يدعو الباحث الجامعي والسوسيولوجي إدريس بنسعيد، ل”بلورة سياسة عمومية مقبلة متشاور بشأنها، بعد أن وضعت “كورونا” القيم المجتمعية أمام محك جديد ووضعت الرابط الاجتماعي في موقع اختبار حقيقي، وبينت أن الأسرة والعائلة لا زالتا من بين أهم القيم المرجعية العليا في المجتمع”. ويرى بنسعيد، العضو المؤسس لمجموعة الأبحاث والدراسات السوسيولوجية بجامعة محمد الخامس ومنسق لأعمالها، في حوار مع موقع “لكم”، أن أجهزة الدولة تقوت منهجيا وتكرس ضعف المؤسسات السياسية والثقافية ووهنها في زمن “كورونا”، وأن مساحة الحقل السياسي تزداد ضيقا وتقلصا في مقابل اتساع مجال الطابو والمحرم، على أن خطورة تقوية الأجهزة وإضعاف المؤسسات تكرس عزوف الناس عن السياسة وتبخيسها لاتساع وتفاقم الفراغ السياسي”.
يؤكد بنسعيد على أن “أكبر خطر يتهدد الديموقراطية هو الفراغ، فعندما تضعف المؤسسات تصبح أجهزة ما هي من تلعب دورها، في وقت أعادت فيه الجائحة بقوة واستعجال مشاكل توزيع الثروة العدالة الاجتماعية والمجالية والضريبية للواجهة كأولويات لم تعد تحتمل التأجيل”. وينبه الأنتروبولوجي بنسعيد أن “المغاربة مستعدون للتخلي عن جزء من حريتهم الجسدية وحرية التنقل ولم تكن هناك مقاومة، لكن اتضح عبر ردود الفعل على نازلة 22.20 أنهم غير مستعدين بتاتا للتنازل عن حريتهم في الرأي والتعبير، خاصة عن حرية مكتسبة في الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي هم الذين أسسوا لها”. وفيما يلي نص الحوار: ماذا يعني لك الحجر الصحي؟ شخصيا، لم أشعر بتقييد كبير للحركة، لأنني تعودت منذ مدة البقاء في المنزل لمدة طويلة وتقسيم يومي وأوقاتي حسب برنامج لا يتغير كثيرا. أما بالنسبة للمجتمع ككل، يعتبر الحجر بمثابة اختبار حقيقي للعلاقات الاجتماعية والأنماط السلوكية التي ألفها الناس. نحن شعب متوسطي تلعب فيه لغة الجسد دورا كبيرا في التواصل وفي التعبير عن مواقفنا ونقل حرارة العلاقات الاجتماعية عن طريق اللمس المستمر والعناق وما شابه ذلك. إن الحجر تمرين حقيقي بالتزام مسافة معينة بين الأشخاص في الأسواق والشارع. وكان اختبارا نتمنى أن نستفيد منه جميعا، وأن نقنن له اجتماعيا في مستقبل الأيام. طرح الحجر الصحي مشاكل حقيقية لفئات اجتماعية واسعة اجتماعية، وساهم في إبراز واقع الهشاشة والتفاوتات الاجتماعية في أبشع صوره. فالحجر في فيلات أو شقق رحبة ستكون له بالتأكيد بعض الأثار المحدودة، لكن الحجر داخل “براكة” من20 مترا أو عمارة سكنية مكتظة ناقصة التجهيزات أو غرفة داخل سكن جماعي، فهي معاناة حقيقية. يتكيف الناس عادة مع مجالات الهشاشة السكنية باعتبارها مجالات للنوم فقط. أما خارج فترات النوم والراحة، فيخرج الناس للارتزاق أو لمجرد التنفس بمغادرة هاته الأحياء بكاملها. كشف الحجر الصحي، ومطالبة الناس بالالتزام الدقيق به، الكثير من الأعطاب والتفاوتات المجالية بين الوسطين القروي والحضري، وخاصة داخل الوسط الحضري بين أحياء المركز وأحياء الهامش والبؤس. كشف الحجر أيضا إكراهات حقيقية وأعطابا عميقة تعودنا تجاهلها. فلا يمكن الحديث عن عيش مشترك وعدالة اجتماعية، إن لم يتم استدماج حلولها في سياسات السكن الاقتصادي وسكن العالم القروي ومحاربة السكن غير اللائق، وضرورة إعادة النظر في السياسات العمومية المرتبطة بالتنمية ومحاربة الفقر واحتواء الهشاشة الاجتماعية. ومن بين الإجراءات التي لم أفهم أسبابها جيدا، توقيت توقيف الإصدار الورقي للصحافة، وهو ما ساهم في تعميق أزماتها إلى حد تهديد إمكانية استمرار العديد من الإصدارات بعد الجائحة، ويدفع إلى التساؤل عن العلاقة ما بين هذا القرار وبين مشروع قانون 20.22 سيء الذكر. ما الذي تمارسه خلال الحجر الصحي وتنشغل به؟ بالإضافة لتدبير اليومي والمساهمة في الأشغال المنزلية، خاصة الطبخ، أنشغل منذ فترة في القيام بعدد من الأعمال المؤجلة بالإضافة إلى تتبع النشرات الاخبارية، وليس إلى حد الإدمان، في قنوات مغربية وأجنبية لمعرفة ما يجري في العالم. الحجر كذلك فرصة لترتيب عدد من الأشياء، منها ترتيب الكتب والوثائق، وأكثر من ذلك للعودة لقضايا وتساؤلات مسترسلة أو راهنة أو كانت مؤجلة. أستثمر فرصة الحجر سواء لإعادة قراءة أعمال أدبية ذات علاقة بالزمن كرواية “أوليس” لجيمس جويس كما أعدت قراءة راوية 1985″جورجل أوريل” في ترجمتها الفرنسية بعد أن كنت قد قرأتها منذ أزيد من أربعين سنة في ترجمتها العربية، وكما قرأت “موت صغير” الفائزة منذ سنتين بجائزة البوكر لحسن علوان، وهي رائعة، لحمتها السيرة الذهنية لابن عربي. بالنسبة للقراءات في مجال اهتمامنا الأساسي، فقد وجهتها أسئلة الحجر كتقييد لحرية الجسد وتحرر متعاظم من قيود الفكر. وقد فرض علينا الحجر أسئلته الخاصة، وكانت واقعة مشروع القانون 22.20 في مقدمته، إذ كيف نطمح لتعزيز الحريات، وفي مقدمتها حرية الرأي، وتوسيع دائرة النقد والسؤال وتأسيس تعاقدات اجتماعية على قاعدة الديموقراطية والمشاركة السياسية، وهي ” مسلمات” اكتشفنا أنها غير محصنة ويمكن لأي نص أن يطيح بمكتسبات أجيال من النضال من أجل التنوير وتوسيع دائرة الحريات، على رأسها حرية الفكر، ناهيك عن تعالي أصوات تصدر هنا وهناك تتساءل عن جدوى الديمقراطية نفسها تنتفي الحاجة إليها باعتبار أن مجتمعنا لا يزال بالأحرى في حاجة إلى نوع متقدم من الأبوية و” الاستبداد العادل”، وهي أسئلة أعادت الجائحة طرحها ووجدت لها كبير الصدى في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة احتلال أجهزة الدولة بالكامل الصف الأول ، وتواري أو تهميش المؤسسات الأخرى المؤسسات الأخرى، سواء الحكومة كمؤسسة دستورية ذات صلاحيات مسؤوليات محددة أو الأحزاب السياسية كمكون بنيوي أساسي لاشتغال أي نظام ديموقراطي. دفعنا هذا السياق، وربما مرغمين، إلى إعادة قراءات أساسية تحول الجذور الاجتماعية للديموقراطية والديكتاتورية. فأعدت قراءة كتاب عالم الاجتماع الفرنسي “ألان تورين ” ما الديموقراطية؟، وهو كتاب ساءلني كثيرا رغم أنني سبقت لي قراءته في سياق آخر واستعداد فكري مختلف. لكن السؤال الذي ألح عليه هو ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف خلال الجائحة؟ وما هي مساهمته المفترضة وقد تم استبعاده من الصف الأول في الإجابة عما طرحه الوباء من أسئلة وما كشف عنه من اختلالات؟. وهل ينخرط كفاعل مباشر ومحفز للنقاش العمومي أم يحافظ على المسافة الاعتيادية مع الواقع التي يفرضها الخطاب الأكاديمي أم يمارسهما معا، على اعتبار أن لكل ممارسة ضوابطها الخاصة؟. عدت، وربما للمرة الرابعة، إلى نص قصير وملهم هو “رجل العلم ورجل السياسة” ل “ماكس فيبر” في زمن جائحة تسهل، ربما الخلط في المعاني والمفاهيم. كانت الجائحة إذن فرصة للتأمل في الشأن الثقافي والسياسي بطريقة أو بأخرى،يطرح فيه من ضمن ما يطرح الدور الذي يلعبه المقدس في تدبير أو إعادة ترتيب علاقات اجتماعية واستعدادات فكرية، خاصة تحت شرط الجائحة وظروف رمضان. ما همنا في الدين والمقدس هو الشروط الاجتماعية والترتيب الفكري الذي يؤدي إلى تحول رجل الدين إلى رجل سياسة، دون إقامة أي انفصال أو حدود ما بين الدين والسياسة، الدنيوي والمقدس؟. وتلك من أهم التحديات التي تواجه المجتمع أو الفكر العربي أو الإسلامي باستمرار. كان من الضروري بالنسبة لي العودة إلى بعض القراءات “الإستراتيجية”ومن ضمنها، بالنسبة لي، من قبيل كتاب “فجر الإسلام” لأحمد أمين في مقاربته الأنتروبولوجية الفلسفية القوية التي يدقق فيها اللبنات الأساسية التي تأسست عليها “باراديغمات” العقل والسياسة في الفكر الإسلامي. كانت الفرصة سانحة كذلك لمحاولة فهم القضايا الجديدة المتعلقة بظهور مجتمع جديد كل الجدة، هو المجتمع الافتراضي، نعيش فيه جميعنا، خاصة الشباب بكيفية شبه كاملة في الانسلاخ المستمر من العالم الواقعي إلى الافتراضي. نحن أمام عالم جديد نلك جميعنا مفاتيحه (الهواتف الذكية) غير أننا لا نعرف كيفيات اشتغاله، ولا نعرف تماما القيم الجديدة التي ينتجها افتراضيا، خاصة ما تعلق بالرأي والسياسة والحرية والمقدس. نحن إذن أمام عالم بجغرافية واستراتيجيات لم نفهمه بعد، وبنفس الكيفية وأمام جيل جديد من “المفكرين”، وهم المؤثرونLes influenceurs في الرأي العام، يتابعهم الآلاف وربما الملايين في الحسابات الدولية. وما هي الإمكانيات التي تتيحها “الغفلية”Anonymat، ناهيك عن الإمكانيات العلمية المعرفية الكبيرة المتاحة وما يقابلها من أفكارجديدة. عدت لقراءة فصول من كتاب “كاسكطورياليس”، وهو فيلسوف وأنتروبولوجي يوناني في كتابه “الإنتاج المخيالي للمجتمع” صدر في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تظهر الأنترنيت، غير أن المقاربة تتساءل عن الكيفية التي ينتج بها المجتمع أو يعيد إنتاج خياله المشترك وقواعده السلوكية. ما قراءتك لما يجري في مغرب اليوم؟ كشفت أزمة كورونا عن إمكانيات كثيرة كامنة في المجتمع المغربي. أولا، كشفت أن علاقات التضامن والتآزر، خاصة العائلية والقيم المرتبطة بها لازالت تلعب دورا أساسيا. كشفت أيضا عن الطاقات الهائلة وغير المستغلة التي للشباب، وما ظهر من مساهمات وإبداعات فكرية وتكنولوجية وعلمية ومبادرات ينظمها الشباب في إطار المجتمع المدني. وبينت بالملموس أننا وإن كنا لا نتوفر على ثروات باطنية وطبيعية كثيرة فمكمن قوتنا (أو ضعفنا) هو العنصر البشري، خاصة الشباب. فرضت الأزمة إكراهات تدبيرية على الدولة والأسر والمجتمع. وهاته الاكراهات لا يمكن تحملها لمدة طويلة خاصة أننا أمام وباء لا نعرف عنه أي شي ولا مآله. في المغرب، كشفت هذه الأزمة وعرت أعطابا مؤلمة، منها عطب السكن وأحزمة الفقر وسياسة المدينة والمجال العام بصفة عامة، الذي ينبغي إعادة النظر فيه، واعتبار إشكالية السكن وتدبير المدينة لا تحل بالبناء والتشييد بوحدات سكنية فقط، بل بإعادة امتلاك المجال من قبل ساكنته اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وهو بعد غائب في سياسة المدينة التي ترتكز أساسا على البناء والتشييد. يتضح أن هذا النوع من المعمار يحل مشكل السكن اللائق جزئيا، لكنه يكون مصدرا لإنتاج توترات وإبراز تفاوتات أو أعطاب تظهر أكثر حدة وتفتقد لأبعاد اقتصادية واجتماعية، ويصبح مجالا لإنتاج التوتر بامتياز، سواء منه السياسي أو الاجتماعي. درس آخر نستخلصه من هذا الوباء، يتعلق بتعزيز العيش المشترك. فكلنا أو معظمنا يطمح لمجتمع الديمقراطية والحداثة والتقدم والعدالة الاجتماعية. وهو ما يقتضي وجود دولة مهيكلة وقوية. كشفت كورونا عن عطب سياسي هام، إذ أن الاستثمار في العقود الأخيرة كان استثمارا في أجهزة السلطة وأذرعها في مجالات مختلفة. أن تتوفر الدولة على أجهزة قوية فهذا أمر حيوي، لكن الملاحظ أن تقوية الأجهزة بكيفية منهجية وتكريس ضعف أو إضعاف المؤسسات السياسية والثقافية، ناهيك عن الوهن الداخلي الذي تعاني منه الأحزاب السياسية عائق أساسي أمام بناء مجتمع الديموقراطية ودولة المؤسسات. فلا ديمقراطية يبدو من دون هيئات ووسائط تؤطر الرأي الخاص وتحولها إلى رأي عام. إن إضعاف المؤسسات الأحزاب هو إضعاف لممارسة الشأن العمومي وتداول السلطة، سواء بالنسبة للحكومة أو الأحزاب أو الصحافة أو المجتمع المدني، فإن مساحة الحقل السياسي تزداد ضيقا وتقلصا، في مقابل اتساع مجال الطابو والمحرم الذي تحاول قوانين جديدة شرعنته باستمرار. خطورة تقوية الأجهزة وإضعاف المؤسسات تكرس عزوف الناس عن السياسة وتبخيسها والارتياب منها. وهو ما يمهد ويؤسس لاتساع وتفاقم الفراغ السياسي، علما بأن أكبر خطر يتهدد الديموقراطية هو الفراغ. فعندما تضعف المؤسسات فمن الطبيعي أن تصبح أجهزة ما هي من تلعب دور هاته المؤسسات، وتؤدي بالمجتمع سياسيا إلى الفراغ، وظهور حركات أو أفكار وممارسات متطرفة أو أجهزة تتحول إلى أدوات حكم، وذلك هو الشارع العريض المؤدي للدكتاتورية. درس ثالث يمكن استخلاصه بصدد الثروة الوطنية، ولا أضيف جديدا إن قلت إن الجائحة أعادت بقوة واستعجال مشاكل توزيع الثروة العدالة الاجتماعية والمجالية والضريبية للواجهة كأولويات لم تعد تحتمل التأجيل. لقد اتضح بما يكفي أن الحلول التقنية ذات البعد الواحد، واعتبار التنمية مسألة اقتصاد ومالية قد وصلت إلى مداها وأثبتت فشلها وقصورهاك “نموذج”ّ. ذلك أن التنمية بمعناها الكامل لا يمكن أن تشتغل خارج نموذج المشاركة والديمقراطية وحقوق الإنسان ويتعذر ولوج عتبتها دون استدماج الأبعاد الثقافية والسياسية. لا تعني التنمية زيادة في المداخيل والموارد وترشيد النفقات، بقدر ما تعني استثمارا متوازنا في القطاعات كلها، ليس بطريقة عمودية، بل بطريقة أفقية متفاعلة وبمواكبة مع الاستثمار في الموارد الثقافية وتعزيز الحياة السياسية وإصلاحها، وإعادة المبادرة للشباب في سبيل تأسيس رابط جديد اجتماعي جديد حسب شروط اقتصاد المعرفة ومركزية العالم الافتراضي والتكنولوجيات الحديثة. أشرت إلى أن المغرب به فراغ سياسي. هل لأن الأحزاب ضعيفة أم مهمشة خلال فترة الجائحة؟ هذا بديهي في تدبير هاته الجائحة. فبقدر ما نشيد بأجهزتنا كاملة واستباقيتها ونقاعتها، بقدر ما نقف على ضعف الحمولة السياسة وضعف المؤسسات البين. مثلا، التواصل مع المواطنين جيد من الناحية التقنية حيث تقدم مديرية الأوبئة أرقاما وترصد تطورات. لكن أين هو التواصل السياسي للأحزاب والحكومة؟، ما موقفها وتقييمها للوضع؟، كيف تتصور مستقبل ما بعد “كورونا”؟. هذا نقاش يدور في الكواليس ولم تخرج الحكومة به للعلن، باستثناء الخرجتين الشهريتين للعثماني، ولوزير الصحة مرتين أو ثلاثة، وتغييب دور الجهة كمؤسسة دستورية واستبعاد الأحزاب، باستثناء ظهور بعض زعمائها في التلفزة لبضع ثوان خضعت لمنطق الوصلة الإشهارية. هناك مؤشرات مقلقة وليس هناك مراقبة مؤسساتية حقيقية. لا أفهم كيف تسنى للعقل السياسيّ التفكير في مشروع القانون الشهير 22.20 وطرحه في هذا الظرف في ظروف مريبة. المغاربة مستعدون للتخلي عن جزء من حريتهم الجسدية وحرية التنقل ولم تكن هناك مقاومة تذكر لذلك، لكن اتضح عبر ردود الفعل على نازلة 22.20 أنهم غير مستعدين بتاتا للتنازل عن حريتهم في الرأي والتعبير، خاصة عن حرية مكتسبة في الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي هم الذين أسسوا لها. حركة المقاومة الاستهجان التي انطلقت دفعة واحدة، دون تنسق ظاهر، هي في منطقها وكيفية اشتغالها نفس الآليات التي اشتغلت بها المقاطعة نفسها التي حاول مشروع القانون المؤجل منع عدم تكرارها. ما الذي يجعل الدولة خلال الأزمة لم تلجأ للاستدلال بالمرجعية الدينية كما دأبت على ذلك؟ إذا أرنا أن نشتغل في المجال السياسي بالمرجعية الدينية فسوف تسيء للدين وللسياسة معا. ما وقع مثلا من محاولة استغلال الدين سياسيا في تدبير الجائحة السياسة شمال المغرب بداية الحجر الصحي بقراءة اللطيف تكشف هذه الآلية، وأن المقصد السياسي البحث عن توسيع قاعدة مشروعية الإسلام السياسي بعيدة عن القصد الديني والعقائدي. فالناس يصلون في منازلهم ويمارسون شعائرهم ويتبعون التعليمات الصحية دون خلط بين العقيدة والمقتضيات الطبية والصحية. أهم ما يؤرق الدولة في هذا المجال هو صعود إسلام سياسي غير مقنن ورافض (مكفر) لقواعد اللعبة الديمقراطية، وتحول فصائل منه حلول راديكالية، وفي مقدمتها الإرهاب. ومن ثم الموقف الصارم لأجهزة الدولة وكثير من العلماء المدركين لخطورة المزج ما بين الدين والسياسة وما بين الرأي والعقيدة. كيف ستؤثر التجربة الحالية على عيشنا المشترك؟ التشبيه الذي راقني في هذا الباب هو أن كل حقبة جديدة تبدأ بتاريخ حسب قواعد جديدة. 2020 سنة كورونا هي في نظري سنة الصفر، كان لها ما قبلها وسوف تفتتح تاريخ ما بعدها. الدروس التي يمكن استخلصناها نتمنى أن نلمسها في سياسة عمومية مقبلة متشاور بشأنها. ستكون لكورونا بالتأكيد آثار وتبعات اقتصادية وثقافية واجتماعية مستدامة، من ضمنه إعادة ترتيب سواء داخل الأسرة الواحدة أو ما بين الأجهزة والمؤسسات أو ما بين العالمين الواقعي والافتراضي، ناهيك من أن “كورونا” وضعت القيم المجتمعية أمام محك جديدة، ووضعت الرابط الاجتماعي في موقع اختبار حقيقي، وبينت أنالأسرة والعائلة لا زالتا من بين أهم القيم المرجعية العليا في المجتمع.