يطرح كتاب حسن أوريد «فيروز المحيط» إشكالا نقديا يجعل قراءته محفوفة بالمخاطر. فهو ليس مجرد مجموعة شعرية أو ديوان شعري، بل إنه تضمن إلى جانب القصائد مقدمة في حوالي عشر صفحات، لا يمكن تصنيفها إلا في إطار النقد الأدبي. ومن ثم فإن الكتاب يجمع بين خطابين من طبيعتين مختلفتين: النقد والإبداع. الإشكال يتمثل إذن في علاقة التآلف والاختلاف بين الخطابين، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الملاحظتين التاليتين: أولا إن حسن أوريد يتمظهر كمؤلف من خلال «فيروز المحيط» بصفة مزدوجة، فهو ناقد وشاعر في نفس الوقت، أو بتعبير أخف قارئ وكاتب في الآن ذاته. ثانيا إن زمن كتابة المقدمة هو غير زمن كتابة القصائد. المقدمة كتبت في فبراير 2008، أما النصوص الشعرية فكتبت في فترة تتراوح بين ماي 1992 ويناير 1995. فبين كتابة آخر قصيدة وبين المقدمة حوالي ثلاث سنوات. وهو ما يجعل المقدمة والمتن الشعري ينتميان لسياقين مختلفين. هناك كما هو معرف لدى دارسي الخطاب المقدماتي عدة وظائف تنهض بها المقدمة التي يمكن أن يكتبها المؤلف نفسه، كما يمكن أن تناط بشخص آخر غيره. وأخطر هذه الوظائف على الإطلاق أن تتحول المقدمة إلى نوع من السلطة القرائية التي تعمل على توجيه القارئ وتقييد آفاق القراءة بشكل يفرض الوصاية عليه، ويحد من آفاق التأويل لديه. إن مقدمة «فيروز المحيط» لا تندرج في هذا الإطار. فهي وإن كانت تشير إشارات خفيفة إلى السياق العام الذي كتبت فيه قصائد الكتاب، إلا أنها لا تتعرض لتلك النصوص بشكل مباشر. ومن ثم يمكن اعتبارها نصا موازيا أريد له أن يكون معبرا عن وجهة نظر تجاه قضايا أدبية وغير أدبية لا ترتبط بالضرورة بالمتن الشعري المرفق. ومن هنا يمكن مع تغيير طفيف أن تنشر المقدمة وتقرأ لوحدها دون أن يتغير من أمرها شيء، تماما كما يمكن أن تدرس نصوص الديوان الشعرية بغض النظر عن المقدمة دون أن يؤثر ذلك على عملية القراءة. ومع ذلك فإن المقدمة والنصوص الشعرية يشكلان معا أساس رؤية شاملة ومتكاملة تنبني على علاقة جدلية بين التنظير والإبداع، هي ما ستحاول هذه الدراسة الكشف عنها في هذه العجالة. يصدر حسن أوريد عن تعريف للشعر يجعله مرتبطا أولا وأخيرا بالتجربة بالمعنى الأنطلوجي للكلمة. وهي تجربة فردية، دون أن يعني ذلك تقوقع الذات وانغلاقها. إن الشعر عنده تجربة فردية بالمعنى الذي يجعل للفرد امتدادات في الزمان والمكان، أفقيا وعموديا. ولذلك نراه يثير في البداية علاقة الشعر بالشعور تذكيرا بالاشتقاق اللغوي الذي أورده بعض النقاد القدامى وهم يحاولون تعريف الشعر، فيضع الشعور والإحساس شرطا أول للقريض. أما الشرط الثاني فيتمثل في التعبير عن الثقافة. ويقتضي الارتباط بمنظومة القيم التي تكفل للشعر نوعا من الخصوصية تمنحه هويته وتميزه. وعلى الرغم من أهمية هذين الشرطين إلا أنهما لا يصبحان شرطين محددين للشعر إلا إذا أضيف إليهما شرط ثالث يتجلى في «جمالية التعبير وموسيقاه» اللذين يكتسبان بالدربة والموهبة. ما هي تجليات هذه الشروط الثلاثة في «فيروز المحيط»؟ جوابا عن هذا السؤال يعرض حسن أوريد في مقدمة كتابه للسياق العام الذي كتب فيه قصائد الديوان، وهو سياق يختلط فيه الفردي بالجماعي، والوطني بالقومي العالمي، ولكن الذات تظل بؤرته الأولى والأخيرة. وهذا ما جعله يعتبر تلك القصائد تعبيرا عن حالة نفسية: «هي مزيح من من قلق وجودي وكآبة لا يتأتى الشعر، بل الإبداع إلا بهما». ومرد هذا القلق الوجودي كما يوضح الشاعر إلى الهجرة إلى أمريكا التي استمرت لثلاث سنوات تقريبا. على أن الشاعر يحرص على بيان الخيط الرفيع بين الفردي والجماعي، فتجربة الهجرة وإن كانت فردية فإنها جماعية في دلالاتها المختلفة. إذ الفترة التي تؤطر هجرته كانت فترة تحول حقيقي أحدث انقلابا في الفكر الإنساني، أعلن عن نفسه بسقوط حائط برلين الذي كان علامة على انتهاء مرحلة من التاريخ وبداية أخرى، حيث اختلط الأمل بالتوجس وتحولت اللحظة إلى ترقب دائم لما قد يأتي ولا يأتي. إن قارئ تقديم « فيروز المحيط» يحس إذن بأن الشاعر كان يعيش قلقا وجوديا ذا بعد ذاتي تفصح عنه الهجرة إلى أمريكا، وذا بعد ثقافي عام تكشف عنه هجرة القيم والأفكار وتحولها. وهو ما يصعب معه القول بأن التجربة التي يتحدث عنها الكتاب تجربة فردية أو جماعية. إنها تتضمن البعدين معا بشكل يذوب فيه الذاتي في الجماعي والجماعي في الذاتي. ويجعلها تجربة تكثف كل الأبعاد الإنسانية في لحظات هي مزيج من الذاتي والموضوعي والفرد والمجتمع والوعي واللاوعي والحلم والواقع.... لا مناص والحالة هذه من طرح التساؤلات الكبرى المصيرية: ومن أجل ذلك سيصفي حسن أوريد حساباته الفكرية القديمة تجاه قضايا كانت ولا تزال تحتفظ براهنيتها وحساسيتها. ومنها مسألة اللغة ومسألة التراث ومسألة الحداثة. هل قال حسن أوريد من خلال المقدمة نثرا ما لا يمكن قوله شعرا؟ وهل القصائد التي ضمنها ديوانه الشعري لا مست أفقا يستحيل التعبير عنه نثرا؟ وما العلاقة بين المقدمة والشعر؟ ينبغي أن نذكر في بداية تلمس مقاربات لهذه التساؤلات إلى أن ما يجمع المقدمة بالقصائد المتضنة في «فيروز المحيط» هو التذكير بالسياق العام الذي كتبت فيه. وما عدا ذلك فإن القصائد يمكن أن تقترح نفسها على القارئ مكتفية بنفسها. ومع هذا فإن المقدمة تشير إلى موضوعتين غاية في الأهمية، نجد لهما ظلالا في كل القصائد: الموضوعة الأولى هي ما عبرت عنه المقدمة بالهجرة تارة وبالمنفى تارة أخرى، وستتحول الهجرة في كل قصائد الديوان إلى نوع من «الاغتراب» سيغطي مساحة الديوان كله بصيغ فنية متعددة، سنتعرف عليها بعد حين. أما الموضوعة الثانية فهي نتيجة للأولى وتتجلى في ما يمكن أن نسميه النفس المأساوي الذي يطغى على الديوان وينمي البعد الرؤيوي فيه، والذي سيحكم بناء كل قصيدة على حدة، ويشكل الخيط الرفيع الذي يشد القصائد إلى بعضها بطريقة تجعل من تلك القصائد ديوانا شعريا بالمفهوم الذي يحيل على الترابط والتعاضد بين كل أجزاءه. أما الهجرة أو المنفى فتبرز كموضوعة مهيمنة على أغلب القصائد، إما بمرادفاتها كالرحيل والسفر كما في قصيدة «مرثية» التي تبدأ هكذا: الآن سأرحل أشق بعصاي البحر أو أخوض لجج الهول أهزأ بالحزن وأسخر أو بما يدل عليه كالوداع والحنين: وكان أن شيعني الصحاب قالوا ستعود وتنسى ضحكت ثم أخفيت أمري وكانوا يحملونني إلى قبري. وفي الحالتين معا تتحول الهجرة إلى اغتراب يفقد فيه المرء تآلفه مع الفضاء الذي يحيى فيه، ويلجأ إلى الماضي كملاذ يعيد من خلاله تشكيل عالم بديل. وذلك عبر آليتين رئيستين: آلية الاستذكار، حيث يلجأ الشاعر إلى استرجاع أحداث ومواقف مرت به قبل أن يغادر المغرب، ويستعيد لحظات طافحة بالحنين والشوق إلى أيام خلت عندما كان بين خلانه وأصدقائه، كما فعل في قصيدة «سكارى» التي يكثف فيها نقاشا دار بينه وبين جماعة من الأصدقاء حول مفكر مغربي غير مواقفه، نفهم أنه عبد الله العروي. وكما نجد في قصيدة «مرثية» و«الوداع» و«مراكش» وغيرها. آلية استدعاء شخصيات تاريخية وأسطورية، إذ أن الشاعر قد خصص عددا من القصائد لرسم بورتريهات لشخصيات تاريخية مثل طارق بن زياد وعبد الكريم الخطابي وجمال عبد الناصر ولشعراء وأدباء من أمثال عبد الرحمان المجدوب وأبي حيان التوحيدي ودو مسيه، وحتى لشخصيات روائية كما هو الشأن في قصيدة «كونديد» بطل رواية فولتير التي تحمل نفس العنوان، أو قصيدة «السندباد». وسواء تعلق الأمر باستعادة ذكريات أو باستدعاء شخصيات تحولت مع الزمن إلى حمولة رمزية، فإن حسن أوريد يهدف من الآليتين إلى رسم رؤيته الخاصة للعالم انطلاقا من إعادة بناء تلك الشخصيات بشكل يبقي على إحالاتها المرجعية، ولكنه يمنحها إمكانيات هائلة لتختزل اللحظة الشعرية في علاقتها بالآن وهنا. ومن ثم فإن الركون إلى توظيف الشخصيات التي تنتمي إلى سياقات تاريخية مختلفة يجعلها تعبر في انسجام تام عن موقف عاطفي أو فكري أو سياسي. وبهذه الطريقة فإن الديوان إنما يعيد رسم ملامح تلك الشخصيات كي تخترق الزمن وتصبح أطيافا في لوحة الحاضر القاتمة. هناك ظاهرة تسترعي الانتباه في ديوان حسن أوريد، وفحواها أنه على الرغم من أن جل قصائده قد كتبت بالولايات المتحدةالأمريكية، كما يشير إلى ذلك المكان والزمان اللذان ذيلت بهما جل القصائد، إلا أن قصيدة واحدة من بين خمس وعشرين قصيدة هي التي استلهمت فضاء واشنطن، ويتعلق الأمر بقصيدة يتيمة تحمل عنوان «أدمس موركان» وهو شارع بواشنطن يعج بالملاهي. وما عدا هذه القصيدة فإن القصائد الأخرى تستمد نسجها الفضائي من المغرب. وهو ما ينم عن اغتراب مكاني جعل الشاعر يخص مراكش بقصيدة وهو في أمريكا. وهذا ما يكشف عن هول المسافة النفسية التي كانت تفصله عن مقامه الجديد. إن هذا يفسر الشعور بالحنين الذي تفصح عنه جل القصائد، وهو شعور يرتكز على الارتباط بالأرض إلى حد التماهي: يا رسول الردى لي إليك بغية أن أدفن في تلك الأرض الجديبة عسى أن تورق يوما من رفاتي زهرة إن هذا يؤكد أن الشاعر كان يدافع عن اختيار شعري يقوم على أن القصيدة ينبغي أن ترتبط بقضية ما. وقد صرح بذلك في المقدمة عندما نص على أنه لا مجال للحديث في الشعر عن نظرية الفن للفن. وعلى الرغم من أن جل قصائد «فيروز المحيط» قد كتبت بضمير المتكلم إشارة إلى الطابع الفردي والذاتي للتجربة الشعرية، إلا أن قارئ الديوان يمكن أن يقف على عدد من التمفصلات التي تأتي على الحدود بين ما هو فردي وما هو جماعي وبين ما هو محلي ووطني وما هو إنساني. ومن ثم فإنه لا ينبغي أن ننتظر من شاعر يدافع عن قضية أن يكون تجريبيا في كتاباته. صحيح أن حسن أوريد يكتب القصيدة الحديثة، ولكن إيمانه بأن التراث واستحضاره هو ضامن التجديد، قد حصن قصيدته من الوقوع في النزعة الشكلانية التي ترى في الشعر كلاما غير موزون غير مقفى وليس له معنى. وأول ما يثير الاهتمام في قصائد الديوان لغتها. فقد كتبت بلغة عربية فصيحة لا ترى ضيرا في استعمال بعض المفردات الغريبة إن كانت تنم عن حمولة شعرية. ولذلك فإنه على الرغم من أن شعرية أية لغة تنبع من العلاقات الجديدة التي تقيمها بين الكلمات والجمل والفقرات... فإن للكلمة عند حسن أوريد دورها في إذكاء شعرية النص من زاويتين على الأقل. الزاوية الأولى تتعلق بالجانب الموسيقي خاصة وأن الشاعر يراهن على إيقاع الكلمة في قصائده. والزاوية الدلالية وتهم جانب التكثيف الذي يمكن أن تنهض به الكلمة بالخصوص في مجال توظيف الأسطورة كما هو الشأن في قصيدة «الأبوكاليبس» حيث يكتب الشاعر: يقعقع الرعد من قمم الأزمان يذكرني لعنة الإنسان آدم الطريد وبرومثيوس الشريد ولكن شعرية اللغة تستمد أساسا من التركيب، ولذلك فإن قطب الرحى في شعرية اللغة في «فيروز المحيط» يتمثل في الصورة الشعرية. التي تتخذ في الديوان أبعادا مختلفة يمكن اختصارها في ثلاثة رئيسة: الصورة المفردة وهي التي لا يكاد يخلو منها بيت من الأبيات، وتقوم على الأوجه البلاغية المعروفة كالتشبيه والاستعارة والكناية، ولكن الشاعر اعتمد الاستعارات البعيدة التي تجعل الصورة تقوم بدور خارج وظيفة التوضيح والإفادة، لتحقق الإشباع الدلالي عبر الانزياح. الصورة المركبة التي تجمع بين عدة صور لكي تشكل مشهدا ثابتا أو متحركا وتغطي مقطعا من القصيدة بكامله. الصورة البنيوية وتغطي جميع أجزاء القصيدة التي تتحول بفضل تسلسل الصور الجزئية وتناسلها إلى استعارة كبيرة. وهي أرقى الصور الشعرية لأنها تساهم في تحقيق البناء العضوي للقصيدة. إن هذا النوع من الصور لا يمكن أن يتأتى إلا بتوظيف الثقافة التشكيلة التي يبدو أن «فيروز المحيط» قد استفاد منها، مما يحيل على البعد البصري الذي أصبح رافدا من روافد الشعرية في الديوان من خلال تناوب البياض والسواد واللجوء إلى الفراغات. على أن اعتماد الصور المتحركة التي تؤدي دور المشهد في بعض القصائد قد حقق لها بناء دراميا يعتمد السرد أداة رئيسة في البناء العضوي للقصيدة كما في قصيدة مراكش التي وظفت الصورة بطريقة تجعلها تسهم في تعميق الإيقاع الداخلي للقصيدة الذي يرافق الإيقاع الخارجي الذي يتجلى في الوزن والقافية. والواقع أن موسيقى الشعر في «فيروز المحيط» تحتاج إلى وقفة أطول للكشف عن كل جوانبها، وعلاقاتها بمكونات القصيدة الأخرى. وتكفي الإشارة في هذا السياق الذي نتحدث فيه إلى أن حسن أوريد استطاع أن يمنح قصائده موسيقى حتى خارج الأوزان الخليلية في بعض الأحيان. وذلك بالتعويض عن الأوزان التقليدية بتلاؤم الحروف وتنافرها والحرص على تقفية الأبيات. وهو ما يجعل الديوان من هذه الناحية يقف بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر. *حسن أوريد: فيروز المحيط. إصدارات مركز طارق بن زياد. الطبعة الأولى. الرباط 2009?