د. مصطفى يعلى كيف تتعايشون اليوم مع وضعية الحجر الصحي؟ + أولا، شكرا سيدتي الفاضلة على الاهتمام باستضافتي ضمن سلسلة حواراتك الجادة، واسمحي لي أن أبلغ من خلالك، امتناني إلى كل الإخوة في طاقم بوابة القصر الكبير، الفاعلة بجدية وحرفية في الإعلام القصري الرصين. أما فيما يتعلق بكيفية تعايشي مع وضعية الحجر الصحي، التي فرضتها جائحة كورونا؛ فلن أكون صادقا إذا قلت إنني لم أشعر بتأثير مفاجأتها المباغتة، وما فرضته من شروط حياة صعبة، خلال ضيافتها الثقيلة. ومع ذلك، فإنني أشكر عادة الاستمتاع بالقراءة والكتابة، ومشاهدة الأفلام العالمية الكلاسيكية، والاستماع للموسيقى الهادئة، والتواصل مع الأصدقاء عبر الانترنيت، والولع بالبستنة. ذلك أنني في طبيعتي كائن بيتوتي، كما قال نزار قباني في أحد حواراته التلفزية. فأنا عادة ما الزم البيت أياما وأسابيع، من غير أن أغادر إلى خارجه، دون أن يجتاحني الشعور بالضيق أو الملل. وهكذا خففت عني هذه العادة الحميدة تأثير وطأة الجائحة. – د.مصطفى يعلى ما هي الخلاصات التي تراها كفيلة بتنمية رصيدنا في الحياة من خلال تجربة الحجر؟ + أكيد أن تجربة جائحة كورونا ليست واقعا عاديا، بل إنها كارثة استثنائية، نزلت بالناس كل الناس، وفي جميع أنحاء المعمورة. لهذا لا يمكن أن تمر بلا أخذ العبر، أو استخلاص الدروس، أوالتفكير في تنظيم العلائق البشرية، بصورة أكثر تضامنا وعقلانية وإنسانية. وعليه، فإن البشرية معرضة لمزيد من الكوارث، إذا لم تستعد القيم النبيلة المتآكلة، وتمتلك الإحساس بمعاناة المرضى والمحتاجين، وتقدِّر الشرائح المضحية بجهودها ونفوسها في نكران ذات، من مثل الأطباء والممرضين الشرفاء، وتشجيع رجال التعليم على الدور التربوي المحمود، الذي يضطلعون به في صبر وتحمل، إلى جانب الاهتمام بالفعل الثقافي بكل أنواعه وميادينه في جدية وتشجيع بعيدين عن التوظيف الإيديولوجي والفولولكلور، ومراجعة نشاط البحث العلمي، مع تخصيص الميزانيات المطلوبة لتطويره، وأيضا تجديد علاقة رجال الأمن والجيش وأمثالهم بالناس، بصورة أكثر وطنية وإنسانية، وهلمي ذكرا وتقديرا لهذه الشرائح الوطنية النوعية، التي تعتبر من المدامك، التي تستند على أمثالها الأمم المتقدمة في تطوير مستواها الحضاري. من غير أن أنسى ضرورة الإنصات إلى نبض الرأي العام، والتعامل معه بشفافية وتفهم، والتخلي عن الاستهانة به، فالشعوب لا تجتمع على ضلال. كما لابد من الإشارة إلى خلاصة مصيرية، بالنسبة للإنسانية جمعاء، وتصب في كيفية بلورة صورة النظام العالمي الجديد. فهذه الجائحة قد أبانت عن مدى ما أصاب النظام العالمي الأحادي القطب، الناتج عن كارثة الحرب العالمية الثانينة، بقيادة الولاياتالمتحدة، التي خانت دورها الإنساني والحضاري، بسبب أطماعها الإمبريالية. لهذا فالتفكير في النظام العالمي الجديد، نتيجة جائحة الكورونا، ينبغي أن يضع في حسبانه تنظيم عالم متعدد الأقطاب وأكثر تضامنا وإنسانية. – د.مصطفى يعلى باعتباركم تشتغلون بالمجال الابداعي، كيف ترون مستقبل الابداع في ظل هذا الوباء؟ + يفهم من كثير من النظريات الجمالية والنقدية، أن الإبداع لا يستجيب للإحداثيات والمواقف بصورة انفعالية فورية، خلال اللحظات الآنية الساخنة، التي تمر بها تلك الإحداثيات والمواقف، إلا في حالات نادرة ولشروط خاصة. بل إن الإبداع يحتاج إلى وقت كاف لهضمها وتمثلها، والوعي بأعماقها ورموزها ودلالاتها، ومن ثمة تجسيدها في أجناس أدبية جميلة وإبداعات فنية مدهشة. أما فيما يتعلق بمستقبل الإبداع بعد جائحة كورونا، فقد تطالعنا بعض الإنتاجات الإبداعية المهمة، التي تتناول واقع جائحة كورونا وتأثيرها، ونبض الناس خلال الحجر، وما خلفته من مآس واختلالات ومشاعر وشكوك وتأملات وصور مروعة، وقد تكون نصوصا أدبية تنتمي إلى مختلف الأجناس الإبداعية، مؤسسة لاتجاه أو أشكال تعبيرية جديدة. في ارتباط بما جاء في آخر جوابكم على السؤال السابق، نسألكم د. مصطفى يعلى: سبق وأن عايش العالم في الماضي أوبئة فتاكة، فهل تركت بصماتها على الفعل الإبداعي؟. + بالتأكيد السيدة بنونة المحترمة، أن كثيرا من الأوبئة قد أثرت في الإبداع بصورة تكاد تكون جذرية. وهذا سؤال مهم طرحه بمناسبة جائحة كورونا. ذلك أن جوائح فتاكة عانت منها البشرية في الماضي، ومنحت الساحة الإبداعية الإنسانية أعملا مدهشة، وأسست لمستويات تعبيرية وأجناسية جديدة. وتحضرني هنا ثلاثة أمثلة دالة: المثال الأول، يذِّكر بمأساة مدينة فلورنسا الإيطالية، مع اجتياح الطاعون لأروربا، منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. فقد فتك هذا الوباء بسكان هذه المدينة الجميلة، بصورة مدمرة. وفي المقابل كان من حسن حظ الأدب، أن وجدت هذه المأساة في الكاتب الإيطالي الشهير جيوفاني بوكاشيو، المعبر البليغ عن تجليات ويلات الطاعون، فقد ارتفع هذا المبدع الاستثنائي بما عاشه وشاهده، من صور الذمامة والموت والأهوال الفظيعة، التي داهم بها وباء الطاعون مدينة فلورنسا؛ إلى إبداع عمل أدبي مدهش، سيكون له شأن قوي في الأدب الأوربي والعالمي، وخاصة على مستوى السرد، هو مجموعة (الديكاميرون) أو الأيام العشرة، متأثرا فيها إلى حد كبير ببنية ألف ليلة وليلة، إلى حد أن بعضهم قد سماها (ألف ليلة وليلة الإيطالية). ويمكن اعتبار (الديكاميرون) عملا أدبيا كان له الأثر الكبير في الفعل الإبداعي عموما والسردي خصوصا، بحيث يمكن الذهاب إلى اعتباره محطة تأسيسية، انطلق منها تطور فن القصة القصيرة الحديثة في أوروبا، إذ أن تأثيره كان حاضرا دوما في معظم المحطات المفصلية في مسيرة ذلك التطور. المثال الثاني، ويتعلق بما قيل عن تفشي الطاعون في وهران بالجزائر سنة 1940. وإذا صح هذا، بموازاة ويلات الحرب العالمية الثانية المأساوية، فإنه كان على المتتبعين لحركة الأدب، أن ينتظروا ظهور عمل جيد في مستوى الحدث، حتى بعد مرور سبع سنوات، حين صدرت الرواية الشهيرة لألبير كامو (الطاعون) سنة 1947. فكانت عملا طليعيا مبشرا بما سمي نقديا بالتيار العبثي في الأدب، وهو التيار الذي سيتعزز بجهود وجودية جان بول سارتر، حيث مثل فقدان الحياة لمعناها، مبدأ فلسفيا وجماليا جوهريا، لدى هذين الرائدين ألبير كامو وجان بول سارت. المثال الثالث، وهومثال عربي معروف، أقصد وباء الكوليرا في مصر، أواسط أربعينيات القرن العشرين، وما تركه من مآس وآلام وموت وآثار جسيمة. وقد ألهم حُزْنَ النيلِ الصارخِ، نتيجة اجتياح مآسي الكوليرا للشعب المصري؛ الشاعرة العراقية المعروفة نازك الملائكة، التي مزَّقَ شعورها ما فعلَ الموت بشعب مصر؛ بقصيدة حزينة تنبض صورها الآسية بمشاعر الألم، على ما أحدثه جنون الكوليرا بالناس في مصر، وما نشره من رعب، كما لو أن الموت ينتقم من البشر، بتسليط الكوليرا عليهم، بين أنات الحسرة وآهات الألم وصرخات الموت ونواح الثكل واليتم: استيقظَ داءُ الكوليرا حقْدًا يتدفّقُ موْتورا هبطَ الوادى المرِحَ الوُضّاءْ يصرخُ مضطربًا مجنونا لا يسمَعُ صوتَ الباكينا ولئن كانت (الديكاميرون) لجيوفاني بوكاشيو، قد أسست لتطور القصة القصيرة، واكتمالها في العصر الحديث، وكانت رواية (الطاعون) لألبير كامو مبشرة بازدهار التيار العبثي في الأدب المعاصر، فإن قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة، قد دشنت انطلاق اتجاه ما سمي في النقد وتاريخ الأدب المعاصر، بالشعر الحر أو شعر التفعيلة، معززة بما اجترحه مواطنها الشاعر الشهير بدر شاكر السياب بديوانه (أزهار ذابلة)، في نفس الفترة. – د.مصطفى يعلى نرى الآن مجموعة من الكتابات حول هذا الوباء، هل هذه الكتابات عارضة أم أنها تؤسس لمرحلة جديدة؟ + انطلاقا من الفهم الذي طرحته خلال جوابي على سؤالك الثالث، يمكن القول بصراحة، إذ أن المجاملة في مثل هذا الحقل تضر أكثر مما تنفع، إن ما نقرأه من بعض النصوص، أو نشاهده من اسكتشات وكاريكاتورات وما إلى ذلك، عن أثر فيروس كورونا، هو أعمال انفعالية غير ذات بال، خصوصا وأنها لا تخلو من مباشرة متسرعة، إن لم أقل من سطحية فجة. وبالطبع فأنا لا أعمم، إذ أن هناك دائما بعض الاستثناءات، التي تلفت الانتباه. فلنترك للمسقبل أن يكشف الغث من السمين، مما كتب حاليا حول جائحة كورونا، وننتظر ما سينتج عن هذه الجائحة المباعتة من أعمال إبداعية جيدة ومؤسسة. – د.مصطفى يعلى من زاوية نظر نقدية، هل تجربة الوباء يمكن أن ترفع من مقام الابداع الروائي والقصصي والشعري؟. + لماذا لا، إذا وجدت تجربة هذا الوباء المريرة بأوضاعها الكارثية، من الأدباء الأصلاء، من يحسن التعبير عنها تخييليا، وتجسيد نبض الناس تجاهها، ومعاناتهم المريرة تحت رحمتها طيلة الانحباس الاختياري أو الجزري، وفقدانهم الإحساس بالأمان والطمأنينة والاستقرار، فضلا عن تمثل رسائلها الدلالية العميقة، وترجمة رؤيتهم إلي آثارها وصور مآسيها الخ….. مما ينتج عنه أعمال إبداعية تجريبية تتجاوز مرحلتها، على غرار ما لمسناه في مجموعة (الديكاميرون) القصصية لبوكاشيو، ورواية (الطاعون) لألبير كامو، وقصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة. – د.مصطفى يعلى كلمة أخيرة. + لا يسعني سوى أن أكرر لك شكري للاستضافة الكريمة، من أجل تأمل واقع جائحة كورونا، وآفاق آثارها السلبية والإيجابية. وكذا أعبر عن امتناني للإخوة في طاقم موقع بوابة القصر الكبير، على ما يبذلونه من جهد وإخلاص مشكورين، للاضطلاع بالرسالة الإعلامية النبيلة على أصدق وأحسن وجه. شكرا لكم للاستجابة لموقع بوابة القصر الكبير .