أعدّت صوفي نولو، التي تعشق الأنتولوجيات، مختارات حول الشعراء في تأهبهم لشق العباب وطي الآفاق. فمنهم من اضطره طارئ لأن يغادر، أو دعاه داع للرحيل. أو فقط من عنّ له السفر يوما، أو دقّت في أعماقه، كنداءات، أجراس البعيد. إن ما شدني إلى هذه المختارات أولا، قبل تفحص شعرائها وشعرهم، هو هذه الالتفاتة الجميلة إلى موضوعة الإقلاع نحو البعيد في بحار الشعر. شاءت المصنفة توظيف مفردة دقيقة للدلالة على التأهب للرحيل، تشير ضمن ما تشير إليه إلى أن الانطلاق قد أوشك، وأن ساعة البين قد أزفت، وأن الموكب قد تململ وأن الحبل قد حط على الغارب. ثم إن من شعرائها من لم يسافر أبدا، لكنه لا يفتأ يهجس بالمدن النائية وبالأصقاع المترامية. السفر طَيُّ وهاد الأعماق أيضا. وقد يعني السفر مجرد صرم ود، أو مغادرة كوكبة من الخلان. كتب جاك بريفير: «يا رفاق النحس، طابت ليلتكم، ناموا احلموا أنا سأمضي.» لم تحدد صوفي نولو المدة الزمنية التي سوف تغطيها مختاراتها مباشرة، بل جعلت الشعراء الذين سوف تذكرهم فيها يمتدون من شارل بودلير إلى هنري ميشو. ما يعني تحديدا بدءا بالسنوات الواحدة والعشرين من مستهل القرن التاسع عشر أي تاريخ ولادة بودلير إلى أقل من عشرين سنة المتبقية من القرن العشرين قبل نهايته أي تاريخ موت ميشو. ما يعني أيضا أن كل شعراء هذه المختارات إما ولدوا في أواسط القرن التاسع عشر أو في السنوات الأخيرة منه. اختلف تناولهم، في نصوصهم، لشأن السفر اختلافا بينا، وقد لا أجانب الصواب إن قلت بأن بودلير كان أقواهم صوتا، وأن أشد ترجيع كان لصدى كلماته، وكان نصه المعروف عن المسافرين أجملها، تأملوا كيف شبّه تعذيب الفضول لهؤلاء في الأسفار: «مثل ملاك شرس يجلد شموسا». بالرغم من اعتباره أن المعرفة التي نجنيها من السفر مريرة، فإنه لا يرى في السفر سوى مضيا نحو مجهول بواطنه مليئة بكل جديد: «امض إذن متى لزم ذلك». غير أن جان كوكتو هو ليس متحمسا للسفر. فهو لا يسافر إلا لماما، ولم يذق، كما قال، طعم السعادة في تلك المدن التي يعشقها، معددا إياها، ذاكرا من معالمها ما آثاره أكثر، فهذه «الجزائر التي تفوح برائحة الماعز والياسمين». تسوؤه كل الأماكن، حتى باريس نفسها، لا غرو في ذلك، ولا عجب، ففرحه ليس سوى في»أحضان تلتف عليه». وربما قد صدق بول كلوديل في حديثه عن ألم لمِّ المتاع من جديد لدى كل وصول: «ذلك ما يجعل العودة أكثر كآبة من الرحيل». لذلك ليست، بالنسبة إليه، أية طريق بالسبيل التي يلزمه اقتفاؤها». فهل يجب إذن، لهذا السبب الرصين والغريب بالذات أن نهمل، مثل ماكس جاكوب، ساعة انطلاق القطار، وننام أو لا ننام حتى الصباح الموالي. أم علينا أن نستسلم إلى لذة ولعنة الشعر عن آخرهما، مثل هذا الأبولينير اللعين الذي تقاذفته أبعاد أسفار لا خرائط لها، وها هو يائس ووحيد، كما كتب، والصباح قد أوشك على البزوغ، يشرب كحولا قوية، مثل حياته تماما. بل يشرب حياته مثل ماء حياة. يدلف إلى مسكنه، مشيا على الأقدام، وهو يهمهم، «وداعا، وداعا، يا شمسا نُحرت». وهل علينا أن نذعن فعلا لبليز سندرارس لما أملى علينا أن «عندما تحب غادر!» قد يمكن ذلك، إن لم نكن نشبه تماما ذلك المتسكع الذي حسب بيير ريفيردي: «تأخذ الذكريات بتلابيبه وتمنعه من الرحيل». فهل نمضي معهم جميعا، بقراءتهم، أم نكتفي بمرافقة فران نوهان إلى المحطات البعيدة، ليست تلك التي تضيع في الليالي، وإنما تلك التي نصل إليها دائما متأخرين!