بمناسبة تخليد الذكرى 78 لحدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، احتضنت حاضرة مكناس يوم الجمعة 7 يناير 2022 نشاطين تربويين وتواصليين نظمتهما النيابة الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير مع كل من المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ومؤسسة يدا في يد للتنمية المستدامة وغوستاف ايفيل للتعليم الخصوصي بمكناس. وقد ألقى الدكتور مصطفى الكتيري محاضرتين اثنتين حول الحدث الوطني الجيلي والنوعي للوثيقة التاريخية ل 11 يناير 1944 الذي صنعه جيل الرواد والماهدين للعمل الوطني من نساء ورجال الحركة الوطنية ببلادنا. وتناولت المحاضرة الأولى موضوع: "الذاكرة التاريخية الوطنية وتنمية منظومة القيم"، فيما وسمت المحاضرة الثانية بوسم: "وثيقة 11 يناير 1944: رسالة في الوطنية". وفيما يلي نص المحاضرة الثانية: يتناول هذا العرض موضوع: "وثيقة 11 يناير 1944: رسالة في الوطنية" والذي يتوخى قراءة هذه الوثيقة لاستقراء قيمها التاريخية وإبراز مكانتها المتميزة من خلال طرح ظروف وملابسات صدورها وتحديد حمولتها الفكرية والسياسية والاجتماعية ثم الخروج بخلاصات واستنباطات لتوضيح مضامين هذه الوثيقة ودلالاتها وأبعادها التاريخية وإشاراتها القوية. من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال: لقد كانت سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية تتلكأ في القبول بمطلب الحركة الوطنية بالإصلاح المقدم لها في فاتح دجنبر 1934 متذرعة في كل مرة وحين بحجج واهية، وفي المقابل كانت تضاعف من صلاحيات القواد الذين اعتبرتهم أدوات ناجعة للحد من طموح السلطان ومن خلفه الحركة الوطنية حينما أصرا على ضرورة مراجعة نظام الحماية في بنائه العتيق المتجاوز. ورغم محاولة سلطات الحماية المناورة والالتفاف على وثيقة المطالبة بالاستقلال ل 11 يناير 1944 بإعلانها القبول بمسألة الإصلاحات والتعبير عن رغبتها في إنجازها سعيا منها لإطالة عهد الحماية، فإن تلكؤها في التنفيذ خلال العقود السابقة أفرغ الأمر من كل مصداقية، ومن تم اعتبرت وثيقة 11 يناير 1944 إقبارا لمسألة المطالبة بالإصلاحات بشكل نهائي وإخراجها من المعادلة السياسية والصراع الدائر بين الوطنيين بزعامة جلالة المغفور له السلطان سيدي محمد بن يوسف طيب الله ثراه والإقامة العامة، وإعلانا صريحا لا مراء فيه أن تحقيق الاستقلال يظل شرطا أساسيا للقيام بأي إصلاح داخل البلاد، والوثيقة واضحة في توكيل هذه المهمة إلى السلطان بعد هذا التاريخ. تحليل وثيقة المطالبة بالاستقلال 11 يناير 1944: 1) من حيث الشكل: إن أول ما يلاحظه المطلع على وثيقة 11 يناير 1944، هو تركيزها اللغوي الشديد وصغر حجمها، فمجموع عدد كلماتها لا يتعدى 377 كلمة، وهي مع الإمضاءات لا تتجاوز الصفحة الواحدة، ووقع عليها من أعضاء الحزب الوطني كما كان يسمى سابقا خمسون شخصية، ومن قدماء تلامذة مؤسسة مولاي إدريس تسع شخصيات، ومن الشخصيات الحرة سبعة؛ فمجموع الموقعين إذا هو خمسة وستون شخصية بالإضافة إلى امرأة واحدة، أي 66 موقعا، لكن أضيف في هذا الباب أن الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال هم 67 وليس 66 فقط، وأشرح ذلك بالقول، إن 66 وقعوا ماديا وذيلوا الوثيقة بخط يدهم وهم المعروفون لدينا كما هو مثبت في الوثيقة، وواحد وقع معنويا على الوثيقة إنه جلالة المغفور له محمد الخامس عندما أعطى موافقته على مضمون الوثيقة وفحواها. ومن حيث انتماء الوطنيين الموقعين على الوثيقة فإنهم ينحدرون من مدن مختلفة تمثل مجموع المنطقة الخاضعة للحماية الفرنسية وهم موزعون جغرافيا كالتالي: ثلاث عشرة شخصية من فاس، من الرباط إحدى عشر شخصية، من سلا سبع شخصيات من مكناس، ستة شخصيات من مراكش خمس شخصيات، من القنيطرة ثلاث شخصيات، من الخميسات ثلاث شخصيات، من أسفي ثلاث شخصيات، من الدارالبيضاء شخصيتان، من سيدي قاسم شخصية واحدة، ومن وجدة شخصية واحدة مُوكلة من إخوانها في الحركة الوطنية المحلية. ومن حيث انتماءاتهم الاجتماعية فالموقعون ينتمون إلى طبقات مختلفة فهناك عشرون موقعا يعملون في قطاع التعليم، وثلاثة عشر موظفون، وأربعة يمتهنون المحاماة، وخمسة يعملون في قطاع الصحافة وثلاثة يعملون في سلك القضاء، ومن العلماء اثنان، وواحد يمتهن الطب، وواحد يعمل في سلك الجندية، وأخيرا سبعة عشر موقعا يعملون في مجال التجارة والأعمال الحرة. 2) من حيث المضمون: إن وثيقة 11 يناير 1944 (الموافق 14 محرم الحرام سنة 1363ه)، أثبتت استعادة الحركة الوطنية المغربية لزمام المبادرة عبر مراجعة النقاش المطروح داخل البلاد والارتقاء به مطلبيا درجة متقدمة في سلم الحرية والخلاص من نظام حكم الحماية، أي التحول من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال. وهو ما كان واضحا وجليا في الوثيقة التي تعمد واضعوها وكَتَبتها عدم الدخول في التفاصيل التي يمكن أن تفسرها الإقامة العامة حسب هواها ولغير صالح الهدف الذي وُضعت من أجله، وقد تضمنت الوثيقة ثلاثة محاور. المحور الأول: ويمكن اعتباره استهلالا أو تقديما، ويتضمن العوامل والأسباب الداعية إلى تقديم مطلب الاستقلال، وهي أسباب منطقية تاريخية تضمن للمغرب هذا الحق وهو البلد الذي عاش مستقلا منذ أزيد من 12 قرنا، وفي ظله وكنفه عاش المغاربة وحافظوا عليه، ولم يسمحوا لأي قوة أجنبية أن تحتل بلادهم، وقاوموا كل محاولات الدول الإيبيرية التي لم تتمكن في أقصى مراحل قوتها وعتوها سوى من احتلال بعض ثغوره البحرية، والتي تم استرجاع معظمها قبل نهاية القرن الثامن عشر باستثناء ثغري سبتة ومليلية. فالاستعمار إذاً ظاهرة غريبة على المغاربة، لابد من زوالها، والحماية التي هي شكل من أشكال الاستعمار لا يمكن أن تبقى إلى الأبد. ويتم الانتقال في نفس المحور إلى نقاش "منظومة الحماية" التي فرضت على المغرب في "ظروف خاصة" وفي سياق الموجة الإمبريالية التي اجتاحت العالم في مطلع القرن العشرين. والحماية التي تم تقبلها في ظل "ظروف خاصة" لم تعد مقبولة بحكم عدم "وفائها" بالإصلاحات التي زعمت إدخالها على المنظومات الإدارية والاقتصادية والتي كان المغرب في حاجة إليها حسب عقد الحماية؛ بل حولت المغرب إلى مستعمرة يحكمها المعمرون بشكل مباشر دون إعطاء أدنى فرصة لأصحاب البلاد. والأكثر من ذلك، فقد عملت على تقسيم الوطن إلى أربعة أجزاء كما هو معروف إمعانا منها في تحقيق أهدافها الاستعمارية البعيدة المدى والتي مازال المغرب يعاني منها إلى اليوم، ويتعلق الأمر بالنزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية المسترجعة وحول أحقية ومشروعية الوحدة الترابية والسيادة الوطنية على كامل التراب الوطني. انطلاقا من هذه الحيثيات بالإضافة إلى مشاركة المغاربة في المجهود الحربي للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية بكل إمكانياتهم، ودورهم في الانتصارات التي تم تحقيقها، رأى المغاربة والوطنيون منهم على وجه الخصوص أن المغرب مؤهل للمطالبة بالاستقلال وتحقيق مطامحه المشروعة في التحرر والوحدة وتدبير شؤونه بنفسه. المحور الثاني: في هذا المحور من وثيقة 11 يناير 1944 تم الإعلان صراحة وجهرا بمطلب الاستقلال وذلك باستعمال لفظ "يقرر" وهذا اللفظ يحمل أبعادا تأسيسية وقانونية، إذ الذي يقرر هو صاحب السيادة، وصاحبها حسب الوثيقة -هو الشعب المغربي- الممثل في الوطنيين بقيادة العاهل المفدى، وقد اتُّخذ هذا القرار في دائرة النظام الملكي، ونجد أيضا في هذا المحور مطالبة الملك بالعمل على ضمان الاستقلال باعتباره ممثلا شرعيا للأمة وأن يتدخل من موقعه لدى الدول الموقعة على ميثاق الأطلسي لضمان هذا الحق، وهذا يقودنا إلى القول بأن الوطنيين هدفوا سحب البساط من تحت أرجل الإقامة العامة للحماية وطرح قضية استقلال المغرب في بعدها الدولي، وأن المجتمع الدولي مطالب بالاعتراف بهذا الاستقلال وخاصة تلك الدول التي شاركت قبل فرض الحماية عليه في المصادقة على قرار إدخال الإصلاحات على هياكله السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية، وهي الآن مطالَبَة بالتدخل لتحقيق الاستقلال وضمانه في مؤتمر الصلح. ويمكن تلخيص مضمون هذا المحور في النقط التالية: 1 – المطالبة بالاستقلال التام وتوحيد المناطق الأربع؛ 2 – المطالبة بضمانة هذا الاستقلال من قبل جميع الدول المعنية بالأمر؛ 3 – المطالبة بقبول المغرب ضمن الدول الموقعة على الميثاق الأطلسي؛ 4 – وجوب وضع دستور ديمقراطي؛ 5 – الإشارة إلى السلطان بصفته الملك. رسائل وثيقة 11 يناير 1944 للأجيال الجديدة والمتعاقبة: إن المتمعن في وثيقة المطالبة بالاستقلال ل 11 يناير 1944 والمتفحص لما بين سطورها، والمستنبط لدلالاتها وأبعادها ليجدها حبلى بالرسائل المباشرة منها والمشفرة، المصرح بها والملمح إليها والتي لم تنته بانتهاء الظروف التي كانت وراء صدور هذه الوثيقة التاريخية المتميزة، والتي يمكن إجمالها في ثلاث رسائل كبرى: 1 – الرسالة الأولى: النضال الوطني والالتزام بالميثاق التاريخي بين العرش والشعب: لقد تطور الوعي النضالي والحس الوطني للشعب المغربي الذي تدرج من الجهاد إلى قراءة اللطيف والتضرع إلى الخالق لرفع الضرر ثم إلى إعمال الفكر والوعي من أجل الانتقال إلى وضع مقاربة جديدة شكلت مرحلة راقية من مراحل مقاومة الاحتلال بطرق سيكون هذا الاحتلال بعد أقل من سنة هو الآخر مجبرا على القيام بنفس الفعل بعد الاحتلال النازي لفرنسا. لقد أنتجت وثيقة 11 يناير 1944 نمطا متحضرا وراقيا في طرح قضية شائكة لم يكن من الممكن طرحها أو حتى الحديث عنها قبل سنوات قليلة. إنها طريقة قارعت الفكر وساءلت المنطق واستفزت المشاعر وحركت سواكن الضمائر وألهبت المشاعر وأيقظت الشعور الوطني ولم يكن ليتغافل عنها إلا من في آذانه وقر أو على قلبه غشاوة. إنها وثيقة توثق لمرحلة متميزة من مراحل تطور الفكر النضالي المغربي وتجاسره، وشاهد مادي على أهمية النضال السلمي في بلوغ الأهداف والمقاصد مهما صعب منالها وشق على النفس انتزاعها. فوثيقة 11 يناير 1944 كانت الانطلاقة الفعلية للمطالبة باستقلال المغرب، وهو المطلب الذي تم التأكيد عليه من قِبَل سيدي محمد بن يوسف من خلال رحلته وخطابه التاريخي بمدينة طنجة في 9 أبريل 1947. فعندما شنت سلطات الحماية حملة الاعتقالات ضد الوطنيين الموقعين على الوثيقة المطالبة بالاستقلال، تبين من نتائج فعلتها أنها قد تصرفت على غير هدى وحادت عن جادة المنطق وخرجت عن منهاج الأمم المتحضرة التي ادعت أنها منهم وتمثلهم وجاءت حاملة لرسالتهم نحو المغرب وأي رسالة هذه يمكن أن يكون القمع والترهيب والنفي والقتل وسيلة لتحقيقها، فكانت كما تعلمون الانتفاضات الشعبية العارمة في كل من الرباط، آزرو، فاس، مراكش، سلا وغيرها من مدن وحواضر وبوادي وقرى المغرب. 2 – الرسالة الثانية: المساواة بين الجنسين ربما بالنسبة للجيل الحاضر يعتبر حضور المرأة في مجال أو ميدان ما أمرا عاديا لا يثير أي إشكال، وقد لا يثير الانتباه، خاصة وأن المرأة ولجت المعتركات السياسية وغمار الميادين الاقتصادية والاجتماعية بشكل مكثف منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمن، لكن النظرة ليست بهذه البساطة في مغرب الأربعينات من القرن الماضي، حيث المرأة كانت هي ذلك الجسد الملفوف في إزار، وتلك النفس البشرية التي لا يسمح لها بمغادرة جدران البيت -كما يتردد في الثقافة الشعبية- "إما لبيت زوجها أو إلى قبرها"؛ لقد كان زمنا عانت فيه المرأة من ويلات وتبعات أفكار طُرقية تقليدية موغلة في التخلف وغارقة في السذاجة، أفكار ومعتقدات ابتدعها أناس جهلة حكمت على المرأة بالانزواء خلف الجدران بدعوى أشغال البيت وتربية الأبناء وغير ذلك من الأوصاف القدحية. وفي هذه الأجواء التي سادت فيها هذه المعتقدات والبدع حققت المجاهدة المرحومة مالكة الفاسي الفرق وبمهارة يدها خطت ودونت اسمها على طرف وثيقة المطالبة بالاستقلال، وفي ذلك رسائل عدة: أولها؛ أن "الأسرة هي أصل كل إصلاح وتطور وتقدم" فالأمر الذي نحن بصدد التمعن فيه لم يكن ليتم لولا وجود إرادة قوية لدى أسرة المجاهدة المرحومة مالكة الفاسي لقبول الأمر والنظر إليه من وجهة نظر إسلامية متفتحة تنظر إلى الجنسين بأنهما متساويان في الحقوق والواجبات. وأُشَدِّدُ هنا على أن العبرة ليست بالعدد ولكن العبرة بالفكرة الرمزية وسمو المبدإ وبلاغة المعنى. كما أن وجود هذا العنصر النسوي كان القصد منه إرسال رسالة ثانية إلى من يهمهم الأمر آنذاك، وأعني بذلك سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية بالمغرب، بأن العنصر النسوي كان ولا يزال حاضرا في كل أطوار ومراحل كفاح ونضال هذا الشعب. أما الرسالة الثالثة لوجود اسم مالكة الفاسي من بين الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، فتتمثل في التأكيد على الامتداد التاريخي لحضور المرأة بالمغرب منذ أمد بعيد وفي مواقع لم تتبوأها في الدول الغربية إلا مع عصر النهضة والثورة الفرنسية، امتداد تاريخ المغربي الحافل بنسائه اللائي تقلدن مناصب هامة من قبيل الأميرة الأمازيغية "ديهيا" التي جابهت الفاتحين الأوائل عندما لم يحترموا سلطتها و"السيدة الحرة" زوجة أحمد المنظري حاكمة شفشاون ونساء قبائل آيت عطا اللائي كتب "جورج سبيلمان" عن مساهمتهن الفعلية في معارك بوكافر بانبهار كبير، وبعدهن النساء الشهيدات والمقاومات اللائي شاركن إخوانهن الرجال في حركة المقاومة والفداء. وقد أصدرت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بحقهن مجموعة إصدارات توثيقية وتعريفية لعل أهمها سلسة "المرأة المغربية في ملحمة الاستقلال والوحدة" في ثلاثة أجزاء. فالرسالة إذن، هي وجوب وجود المرأة في مجموع المواقع والمراكز وإعطاء المرأة حقها ومكانتها القمينة بها، والمبادرات المغربية في هذا الاتجاه كثيرة ومتعددة ووازنة واتخذت على أعلى المستويات. وهذا من أبرز الدلائل وأصحها على توصل الأجيال الحالية بواحدة من تلك الرسائل التي حملتها وثيقة 11 يناير 1944. 3 – الرسالة الثالثة: الوطن قوي في تنوعه وتعدده خلال تشريحنا لوثيقة 11 يناير 1944 والذي أوردته في مستهل محاضرتي هذه، كنت قد قدمت مجموع الأصناف الوظيفية التي ينتمي إليها الموقعون، فوجدنا من بينهم القاضي والعالم والمدرس والفقيه والتاجر، حيث لم يُمارس منطق الإقصاء بل كان منطق التواصل والتكامل، تكامل يظهر جليا من خلال لغة الوثيقة التي نجد فيها فصاحة وبلاغة، وفقها وقانونا وسياسة ودبلوماسية، وكل هذه الأمور لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبلغ ما بلغته في الوثيقة لولا تكاثف الجهود وتضافر المعارف، حيث مُحِصَت الكلمات وشُرحت وحُللت حتى يُفهم قَصدُها ومدلُولها كما فهمه الوطنيون عندما حرروها. فبرغم من تنوع المشارب الثقافية للموقعين وتباين اهتماماتهم الحياتية كان الوقع مبهرا، فالوثيقة أجبرت سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية على الرد، إذ كان ردها بعد أسبوع من تقديمها ليس عبر الحوار والتفاوض باللغة أو الكلمة بل استخدمت اللغة التي تفهمها، وهي لغة الرصاص والنفي والسجن والتعذيب وكل أشكال التهريب والتهديد. وقد تم الحرص في إعداد الوثيقة بالرغم من الانتماءات الجغرافية للموقعين، التي اقتصرت على منطقة الحماية الفرنسية، فقد تم إشراك عدد مهم من المدن وهي: فاسومكناس، الرباط، سلامراكشوآسفي، القنيطرة، الخميسات، الدارالبيضاء، سيدي قاسمووجدة. وفي ذلك إشارة إلى أن التمثيلية الجغرافية في مواقع القرار أساسية في المغرب، وهو النهج الذي تم اعتماده وإتباعه في مغرب ما بعد الاستقلال، حيث نجد في كل الحكومات وعلى رأس جل القطاعات كفاءات مُخْتَارَة حسب توزيع جغرافي يحفظ التوازنات الاجتماعية والجهوية، وتلك رسالة أخرى من رسائل وثيقة 11 يناير 1944، التي تم التقاطها والعمل بها، وهو ما أسس وعزز للمغرب هدوءه وأطفأ نار الفتنة وعصبية النعرة القبلية والانتماء الضيق الذي حاول المستعمر الفرنسي أن يشعل ناره عندما أصدر ما سمي بالظهير البربري التمييزي في 16 ماي 1930م؛ الذي لم يكن الهدف منه صون المقومات والخصوصيات الأمازيغية بل كان يهدف إلى إحداث الفُرْقَة والميز الإثني وأن يصبح المغرب شيعا وقبائل فتذهب قوته وريحه. وصفوة القول، فوثيقة 11 يناير 1944 مثال نادر في الممارسة الوطنية الإيجابية والحقة التي تدفع الإنسان عن قناعة وإيمان للسَّعْي دوما لجلب الخير العميم لوطنه ودفع المضار عنه بمقتضى العقل والحكمة والشرع والقانون. ووثيقة 11 يناير وما صاحب تقديمها من متاعب وما تعرض له الموقعون عليها من نفي واعتقال وما أنزل بالمتظاهرين الذين خرجوا عفويا لتأييد مضمونها من تنكيل وقتل تبين أن الوطنية الحقة تنصهر وتذوب فيها مصلحة الذات في مصلحة وخدمة الوطن، تلكم هي الرسائل التي نستخلصها من هذه الوثيقة. إن الأجيال الجديدة والناشئة هي في أمس الحاجة إلى تعريفها بتاريخ بلادها التليد الطافح بالملاحم والبطولات والزاخر بالأمجاد والمكرمات لاستقراء جوانبه وفصوله واستلهام قيمه وعبره وعظاته لتتقوى فيها الروح الوطنية وحب الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه وخدمته في مسيرات الحاضر والمستقبل. وإذ يدرك الجميع المكانة العلية لمسارات تاريخ كفاحنا الوطني، فجدير بنا ومن مسؤولياتنا جميعا أن نضطلع بمهام الاستطلاع والتمحيص في هذا الرصيد التاريخي بحمولته الثقيلة والرفيعة لنشره وإشاعته في أوساط أجيال اليوم والغد ليقفوا على مضامينه وفصوله وأبعاده ويتعرفوا على أمجاده وروائعه وما تختزنه من مبادئ ومثل عليا ومكارم الأخلاق وسمو المقاصد. بقلم: الدكتور مصطفى الكتيري المندوب السامي لقدماء المقاومين