إعادة فتح المؤسسات الثقافية والفنية، واستئناف الفعل الثقافي بعد ستة عشر شهرا من الإغلاق، عاشت فيها زمنا استثنائيا، تعني أن النهر سيستعيد ماءه معلنا الانتصار على حالة اليأس والخوف التي عمت بسبب انتشار الوباء. ففي وضع كالذي فرضه سياق الجائحة، كان من الصعب الحديث عن ممارسة ثقافية بالمعايير المتعارف عليها، لحاجتها إلى الانفتاح المتواصل على المتلقي ، واستعصائها عن أن تنحصر في قوالب رقمية تفتقد لمقومات الفرجة والإمتاع التي تتوفر في العرض المباشر . ذلك أن قرار إعادة فتح المؤسسات ذات الطابع الثقافي، وإفساح المجال أمام الفاعلين في الميدان لتنظيم تظاهرات ومهرجانات مفتوحة على الجمهور، يؤكد أن العودة إلى الحياة الطبيعية لا تستقيم دون النهل من ينابيع الفن بكل تعبيراته الشعرية والقصصية والموسيقية، وغيرها من ألوان الإبداع الإنساني. وبرأي عدد من المهتمين والفاعلين في الشأن الثقافي، فإن استئناف العمل الثقافي هو صورة من صور الإصرار على الحياة وتحدي الفناء ، معتبرين أن عودة المشهد الثقافي إلى حيويته السابقة عن زمن الجائحة بكامل ألقه وعنفوانه لكفيل بأن ينسي الجميع معاناتهم خلال فترة الحجر الصحي. وبهذا الخصوص، أشار الكاتب والناقد محمد علوط، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إلى أن الأيام القادمة ستكشف عن وجه آخر ومغاير للمنجز الثقافي، إذ رغم أن انتشار الفيروس فرض مشهدا استثنائيا، إلا أن الجائحة شكلت، برأيه، عامل تحفيز على الكتابة والنشر، بأشكال ومضامين مختلفة عما قبل زمن هذه الجائحة . أما الشاعر صلاح بوسريف، فقد أكد أنه بالثقافة يمكن أن نعيد للحياة الاجتماعية والثقافية نبضها من خلال قوة الفكر والإبداع والجمال. وذهب إلى أن استئناف تنظيم الملتقيات والتظاهرات والأنشطة المفتوحة على الجمهور تعكس رغبة جماعية في الانطلاق مجددا دون قيود، مجسدا القناعة التي يؤمن بها الجميع بأن "الوباء لا يمكنه أن يهزم الإبداع". وبالنسبة إليه، فهذا القرار يبين أنه لابد من إزالة الحاجز النفسي الذي يحول دون الاستئناف العادي للنشاط الثقافي، ملاحظا أن الحجر اليوم " لم يعد حجرا جسديا بل أصبح حجرا نفسيا، وهناك نوع من التردد وشعور بالخوف والتهيب ، وينبغي أن نتجاوز هذه الحالة ونقتحم الحياة مع الاحتياط طبعا عبر الحفاظ على الشروط الذاتية والموضوعية لتفادي كل ما يمكن أن يؤدي بنا إلى العودة إلى ما لا نرغب في العودة إليه". ما بعد كورونا، بلغة الإبداع، يؤذن بانتصار الحياة والأمل على الموت الذي غطت رائحته الأجواء، حاملا في طريقه أسماء مبدعين وفنانين تركوا فراغات يصعب سدها على غيرهم . فإن كان فيروس كورونا المستجد أجاد ممارسة هوايته في خلخلة المنظومات القائمة، إلا أنه دفع نحو التفكير في أشكال جديدة تضمن استدامة القطاع، وفي صيغ مبتكرة تتجاوز صور الإبداع فيها، حدود الأزمة. وهو ما يذهب إليه الكاتب والشاعر محمد بوجبيري، الذي لفت، في تصريح للوكالة، إلى أن "الالتقاء مجددا بالجمهور والمبدعين والأصدقاء، هو ولادة أخرى بعد جائحة فيروس كورونا المستجد، الذي كان يترصدنا يوميا". واعتبر أن فرحة تجدد الوصال مع الجمهور ستجد صداها بالتأكيد في النصوص التي ستقدم له، سواء أكانت نصوصا شعرية أم قصصية، وأيضا في مختلف صور الإبداع الفني، لتوثق للفرح " الذي استشعرناه ونحن نتجاوز هذه المحنة التي جعلتنا نلتزم بيوتنا قهرا". إن المحنة التي عاشها الفعل الإبداعي في زمن استثنائي بعدما طوقته الجائحة بخيوط الموت، تفرض فتح نقاش وطني، بمشاركة كافة المتدخلين في القطاع، بخصوص مصير العمل الثقافي وقدرته على التأقلم في حال حدوث ظروف أخرى مماثلة وشبيهة وبائية كانت أم غير ذلك. ويستمد هذا النقاش أهميته مما عاشه الفاعلون في الحقل الثقافي خلال فترة الحجر الصحي، بعدما خلق إغلاق الفضاءات والمرافق الثقافية من أروقة عرض ومسارح وقاعات سينمائية ومكتبات، ومنع تنظيم التجمعات، شعورا بالتوجس والخوف بشأن مآلات المشاريع الثقافية المبرمجة، أو التي تم تأجيلها في الموسم السابق بسبب حالة الطوارئ الصحية، وبالتالي يبقى السؤال حول قدرة المؤسسات الثقافية على مواجهة حالة الاستثناء قائما ومفتوحا . فمن الضروري، اليوم، بلورة سياسة استباقية لمثل هذه الوضعيات، فوقع الجائحة كان كبيرا، بعدما كسرت الزمن الثقافي، وخلقت في جداره هوة لن يشعر بعمقها إلا من اعتاد ممارسة الفعل الإبداعي، لتجعل من السنة الثقافية سنة كبيسة دون بهجة الإبداع. بهجة يستشعرها اليوم بفرح دون حدود عشاق الثقافة الذين افتقدوا كثيرا متعة معانقة الكراسي والتطلع إلى الشاشات الفضية وخشبات الركح وأروقة المعارض.