعذب حالما يبلغها، وممن يشعر أنه قد بلغها عليه أن يقاتل للحفاظ عليها وعلى استمرارها. إذن يبدو أن الزمن يعلق رحلة مروره طالما أن لحظة النشوة العاطفية قائمة. فيما يبدأ القلق من الآتي اعتباراً من اللحظة التي يعتقد فيها الإنسان أنه بلغ السعادة الأولمبية (الإشارة إلى منطقة أولمبيا عند الإغريق). وفي نهاية المأدبة، حين لام السيبياد الفاتن سقراط، وعاتبه لعدم استجابته لمغازلاته الجنسية، كان ذلك هو جنون الانجذاب العاطفي الذي عبر عنه الشاب، وما يولّده من معاناة، والضياع من ذاته. يشعر بأنه رجل أكثر من كونه «أفعى» تريد أن تعض كما أكد هو . ومع هذا، ألا يحمل من لم يجرب مغامرة إيروس ولا يعرف لوعة الفراق، شكل الموت، تحت اسم «الحكمة» و«الاعتدال» هكذا يتساءل مونيك ديكسو في الفيلسوف الطبيعي). «وإذا نظرنا للأمور، من هذا المنطلق، فإن الأحجار تحظى بمتع رائعة، كما تحظى الأموات». فمن لا يشعر بالرغبة ولا يحب لم يعد إنساناً بالمعنى الحقيقي. نحو محيط الجمال الحب إذن هو حبّ للجمال. ولا يمكن قصره على الحب البلاستيكي للأجساد، الحب الفاني في حد ذاته. وقد عرف عنه سقراط بعض المعرفة، فهو على الرغم من قبحه الظاهر، ومنقاره وعيونه السرطانية، قد مارس سلطة وجاذبيّة لا تقاومان على مجموعات الطلاب في دروسه. إذن يدعونا ديوتيم إلى أن نرتقي سلماً من ست درجات. وإن كان الحب هو الرغبة في التوالد داخل مدار من الكمال، إذ يصبح الجمال هو الوصفة الخاصة بنوع الولادة من جسد واحد جميل إلى جسدين جميلين ومن جسدين جميلين إلى كل الأجساد الجميلة، ومن الأجساد الجميلة إلى الانشغالات الجميلة، إلى المعارف الجميلة، إلى علم الجمال… المعنى الأقصى للكشف، كما يعترف ديوتيم. هي المعرفة الوحيدة للجمال، جمال خالد، في نفسه وبنفسه. وحينها نلمحه في النهاية «عند هذه النقطة من الحياة، حيث تستحق الحياة أن تُعاش بالنسبة لأي إنسان». من يصل إلى هذا التأمل، بمقدوره تمييز هذا الجمال عن جمال الذهب، أو جمال الأجساد الفتية الفانية. إنها الحقيقة التي يلمسها، إنها الثبات. لذلك أثبتت فيدرا، من قبل، أن المبدأ الملهم للرجال في حياتهم هو الحب حتى درجته القصوى، وليس الثراء ولا المجد. واجه أفلاطون، مسبقاً، «الرغبة المشؤومة» للشاعر لوكريس، والوهم الخادع للعاطفة الجياشة التي وصفها خلفاؤه، بالرغبة المجنحة، والضوء الساطع، والخصوبة الروحية للحب. فالحب، عنده، يهدف إلى السعادة وليس إلى الاكتفاء بأسبوع عابر لنزوة شهوانية، إنما في إرضاء وتجديد رغبة متقدة دائماً. نلاحظ أن هذا الشطط نحو الشيء الروحي هو الذي سيقدم لنا في ما بعد، بتحوير للمعنى، التعريف اللاجنسي «العلاقات الحب الأفلاطوني». ولكننا سنخطئ في الاعتقاد بهذا الازدراء للبعد الجسدي عند أفلاطون. فقد وصف باعتباره المرحلة الأولى لارتقاء النفس، الحب الأرضي، فحب الأجساد لا يؤدي سوى إلى بديل للخلود. بديل مصنوع من الخرق التي تتجمع كما ثوب من خليط مرقع، لكنه أيضاً يعطي الخلود الظاهري. في فيدرا، نجد أن العشاق المتعانقين لا يذهبون إلى سراديب الجحيم، بل تنمو أجنحتهم مع الوقت. هناك نوع من الجمال الحقيقي في هذا الاندفاع يجعلهم يشعرون بتسامي أنفسهم، ميتافيزيقياً، في روح أخرى. ولكن مع الأسف، «انفصل الحب عن الجمال»، كما يؤكد لاكان.