لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل. فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً. فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع. قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه. في الحقبة المعاصرة انقلب السحر المرتبط بالحب إلى تفاهة دنيئة واجه أفلاطون، مسبقاً، «الرغبة المشؤومة» للشاعر لوكريس، والوهم الخادع للعاطفة الجياشة التي وصفها خلفاؤه، بالرغبة المجنحة، والضوء الساطع، والخصوبة الروحية للحب. فالحب، عنده، يهدف إلى السعادة وليس إلى الاكتفاء بأسبوع عابر لنزوة شهوانية، إنما في إرضاء وتجديد رغبة متقدة دائماً. نلاحظ أن هذا الشطط نحو الشيء الروحي هو الذي سيقدم لنا في ما بعد، بتحوير للمعنى، التعريف اللاجنسي «العلاقات الحب الأفلاطوني». ولكننا سنخطئ في الاعتقاد بهذا الازدراء للبعد الجسدي عند أفلاطون. فقد وصف باعتباره المرحلة الأولى لارتقاء النفس، الحب الأرضي، فحب الأجساد لا يؤدي سوى إلى بديل للخلود. بديل مصنوع من الخرق التي تتجمع كما ثوب من خليط مرقع، لكنه أيضاً يعطي الخلود الظاهري. في فيدرا، نجد أن العشاق المتعانقين لا يذهبون إلى سراديب الجحيم، بل تنمو أجنحتهم مع الوقت. هناك نوع من الجمال الحقيقي في هذا الاندفاع يجعلهم يشعرون بتسامي أنفسهم، ميتافيزيقياً، في روح أخرى. ولكن مع الأسف، «انفصل الحب عن الجمال»، كما يؤكد لاكان. ففي الحقبة المعاصرة، انقلب السحر المرتبط بالحب إلى تفاهة دنيئة، وإلى عجز مزر بين الأجساد. تعرض روايات ميشيل ووليبيك بقسوة دور الخزي الذي يمارسه اليوم الإنسان الشهواني، ويشير أيضًا الكاتب فرانسوا ميروني في كتابه عن الإبادة التي اعتبرت أحد الفنون الجميلة ، والتي تشير بالنسبة له إلى هاوية من العفونة يصل إليها المجتمع عندما يتحول الجماع إلى رأس مال نرجسي بسيط. فلو ربط أفلاطون الرغبة بالشوق أي استبدال الشوق الميتافيزيقي بالحاجة المتدنية، لكان ذلك هو البؤس الكبير، آلة لا تكف عن توليد الإحباط. نحن نجرد الفاعل من رغبته، كما يضيف لاكان، وفي المقابل نرسلها إلى السوق، لنعرضها في المزاد في تبادلية الأجساد والتعطش عصر المستمر، فإن «إيروس المتوله، تحوّل إلى إيروس الطاغية». إن نفساً مضطهدة كتلك ستظل فريسة للعوز والفراغ، كما تنبأت فيدرا. إنها لشطط نحو الشيء الروحي هو الذي سيقدم لنا في ما بعد، بتحوير للمعنى، التعريف اللا جنسي العلاقات الحب الأفلاطوني. ولكننا سنخطئ في الاعتقاد بهذا الازدراء للبعد الجسدي عند أفلاطون. فقد وصف باعتباره المرحلة الأولى لارتقاء النفس، الحب الأرضي، فحب الأجساد لا يؤدي سوى إلى بديل للخلود. بديل مصنوع من الخرق التي تتجمع كما ثوب من خليط مرقع، لكنه أيضاً يعطي الخلود الظاهري. في فيدرا، نجد أن العشاق المتعانقين لا يذهبون إلى سراديب الجحيم، بل تنمو أجنحتهم مع الوقت. هناك نوع من الجمال الحقيقي في هذا الاندفاع يجعلهم يشعرون بتسامي أنفسهم، ميتافيزيقياً، في روح أخرى. ولكن مع الأسف، انفصل الحب عن الجمال، كما يؤكد لاكان. ففي الحقبة المعاصرة، انقلب السحر المرتبط بالحب إلى تفاهة دنيئة، وإلى عجز مزر بين الأجساد تعرض روايات ميشيل ووليبيك بقسوة دور الخزي الذي يمارسه اليوم الإنسان الشهواني، ويشير أيضًا الكاتب فرانسوا ميروني في كتابه عن الإبادة التي اعتبرت أحد الفنون الجميلة، والتي تشير بالنسبة له إلى هاوية من العفونة يصل إليها المجتمع عندما يتحول الجماع إلى رأس مال نرجسي بسيط. فلو ربط أفلاطون الرغبة بالشوق أي استبدال الشوق الميتافيزيقي بالحاجة المتدنية، لكان ذلك هو البؤس الكبير ، آلة لا تكف عن توليد الإحباط. نحن نجرد الفاعل من رغبته، كما يضيف لاكان، وفي المقابل نرسلها إلى السوق، لنعرضها في المزاد في تبادلية الأجساد والتعطش عصر المستمر، فإن «إيروس المتوله، تحوّل إلى إيروس الطاغية». إن نفساً مضطهدة كتلك ستظل فريسة للعوز والفراغ، كما تنبأت فيدرا. إنه عرض للخيالات الجنسية الإعلامية على أجساد مسكونة أقل فأقل. إنه بئر من الحزن بلا قرار بالنسبة «الحضونين» (جني ذكر يمارس الغرام النساء أثناء نومهن) و«السقوبات» (جني أنثى تمارس الغرام مع الذكور أثناء نومهم) الذين أصبحوا رجالاً ونساءً يمتع بعضهم بعضاً. ويرى الفيلسوف المعاصر آلان باديو، أننا قد نجرؤ، مع سقراط، على تأكيد تلك الفكرة الحقيقية، والمبدأ، في مقابل شبح تلك الحرية التي ترهقنا حرية الاعتماد على أشياء عديمة الشأن وعلى رغبات تافهة. وهل تنبغي استعادة حماسة القلب النقي، بتلافي الإحباط المعاصر، كي نحرر إيروس؟ إنها القوة الأولية التي تدفعنا وتحركنا في غموض، كما قال أورتيجا إي جاسيه الذي استنكر في القرن الماضي، كيف أننا لم نعد نتحدث عن الحب الحقيقي.