في زمن استثنائي كالذي فرضه سياق الجائحة، يصعب الحديث عن دخول ثقافي بالمعايير المتعارف عليها، لاعتبارات تتعلق بطبيعة الممارسة وحاجتها إلى الانفتاح المتواصل على المتلقي، ولاستعصائها عن أن تنحصر في قوالب رقمية تفتقد لمقومات الفرجة والإمتاع التي تتوفر في العرض المباشر، أيا كان جنس المنجز الثقافي. فبالنسبة للفاعل الثقافي، ليس من السهل الإقرار بهذا المعطى، وإن كان واقع الحال يؤكد أنه، وعلى غرار القطاعات الأخرى، فقد مارس فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) هوايته في خلخلة المنظومات القائمة، والدفع نحو التفكير في أشكال جديدة تضمن استدامة القطاع، وانفتاحه على أشكال ثقافية مبتكرة تتجاوز صور الإبداع فيها، حدود الأزمة. فإغلاق الفضاءات والمرافق الثقافية من أروقة عرض ومسارح وقاعات سينمائية ومكتبات، ومنع تنظيم التجمعات، يضفي نوعا من الغموض على مآلات المشاريع الثقافية المبرمجة للموسم الجديد، أو التي تم تأجيلها في الموسم السابق بسبب فرض حالة الطوارئ الصحية، وبالتالي يبقى السؤال حول مشروعية الحديث عن دخول ثقافي جديد محتفظا براهنيته. وهو ما أكده الشاعر والكاتب الصحفي محمد بشكار، في حديث بهذا الشأن مع وكالة المغرب العربي للأنباء، بقوله «لا أعجب إلا ممن يتحدث عن الدخول الثقافي ونحن لم نخرج بعد كي ندخل، ألم ننظر للاحترزات التدبيرية كيف اشتد طوقها هذه الأيام مع اشتداد وتوحش الوباء، لنقل إن الوضع العام الذي خلخل السير الطبيعي لحياتنا الاجتماعية، ينعكس أيضا على الممارسة الثقافية». وأردف أنه «من طبع كتابا يخزنه طازجا في العلب الكرطونية كأي بضاعة كاسدة، ولا تجد له حسا أو خبرا على رفوف المكتبات(…)، كما حرم الكاتب من حقه المشروع في الفرح بمولوده بعد منع حفلات التوقيع، ولا يمكن حد (حصر) لقاء ثقافي أو فني في عشرة أنفار وإلا أصبح جنازة !». وتبعا لما طرحه من تعليلات تخص صعوبة الحديث عن دخول ثقافي كما هو متعارف عليه، يرى هذا الشاعر، رئيس القسم الثقافي بجريدة العلم، أنه «كما لا يمكن فصل الروح عن الجسد لتتحقق الحياة، يصعب الإقرار أن الممارسة الثقافية عن بعد أو افتراضيا عبر وسائط التواصل الاجتماعي، قد تعوضنا عن حرارة اللقاء مباشرة بكل الأشكال الثقافية ونحن نتنفس خارج الكمامة !». وفي السياق ذاته، اعتبر الكاتب والباحث الجامعي شعيب حليفي أنه خلال الموسم الجديد «لن تكون هناك لقاءات مباشرة، ولن تكون هناك منشورات بالكثافة التي كانت من قبل، لأن كل دخول مفترض هو مؤجل أو خجول، كما هو الشأن أثناء الحديث عن الدخول الاجتماعي والسياسي والجامعي». ولعل السمة التي ستطبع الممارسة الثقافية، خلال الموسم الجديد، برأيه، هي سمة «العمل عن بعد»، التي تم تجريبها سابقا خلال فترة الحجر الصحي، من خلال ندوات ولقاءات ومعارض افتراضية، معتبرا أنه «في كل محنة منحة، خصوصا لدى المؤلفين الذي تفرغوا لإنهاء مشاريعهم، وأعتقد أن ما سينشر لاحقا سيكون حاملا لبعض ملامح التحول القادم في الكتابة والمواضيع». وبدوره يقر بكر الصديقي، رئيس مؤسسة الطيب الصديقي للثقافة والإبداع، أنه «من غير الممكن الجزم بدخول ثقافي طبيعي وعادي في ظل الأزمة الراهنة التي مست كل القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية، ومن المتعذر علينا التكهن بمآل الأنشطة الثقافية في هذا الظرف غير المسبوق، فكفاعلين ثقافيين ليس لدينا أية معلومة عن إمكانية فتح الفضاءات الثقافية والفنية، فالثقافة في هذا الزمن الاستثنائي كانت بحاجة إلى دعم «استثنائي» أيضا من القطاع الوصي، غير أنه لحد الآن لا نمتلك أية معطيات دقيقة بهذا الخصوص». كل المشاريع تأجلت في ظل الجائحة، يضيف الصديقي، و»ننتظر إعادة فتح، ولو بشكل نسبي، للفضاءات والأماكن الثقافية على غرار ما هو معمول به في عدد من البلدان الأوروبية». هي إكراهات عديدة من بين الإكراهات التي تواجهها الدولة في ظل الأزمة الصحية، والتي بات من المتعين عليها تدبير استمرارية القطاعات الرئيسية بصيغة تضمن استدامة المرافق والأنشطة، والحفاظ على التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية، وللقطاع الثقافي نصيبه من الإكراهات التي تتطلب تفكيرا جماعيا للخروج من النفق. وعليه، كيف يمكن للفاعل الثقافي أن يحتال على هذه الأزمة ويستدرك الزمن الذي أهدر خلال الحجر الصحي، وبالتالي التأسيس لفعل وممارسة ثقافية تستجيب لإكراهات الحاضر؟. وفي هذا، يشير الصديقي إلى أنه «منذ بداية الحجر الصحي، شرع الفنانون في مبادرات افتراضية، شملت لقاءات وورشات ورسائل تطوعية، جسدت عن حق الروح الوطنية للفنان، وتطلعاته إلى مجتمع منفتح وواع بهويته وامتداداتها القافية والحضارية». وإن كان الفاعل الثقافي، حسب الصديقي، قد استدرك الزمن المهدور واستجاب لإكراهات الحاضر، إلا أنه لا تزال هناك العديد من التساؤلات التي تخص مستقبل المنظومة الثقافية والدعم المخصص لها، في انتظار تفعيل وأجرأة توصيات مناظرة الرباط حول «الصناعات الثقافية والإبداعية» لسنة 2019، والتي خرجت بتوصيات مهمة تتصل باستراتيجية النهوض بصناعة ثقافية وطنية، معربا عن أمله في انخراط القطاع الخاص للاستثمار في هذا القطاع. أما بشكار، فقد أشار ، من موقعه، إلى أن الفاعل الثقافي «لاذ منذ الحجر الأساسي إلى اليوم بأكثر من حيلة لتصريف ما تعود على إبداعه، فهو لم يستسلم «للحصار الكوروني»، تاركا الساحة الثقافية والفنية فارغة من عطاءاته رغم تضرره المادي والمعنوي». واستطرد أن «الكاتب بحنكته في التواصل الأدبي مع الناشرين يطبع كتبه عن بعد، والممثل كما المغني يفتح نافذة في اليوتيوب مستعينا بإمكانياته الخاصة في الإخراج والتصوير وكتابة السيناريوهات والكلمات، ولا يخلو أحد وسائط التواصل الاجتماعي من محاضرة أو ندوة مسبوقة بملصق إشهاري تعلن عن المشاركين وساعة البث، وتلكم بعض الحيل الفردية لمقاومة زمن كورونا ثقافيا». أما التأسيس لفعل وممارسة ثقافية تستجيب لإكراهات الحاضر، فيذهب إلى أنها «مسؤولية الدولة بوزاراتها التي تدبر الجائحة من جميع المناحي، ولا يجب أن تهمل قطاع الثقافة». فيما ذهب الروائي والاستاذ الجامعي شعيب حليفي إلى أن المتضرر الأكبر من الأزمة هو الأنشطة الثقافية المباشرة، من ندوات وورشات وعروض مسرحية وسينما ونشر، لأن الأمر في المغرب «لا يتعدى الهواية، فنحن لم نصل بعد إلى صناعة ثقافية تستطيع أن تنهض بطرق أخرى للحضور.. ونكتفي بأساليب التواصل عبر الانترنيت والتي ما زالت مربكة وتغلب عليها الخطابة عوض الحوار». وبالمقابل، اعتبر أن «اتخاذ قرار إلغاء دعم نشر الكتاب وإلغاء دعم الأنشطة الثقافية للجمعيات، زاد من تحجيم دور الثقافي في المجتمع خلال هذه المحنة، لذلك فإن مجهودات وإمكانيات الأفراد والجمعيات غير قادرة على تحقيق ممارسة ثقافية صحيحة في ظل هذه الإكراهات الصعبة». استقراء تمظهرات الفعل الثقافي في زمن الجائحة، وقدرته على التكيف مع تداعياتها، لا يمنع من طرح السؤال المؤرق بشأن المستقبل، ووفق أية معايير يمكن ملاءمة المنجز الثقافي مع الشرط الراهن، وتنزيل المشاريع المبرمجة. بالنسبة للباحث شعيب حليفي، فإن المثقفين والمبدعين لا يملكون «حلولا سحرية»، لأننا في مجتمع الثقافة فيه «ليست من الأولويات»، فضلا عن عدم الاهتمام بمجال البحث في العلوم الإنسانية لاعتبارات عديدة، وهو ما يحول دون الوصول إلى نهضة ثقافية بالمعنى المنشود. ليخلص إلى أن «المثقف المغربي هو مناضل يعمل في ظل شروط صعبة ويؤسس لقيمة المقاومة، ونحن ضمن هذه الفئة التي تقاوم من أجل ثقافة بديلة ومن أجل بحث علمي يخدم الإنسان والمجتمع». في حين أكد الصديقي أن كورونا أظهرت هشاشة القطاع، وأنه آن الأوان بالنسبة لنا كفاعلين ومسؤولين العمل المشترك من أجل خلق صناعة ثقافية تستجيب للتحديات، وتتناسب مع تعددية الروافد وغنى التراث الشفاهي والمكتوب، إضافة إلى حل مجموعة من القضايا العالقة لتحسين وضعية المثقف والفنان، وفي مقدمتها ملف التغطية الاجتماعية. وبعدما استعرض عددا من المشاريع الثقافية المؤجلة للمؤسسة، أشار إلى أنها قامت خلال فترة الحجر الصحي بإطلاق الموقع الالكتروني للمؤسسة، وإصدار مجلة ثقافية بمشاركة أقلام من داخل المغرب وخارجه تحت اسم «رواق»، مع مواصلة العمل على مشروعها الرامي إلى الحفاظ على ريبرتوار الراحل الطيب الصديقي. وبحسه المرهف، ولغته الدافئة، يقول بشكار إن « الشرط الراهن رغم الخوف من التقاط عدوى، يلائمني لأني زاهد في خطواتي، لا أحتاج أن أمشي بعيدا مخالطا الناس والكلمة قريبة تحت قلمي، أحتاج فقط أن أتغلب بعزيمة العمل على الكسل، وأجمع قصائدي في ديوان لايزال كأجمل ما في الحياة مؤجلا». ليعترف بصدق الناظم أنه ليس «من أصحاب المشاريع الثقافية المحفوفة بتخطيط مسبق، فمن يكتب الشعر ينتظره ليأتيه عفو الخاطر، أما إذا تجرأ وذهب إليه يهرب كغزال مرهف أحس بالخطر وهو يشرب في غدير».